الجدل سمةٌ رئيسة في الفكر والأدب الصوفيين، تجلّى فيهما ما يمكن تسميته الثنائيات المتناقضة، أو المتضادة ، وهي ثنائيات عاناها الفكر الصوفي، وجسّدها في نصوص أدبية، ولعلّ المنشأ الأصل لهذا الجدل، هو طبيعة الوجود البشري، فهو مجموعة لا متناهية من الثنائيات المتناقضة (حياة وموت)، و(حزن وفرح)، و(بداية ونهاية)، و(روح وجسد)، والمعروف يدفع الصوفي إلى اختراق المجهول واكتشافه، وهو موطن جمالي من حيث كون الشيء يتضح أكثر من خلال نقيضه، فسمة الحياة تبرز بمقارنتها بالموت، وسمة الموت تبرز بمقارنتها بالحياة، وهذا الجدل الكوني على صعيد الفلسفة الصوفية، تمّ التعبير عنه باللغة بوساطة الطباق والتضاد، الذي يحقق للأدب الصوفي جمالية خاصة، تكمن في اتحاد المتناقضات، وفي التقريب بين بعيدين.الجدل الصوفي هو تجربة الإسلام في التغيير، والبحث عن مثل أعلى يتجاوز التركيب الجسدي الروحي، من خلال انسجام حاولت خلقه التجربة الصوفية، وهو انسجام الذات الفردية مع الموضوع الخارجي (العالم)، وهذا ما تمثله فطرة الخلق الإنساني المتمثِّلة بثنائية الروح والجسد، التي تعدّ أصل الثنائيات كلها، وعليها يتأسس صراع الأضداد.الجانب الروحي في الإنسان هو جانب إلهي، ومن ثم فإن صراع الروح والجسد في التجربة الصوفية المتعالية، لا شك سينتهي لمصلحة الروح، وسيهزم المعنى المادة، وهذا هو هدف الصوفيين، ويرى بعض النُقّاد أنّ الصوفييّن بِجدلهم هذا قد سبقوا الديالكتيكيين المثاليين بمئات السنين.تجلّى الديالكتيك الصوفي بمذاهب فلسفية عديدة ابتكرها الصوفيون مثل (وحدة الوجود) و(الإشراق، و(الحلول)، و(الوحدة المطلقة)، وتلتقي هذه المذاهب على اختلاف بعض تفاصيلها الدقيقة، حول فكرة تبادل المواقع بين الإنسان والله، فالفهم الديالكتيكي للكون والإنسان أساسي لدى الصوفيين، لأن الديالكتيك ـ وحده ـ كان الحل لأزمة وجودية يعانيها الصوفي، هي أزمة الفرق والبعد، فالديالكتيك منحهم الجمع والقرب، والتوحيد بين وجود الله المطلق، ووجود الإنسان النسبي.ثمة منطلقٌ نفسي للجدل في الفكر الصوفي هو أزمة وجودية، أزمة الاغتراب في الكون الذي يحبونه طوراً، لما فيه من جمالٍ نابع عن جمال خالقه، ويرون فيه جنةً خاصةً لإيمانهم، ويكرهونه طوراً، لما فيه من آلام وأحزان ونفي وغربة في سجن الوجود، وكأنهم مطرودون من جنتهم التي يحملون منها ذكرى الصمت والأمان والخلود، فهم في حنين دائم للرجوع إليها، ما دفعهم إلى ابتكار مفهوم خاص للرجوع، هو مفهوم معنوي لا مادي، عودة إلى ذواتهم بحثاً عن الجنة المفقودة، وعن الله فيها.إنّ ثنائية الله والإنسان، هي أهم جدلية صوفية، ففيها تمت أنسنة المطلق، وتنزيهه في آن معاً، ومن هذه الثنائية انبثقت رموز المعراج، والاتحاد، والحلول... إلخ، وكلها تدور في فلك واحد هو لقاء الإنسان بالله، لذلك أُلِّفت ملاحم صوفية رائعة في الأدب العربي وخارجه، بغية التعبير عن هذا اللقاء ووصفه، كقصص المعراج الرمزية، ومنها قصة (معراج أبي يزيد) التي يُصّور فيها أبو يزيد البسطامي طيراً يحمله إلى السماء فيصف ما يراه، وقصة (معراج محيي الدين بن عربي) بعنوان (الإسرا إلى المقام الأسرى)، وفيها يتحدث عن العلاقة بين الحق والخلق باستخدام التشبيه والتمثيل، واستعمال ألفاظ المجاز الغامضة؛ مثل التجلي في المرآة، والتخلّل والسريان في الوجود، ومنها أيضاً قصة (منطق الطير) لفريد الدين العطار، وتُصّورُ رحلة طائر السيمرغ مع باقي الطيور إلى الله.يرى الدكتور نصر حامد أبو زيد أنّ الهدف من جدلية الله والإنسان، هو إظهار حقائق الألوهة، في صورة غيرية، فالله ليس في حاجة إلى الإنسان، كما عبّر الدكتور أبو زيد عن هذه الجدلية تعبيراً آخر أيضاً، هو الثبات والتنوع، فللألوهة باطن ثابت، لأنها الذات الإلهية؛ وظاهر متنوع لأنه أعيان صور الموجودات؛ وللإنسان ظاهر ثابت، لأنّه حِسّي، وباطن متنوع بتنوع مشاعره .فسَّر أدونيس الجدل عامةً بالهروب من الواحد المفرد، إلى الاتحاد بالآخر، ففي الواحد جمود وثبات، وفي الاتحاد حركة وتنّوع، ورأى في الجدل جوهر الإبداع: (إنّ التفكير بالوحدة المفردنة، بالواحد الأحد، تكرار مستمر، ومثل هذا التفكير يؤدي إلى نفي الفكر، وقد أضافت التجربة الصوفية إلى الوحدة مفهوم اللانهاية أي الاحتمال والصيرورة، وهكذا صار الوجود حركيّاً، يتحول باستمرار بينما صورتُه بحسب مفهوم الواحد ثابتة باستمرار) ، وجدل الأضداد وصراعها يُمثِّل الواقع العبودي الذي يعيشه الإنسان على الأرض، وما الحلم الصوفي إلا التحرر من هذا الواقع بالعيش في السماء،وتجاوز التضاد بوصفه صراعاً إلى الاتحاد، بما يمثل من أمان وسلام وطمأنينة ودوام.معظم الثنائيات الصوفية ثنائيات مولدة إذا صح التعبير، وهذا التوليد لغوي بحت، فالمضمون الفكري فيها واحد، مهما تعددت أسماؤها، فجدليّة الموت والحياة مولّدة لجدليّة الستر والتجلي، ولجدلية الفناء والبقاء أيضاً، وجدلية البعد والقرب مولدة لجدلية الفرق والجمع، والغيبة والحضور.. إلخ، وقد عبَّر الصوفيون عن هذه الثنائيات المتناقضة تعبيراً أدبياً، على الرغم من كثافة المضمون المعرفي فيها، وطابعه الفلسفي باستخدام وسائل فنية بديعية، كالطباق، و الجناس، وبيانية كالتشبيه، والكناية، والاستعارة.