بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
تعلمون ـ أعيش وحيداً منذ زمن بعيد.فكر سامر: "يعيش وحيداً.. ولكن كيف؟ كان بيته بيت الحي الشرقي كله، وكانت بيوت الحي كلها بيته، ناهيك عن أبنائه وبناته!" قال رئيس الحرس بقسوة:ـ خذه يا أبا ماجد، خذه!ثم توجه إلى الحراس وأمرهم:ـ فكوا قيوده وليدخل إلى مدينتنا فنحن بحاجة إلى عبيد أقوياء.فكر سامر مشفقاً: "عبيد أقوياء! هل هذا يعني أن أهل مدينتي صاروا عبيداً وضعفاء!" أومأ أبو ماجد لسامر فتبعه صامتاً. طرقات المدينة مبلطة تنيرها مصابيح شاحبة..الصمت شامل فلا صوت ولا حركة سوى وقع خطوات تتبع في الظلام الرجلين اللذين يسيران صامتين.فتح أبو ماجد باب منزله وأضاء المصباح وأشار إلى مقعد وقال لسامر:ـ تفضل، اجلس يا ولدي!جلس سامر على المقعد وسارع أبو ماجد إلى إغلاق الباب وإيصاده ثم اقترب من سامر وقال:ـ أرجو أن تخاطبني همساً وأن تصغي إليّ جيداً حين أكلمك كي تفهم ما أهمسه لك فلا أضطر إلى رفع صوتي. كما أرجو أن تنتبه جيداً لكل حركة أو إشارة أو رفة جفن تصدر عني أو أضطر إلى الصمت المطبق والسكون الأصم.سأل سامر هامساً بخوف:ـ لماذا، لماذا يا عماه! أنا لا أفهم شيئاً مما يحدث. افهمني كيف حدث ما حدث ولماذا حدث؟ من أين أتى هؤلاء وكيف أذلوا المدينة وسيطروا عليها؟ لماذا أحاطوها بهذا السور الرهيب وضربوا فوقها هذه القبة الخانقة؟ قال أبو ماجد بصوت يكاد يختنق:ـ بعض هؤلاء كان بين ظهرانينا وجاء بعضهم الآخر من بلدان بعيدة. وكنا غافلين عنهم وعما يدبرون. والأشرار دائماً يتحالفون على الشر والأذى بينما يتجادل الأبرار حول العدالة المطلقة، وحين يفطنون إلى ما يجري حولهم يكون الوقت قد فات وأفلت زمام الأمور من أيديهم فينتصر الأشرار وينهزم الأبرار الطيبون.. أما عن بناء السور والقبة فيزعمون أنهما لحماية المدينة من هجمات الأعداء!قال سامر غاضباً:ـ ولكن أسوار المدن الحقة هي أسلحة أبنائها الأحرار الذين يجمعهم الحب ويسود بينهم التعاطف والتعاضد!ـ أعرف ذلك يا بني، أعرف ذلك.. أخفض صوتك أرجوك!ـ المعذرة يا عماه! لم أعتد بعد على الكلام همساً.ـ أرجو أن تعتاد ذلك سريعاً فلا ندفع ثمناً باهظاً لكلامنا.ـ أإلى هذا الحد وصلت الأمور؟ ـ حذار يا بني، حذار! إنهم على الأبواب كلها وعيونهم على النوافذ.ـ وهذه القبة يا عماه، ألا تحجب الشمس عن المدينة وتعيق طيران الحمائم والنسور في جوها؟ ـ الحمائم والنسور في الأقفاص والرجال والشبان في السجون والأقبية أو تحت المراقبة المشددة الدائمة. الظهور التي ترتفع تحنيها السياط والعيون التي تنظر إلى الأعلى تسمل. الريبة والحذر في كل مكان ومن كل شيء، فلا أخ يثق بأخيه ولا أخت بأختها ولا زوج بزوجه. الجميع يسيرون ويعملون مطرقين صامتين.. لقد نسي الناس الفرح وتغيروا. إنها الحياة يا بني تغير البشر وكل شيء.ـ الحياة تغير الناس يا عماه.. هذا صحيح..ولكن ليس من المحتم أن تغيرهم جميعاً نحو الأسوأ.. الحياة يا عماه تحول الناس نحو الأفضل والأسمى.. هزيمة المخلصين إلى حين يا عماه.. لا بد من أن يفتح الشر عيون الناس للبحث عن جذوره والعمل على اجتثاثها.ـ يذكرني كلامك يا سامر بكلام الرعيل الأول من شهداء المدينة. لقد اندفعوا بشرف إلى مكافحة الشر فسقطوا قتلى لأن المؤامرة كانت أكبر من شجاعتهم ونبلهم. لقد شيعت المدينة أفضل أبنائها بحزن، كان موت الرجال أهون منه على الرجال.. ولكن ما الحيلة! لقد أعد الأشرار العدة جيداً وحسبوا حساباً لكل شيء...ـ أشم في كلامك رائحة القنوط المطلق يا عماه.. أرى أنهم أقاموا سوراً رهيباً حول المدينة وأقاموا أسواراً أرهب حول عقولكم.ـ لو لم أكن أعرفك جيداً يا بني... لو لم أكن أعرف والدك من قبلك لما تجاسرت على التفوه بكلمة واحدة أمامك.ـ وكيف الخلاص يا عماه! يجب أن نعمل شيئاً من أجل خلاصنا وخلاص أهلنا..ـ الخلاص هو في الفرار من هذه المدينة التي حلت عليها اللعنة. ثمة نفق سري لا يعرف مكانه غيري يمر تحت السور وينتهي إلى مغارة في الجبل. لقد ناضل كثيرون من الفتيان الأشداء من أجل الخلاص فكان خلاصهم شنقاً وصلباً وتمثيلاً فظيعاً