ميخائيل عيد من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2004 المدينة تخرج من أسوارها وقف سامر وسط السهل الفسيح وأرسل نظره نحو المدينة. لقد غادرها صبياً، وهاهو ذا يعود إليها شاباً قوياً وجميلاً. بدت لـه المدينة مثل قبة ضخمة تلمع تحت أشعة الشمس الغاربة الواهنة. استغرب منظرها وخاطب نفسه: هل ضللت الطريق؟ المدينة التي ولدت فيها وأحببتها لا تشبه هذه المدينة التي أمامي في شيء!...ثم نظر حوله وفكر: الجبل هو الجبل والكروم هي الكروم.. تلك هي غابة السنديان وذاك هو التل الحبيب الذي كنت أمضي إليه عند غروب الشمس وأرقب من فوقه رجوع الحصادين والرعاة وقطعانهم إلى المدينة.. كانت أغانيهم العذبة تملأ السهل وتتسلق سفوح الجبل.شعر سامر بغصة عذبة صعّدها صدره الشاب تنهيدة حارة وأحس كأن نسمة خفيفة تحمله بيد سحرية إلى زمن طفولته العجيب الحبيب، فتنهد بحرقة هذه المرة وشعر بالأسى، وتعالى من أعماقه صوت هتف به لائماً: كان ينبغي ألا تغادر هذه الأماكن!قال سامر بصوت مرتفع وكأنه يرد على الصوت الداخلي:ـ لقد دفعت الثمن اشتياقاً كاوياً وحنيناً موجعاً وندماً شديداً وها أنذا عائد لأصحح غلطتي تلك.وتقدم سامر باسطاً يديه وكأنه يريد احتضان مدينته التي تلوح بعيداً في السهل الفسيح مثل قبة لامعة.صارت دهشة سامر تكبر وتكبر كلما مضى قدماً باتجاه المدينة. فالمدينة، هي في الواقع، على شكل قبة ملساء مغلقة، الدروب التي كانت تصل إليها من الجهات كلها صارت تدور حولها لتلتقي في درب عريض ينتهي إلى ما يشبه الكهف القاتم ولـه أبواب حديدية مصمتة تغلق فلا يرى من في الداخل شيئاً خارجها ولا يرى من في الخارج شيئاً داخلها.حين اقترب سامر من ذلك الباب الضخم سمع صوتاً يهتف به:ـ قف مكانك وارفع يديك عالياً!وقف سامر مضطرباً من غير أن يرفع يديه فصاح به ذلك الصوت:ـ قلت لك: ارفع يديك. ألم تسمع؟ قال سامر:ـ بلى سمعت. ولكن ما الداعي إلى ذلك؟ ـ لا تتفلسف. الأوامر هي الأوامر.رفع سامر يديه فتقدم منه شاب يحمل سلاحاً وفتشه جيداً ثم سأله:ـ من أنت؟ وماذا تريد؟ ـ اسمي سامر وأريد الدخول إلى مدينتي.ـ تقول مدينتك ولا تعرف القوانين التي تنظم الدخول إليها والخروج منها!قال سامر:ـ حين كنت في هذه المدينة لم تكن "القوانين" موجودة. كانت مدينتنا بلا أبواب. لأنها كانت بلا قبة كهذه..ـ هذا يعني أنك تعيش في الغربة منذ زمن بعيد جداً.ـ أجل. لقد غادرت هذه المدينة منذ زمن بعيد.. ولولا ذلك الجبل وتلك الغابة، وخاصة لولا ذلك التل، لما عرفتها ولعدت أدراجي وأمضيت حياتي غريباً.سأله الحارس المسلح:ـ ومن يثبت لنا أنك لا تكذب؟ ـ وما الذي يدعوني إلى الكذب!ـ لا أدري. فقد تكون صادقاً وقد تكون كاذباً. قد تكون جاسوساً أرسله الأعداء متنكراً أو قد تكون من أولئك الناس الذين يسمون الجنون حكمة.. لقد تسلل بعضهم إلى مدينتنا وحاولوا إفساد عقول أهلها وتخريب أنظمتها المقدسة.توقف الحارس عن الكلام وضحك ضحكاً صاخباً.دهش سامر وسأله متلطفاً:ـ ما الذي يضحكك؟ ـ تذكرت سحنة أحد هؤلاء. كان رجلاً يدّعي الوقار ويتظاهر بالمهابة.. ومع ذلك كان المجنون الأكبر بين جميع المجانين الذين رأيتهم في حياتي... هه، هه، هه... كان يتفوه بكلمات عجيبة غريبة يتحمس لها جداً فتجحظ عيناه وتتقدان بلهب مخيف.. لقد عذبناه في قبو المجانين حتى الموت.. وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة خاطب الحراس والجلادين قائلاً: "أيها الحمقى، يا أجراء الطغاة المتوحشين، لقد أتيت لتحريركم من العبودية!" فتصور إلى أي حد وصل به الجنون!أطرق سامر مفكراً وترقرقت الدموع في عينيه... فهل صارت مدينته الحبيبة قاتلة لأبنائها الأنقياء المخلصين!كف الحارس عن الضحك ووقف مستعداً حين سمع صوتاً يصيح به من قرب الباب!ـ إيه، أيها الحارس! ماذا دهاك؟ هيا، أحضر الغريب إلى هنا إن كنت قد فتشته جيداً.صوب الحارس سلاحه نحو سامر وأمره بقسوة: