بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
اعتزت به وفرحت فلم يكن عبد الله بن عبد المطلب بالعريس الهين، فهو غصن بني هاشم، ومنار فتيان قريش فماذا لو لم يفرق الموت بينهما، وماذا لو تركهما يتذوقان الهناء، ولو إلى مدة قصيرة، وماذا لو أمهله الموت حتى يرى وليده العزيز، وماذا لو رحم الموت هذا الجنين الذي سوف يستقبل الدنيا أو تستقبله الدنيا، وهو يتيم وحيد، وهي لا تزال تذكر ساعة الوداع ولا تنسى وصايا عبد الله لها أن تحافظ على جنينها ما وسعها الحفاظ، ولكن أين هو الآن وقد آن للعزيز المنتظر أن تبصر عينه نور الحياة، وفعلاً فقد استقبلت الدنيا محمد بن عبد الله وهو يتيم يكفله جده وتحضنه أمه الثاكلة آمنة بنت وهب، وهي المرأة الأولى في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.ثمّ تمضي الأيام تتبعها الأسابيع والشهور وآمنة عاكفة على وليدها الغالي تفديه بالنفس والنفيس حتى بلغ السن الذي يتحتم به عليها أن تدفع به إلى المراضع؛ فقد كان المفهوم السائد في ذلك العصر أن الطفل الذي ينمو في البادية ويترعرع في جوها الطلق يكون أشد عوداً، وأقوى {16} عزيمة من الطفل الحضري، وعلى هذه القاعدة المتبعة دفعت به أمه إلى حليمة السعدية، وهكذا أصبحت حليمة المرأة الثانية في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وقد رجعت حليمة وزوجها الى أحياء بني سعد، وهي تحمل معها طفلاً يتيماً لم تتمكن أن تحصل على غيره في الوقت الذي حصلت فيه باقي المرضعات على أطفال أغنياء استلمتهم من أيدي أبويهم محملين بالزاد والمال الوفير...ومنذ أن ضمت ساعداها هذا اليتيم أحست أنه أصبح لها كل شيء وأحست أنها تود جادةً أن تصبح له كل شيء أيضاً، وما أن سافرت به حتى بدأت تتعشقه وتفنى فيه ولم يستقر بها المقام إلاّ وهي تشعر بأنها تحمل معها كنزاً ثميناً دونه الكنوز، وعرفت بدافع من أعماقها بأنها هي الرابحة الحقيقية دون سواها من المرضعات؛ وقد بدأت تلوح لها بوادر تؤيد عندها هذا الشعور فقد عمت البركة جميع الحي وتزايد الخير بالزاد والمال، وقد أفضت بما تراه لزوجها ونبهته إلى بوادر الخير التي أخذت تلوح لهم.فقال لها: عسى أن يكون لهذا الغلام شأن وأوصاها {17} بالعناية به والحرص عليه؛ ولكن حليمة لم تكن تحتاج الى أي توصية فقد أزدحمت في قلبها جميع عواطف الأمومة تجاه هذا الطفل الصغير، وتفجر في فؤادها ينبوع من الحنان لا يمكن له أن ينفد أبداً. وقد كانت تقدمه على أولادها، وتحله في أعلى منزلة من قلبها ورعايتها وبرها وكرمها. وقد اختلقت كثيراً من المعاذير والحجج لتتمكن من استبقائه عندها أكبر مدة ممكنة فما كانت تتمكن أن تنفصل عنه أو أن يفارق أحضانها ويبعد عن ساعديها، فقد كان بالنسبة لها ينبوعاً للخير والبركة والسعادة والهناء.وكذلك كان محمد بن عبد الله أيضاً فهو يحبها ويركن اليها ويحترمها صغيراً وكبيراً، ويحفظ لها جميلها بكل احترام، وقد عاشرها سعيداً وفارقها غير قالٍ، ولا عاتب، وقد بقي يذكرها بالخير والاعزاز حتى بعد النبوة، فقد كان صلوات الله عليه يناديها بيا أمي، وإذا أقبلت اليه أفسح لها مجلساً إلى جواره، وقد يتفق أن يهوي على صدرها فيقبله وهو أكثر ما يكون براً بها وحدباً عليها..ثمّ يرجع محمد بن عبد الله إلى كنف أمه وجده لكي يحظى برعاية الأم في أوائل صباه ولكي ينشأ في ظل جده {18} وتوجيهاته. ولكن القدر سرعان ما يقف معه مرة أخرى لينتزع منه أمه، وهو لا يزال طفلاً طري العود.. يصحبها في سفرةٍ تقصد بها أخواله ومعهم وصيفتها الأمينة أم أيمن؛ وفي وسط الطريق، وبين أميال مترامية وصحراء لا متناهية يمد القدر يده لينتزع منه آخر ركيزة له في الحياة فتلحق العلة بأمه وينتزعها الموت من بين يديه.ويعود محمد الصغير يتيماً مرة أخرى أو بعبارة أخري يتيماً مرتين ولا تمهله يد الزمن حتى تفقده جده البار الذي كان يعوضه بحنانه عن حنان الأبوةوبعطفه عن عطف الأمومة. وعند هذا يكفله عمه أبو طالب ويفتح له بيته وقلبه ويفسح له في مكانه وحنانه.وتكفله فاطمة بنت اسد زوجة عمه الكريمة كأحسن ما تكون الكفالة. تحله في المحل الرفيع من قلبها ورعايتها وتمد له يد العون والحدب بكل ما تستطيع.وفاطمة هي المرأة الثالثة في حياة الرسول العظيم فلم تكن تحس أن محمداً يختلف بقليل أو كثير عن أولادها الباقين، بل إنها كانت تحس بأن لمحمد شأناً يخوله أن يحتل الصدارة في قلبها، وعواطفها، وكانت {19}