المختصر المفيد في تفسير الكتاب المجيد
35- ويستولي الغرور عليه فيعميه عن الحقائق ، ويدخلالى بستانه مزهواً به ظالماً لنفسه ووعيه ناسياً ان هذه متع زائلة معلناً انه لا يظن ذلك. 36- بل يرتقي به الغرور الى انكار البعث ـ وهكذا هو الغافل يسلب الحادثةنسبيتها شيئاً فشيئاً ليمنحها التعميم المزيف - ثم هو يقول انه على فرض وجود الآخرة فان له مقاماً كريماً عند الله باعتبار عناية الله به في هذه الدنيا.
37- وهنايجيبه صاحبه المؤمن الواعي وهو يحاوره بتذكيره بغروره وضعفه اذ كان اصله تراباً فمنّ الله عليه ونقله الى خلق حيوي اسمى ثم نقله الى خلق اشرف فجعله انساناً فكيف يمكنلعاقل ان يكفر بالله؟
ان تأملاً بسيطاً في مراحل التكامل الانساني يقود الانسان الى الخالق.
38- انه الخالق الرب الذي يتابع امداد الانسان في مراحل تكاملهويفيض عليه الوجود والتكامل وشكر هذه النعم العظمى يتجلى في التوحيد والعبادة.
39- ان البديل الطبيعي لحالة الزهو والكفران السابقة ان يدخل من انعم الله عليه بجنةوفيرة الى جنته واعياً لعطاء الله ومشيئته وقوته ولطفه معلناً ذلك لساناً وقلباً . ويضيف هذا الصاحب المحاور: انه راض بقسمة الله له ان يكون اقل منه مالاً وولداً.
40- ان الامر لله فقد يمتن على هذا الفقير بالمال والولد او يؤتيه خيراً مما لدى الآخر الغني في حين يرسل على جنة الغني سهاماً وشهباً سماوية لتصبح ارضاً يباباً ملساءلانبات فيها.
41- او تغورمياهها وتشح ينابيعها فلا ينفع معها حفر او علاج.
43،42- وجاء امر الله ودمر الثمر وخوت الجنة على قوائمها وساد الندم والاسف على تلكالجهود المبذولة والاموال المنفقة ، وعلى ذلك الكفر بالحقيقة والشرك بالله وعاد المغرور وحيداً فريداً لا ناصرله من دون الله.
44- وهنا يتجلى الولي الحق امامالعقول المنكرة فهو وحده المثيب وبيده العقبى الخيرة .
45- انه مثال مصغر لدنياً مكبرة: ماء ينزل رحمة فتشربه الارض لتنبت نباتاً فتعصف به الرياح فيتناثر بقدرةالله القادر المطلق. وهكذا هي هذه الدنيا الفانية التي يركن اليها المغترون.
46- انه الدرس العام المطلوب تركيزه في نفوس المؤمنين. ذلك ان المالوالبنون هما زينة الحياة الدنيا وقوام استمرارها، وقد اودع في الفطرة الانسانية مايشد الانسان اليهما لتستمر الحياة، فالتمتع بهما طبيعي ولكن في الاطار الطبيعي فلايتحولان الى معبود ومعشوق وآلهة وهمية بل هما واسطتان للتكامل والاعمار والقيام بالصالحات فهي الخير المطلوب والهدف.
47، 48- واستمراراً في تعميق البناء القيميللمؤمن يعرض القرآن بعض مشاهد القيامة حيث تـُسيّر الجبال وتنكشف الأرض بكل انحائها، وتحشر الخلائق جميعاً فتعرض امام ربها العظيم، تعرض كماهي وعلى حقيقتها بلا اي زينةاو تفاضل، ويأتي التأنيب الالهي للمنكرين الزاعمين انه لا بعث ولا موعد للحساب.
49- ويفتح سجل الاعمال الشامل، ويقف امامه المجرمون بضعف واشفاق مبهوتين لهذهالدقة في الاحصاء بل لهذا العرض المجسد للاعمال فلا مجال لادعاء الظلم.
50- انه تذكير بمنطلق خلق الانسان حين امر الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا الا ابليس وكان منالجن يخالط الملائكة فادركه الغرور وخرج عن امر ربه وأعلن العداء للانسانية والسعي الدؤوب لاغوائها ولكن الظالمين ابوا إلا ان يتولوا عدوهم وذريته ويستجيبوا لإغراءاتهبدلاً من رفضه واللجوء الى الولي الحقيقي.
51- ولكن الشياطين - وخلافاً لتوهم المشركين لايملكون اهلية الولاية فلا قدرة لديهم، ولا علم بخلق السماوات والارض ولاعلم لهم بانفسهم وخلقها، ولا دور لهم في ادارة الكون، وماكان الله أو كل اليهم امراً وهم المضلون الاعداء للبشرية، فلا معنى لتوليهم والركون اليهم.
52- ويأتيالتحدي الالهي في ذلك الموقف الرهيب طالباً من المشركين ان ينادوا الشركاء المزعومين لله، وعندما لا يستجيب الشركاء للنداء يدرك المشركون خسرانهم بوضوح وتحول بينهموبين الشركاء المزعومين هوة الهلاك.
53- وتبرز النار المخيفة امام المجرمين ليعلموا انها مصيرهم المحتوم.
54- ويعود القرآن الى مخاطبيهليؤكد انه فتح امامهم كل السبل ليصلوا الى الحقيقة فلا معنى لهذا الجدل والمراء والتملص.
55- ولم يمنعهم من الايمان والعودة الى الله الا طلبهم ان يطبق عليهم ماجرىعلى من سبقهم وهو عذاب الاستئصال - استبعاداً لوقوعه - او تاتيهم نذر العذاب فيواجهونها ليؤمنوا حينئذ ولا فائدة بعد من الايمان.
56- ومسألة التعذيب بعد الانكار امرموكول الى الله وما على الرسل الا التبشير بالحياة في ظل الله والانذار والتحذير من مخالفة اوامره، الا أن الكافرين يتخذون اسلوب الجدل وكل الاساليب الباطلة الاخرىليردوا بها على الحق الثابت ومن اساليبهم الاستهزاء بآيات الله وانذاره.
57- إنه الظلم العظيم ان يستهزئ احد بآيات الله العليم القادر ويعرض عنها ولا يبالي بماعمله من المعاصي. ولكنه الضلال الذي اوقعه في حالة عمى القلب فكانه محبوس في وعاء، ووقر الأذن وصممها فلا يستجيب لدعوة الهدى والصلاح بل يرتكس باستمرار في الضلال .
58- لقد طلبوا استعجال العذاب ولكن رحمة الله وغفرانه شاءت ان تمنحهم فرصة اكبر والوعد محدد لن يجدوا عنه ملجأ.
59- الا يرون حالة من سبقهم اذ جاءهم الهلاك لظلمهمبعد تحديد موعد لذلك وتلك سنة الله.
60- ولكي يدرك هؤلاء المطالبون بتعجيل العذاب ان لله مصالح وحكماً في تأخيره عنهم يأتي ذكر حديث موسى مع العبد الصالح. ويبدأباعتزام موسى القيام برحلة الى مجمع البحرين - وقيل هما بحر فارس وبحر الروم او البحر الابيض المتوسط والبحر الاحمر او مجمع خليجي العقبة والسويس - وانه كان مصمماً علىذلك حتى لو طالت الرحلة اعواماً ودهراً طويلاً. ذلك لأنه كان قد وُعد هناك بوعد وأعطي علامة لذلك. وقد اصطحب معه أحد اعوانه وحمل معه سمكة مشوية.
61- فلما بلغا المحلالموعود، احيى الله السمكة فسلكت طريقها الى البحر والمرافق يتعجب لذلك ولكنه نسي ان يخبر موسى بذلك كما نسي موسى ان يسأله عن السمكة.
62- فلماتجاوزا الموعد المحدد للقاء العبد الصالح ادرك موسى التعب فطلب من مرافقه ان يُعدّ له السمكة المشوية.
63- ولكن المرافق تذكر الحادثة واخبره بها (وكانت هي العلامةالتي اعطيت له للقاء العبد الصالح) وكانت عند صخرة مطلة على البحر وذكر له انه نسي ان يخبره بها رغم انها كانت حادثة عجيبة.
64- فقال موسى ان ذلك كان مقصده فعادا منحيث أتيا يتبعان الأثر.
65- فوجدا عبداً من عباد الله آتاه الله الرحمة وعلمه علماً لدنياً خاصاً. وقيل انه الخضر عليه السلام .
66- فكلمه موسى بلطف طالباً انيتبعه فيعلمه من علمه اللدني الخاص.
67 و 68- فاخبره الرجل عن انه لا يستطيع معه صبراً لان علمه ليس من العلم المتعارف.
ذلك ان الانسان العادي لا يستطيع انيصبر حين يرى امامه حدثاً غريباً، وربما كان ظاهره العدوان او السفه ولكنه يصدر من رجل صالح عالم.
69- فاكد له موسى وعاهده ان يكون - بارادة الله - صابراً ولا يعصي لهاي أمر يصدره.
70- فطلب الرجل الصالح من موسى انه ان اتبعه فيجب ان لا يسأله عن سر فعلته حتى يكشف هو له عن ذلك.
71- فانطلقا معاً - دون ان يصطحباً المرافق معهما- فركب سفينة فقام الرجل الصالح بثقبها فتساءل موسى عن سر هذا العمل العدواني في الظاهر لأنه يؤدي الى غرق السفينة بأهلها.
72- فذكره الرجل بالعهد الذي قطعه علىنفسه وانه لا يستطيع الصبر معه.
73- فطلب منه موسى الصفح وعدم المؤاخذة نتيجة نسيانه لعهده وعدم تكليفه عسراً من امره.
74- وانطلقا في مسيرتهما ليلاقياغلاماً فيقتله الرجل فيعترض عليه موسى ويعتبره قاتلاً لنفس زكية غير مذنبة لغلام لم يبلغ الحلم وهو امر منكر لا يمكن السكوت عليه.
76،75- فذكرهالرجل بانه لا يستطيع ان يصبر معه فطلب موسى معتذراً ان يعطيه الفرصة الاخيرة والا فله ان ينهي هذه الصحبة وله عذره.
77- وتحركا حتى وصلا الى قرية، ولما كانا جائعينفقد طلبا طعاماً من اهل القرية فرفضوا ان يقدموا لهما الطعام وهنا رأيا جداراً آيلاً للسقوط فقام الرجل باقامته وتقويته ودعمه فاعترض عليه موسى بانه يصنع خيراً لهم دونمقابل رغم جفائهم لهما.
78- ولم يبق لموسى مجال للاعتذار وراح الرجل يعلن الفرقة ويشرح له الحكمة وراء تلك الامور الغريبة.
79- لقد كان خرق السفينة لمصلحةملاكها وكانوا فقراء مساكين يعملون عليها وكان هناك ملك ظالم يغصب السفن الراسية وبطبيعة الحال فانه سيترك هذه السفينة الجانحة المعطوبة لأهلها رغبة عنها ليقومالمساكين باصلاحها والارتزاق بها. فهو ضرر قليل يدفع ماهو اعظم.
81،80- واما الغلام فقد كان في حقيقته كافراً طاغياً يستطيع ان يضغط على ابويه المؤمنين ويجرهماجراً الى العناء وربما الكفر وقد شاء الله ان يبدلهما به ولداً صالحاً زكياً يرعى الرحم.
82- واما الجدار فقد كان مقاماً على كنز ليتيمين لرجل صالح فلو سقط لانكشفالكنز ونهب من قبل الناهبين البخلاء، فشاء الله أن يبقى الجدار ويستتر الكنز حتى يكبرا وبالطبع لديهما مايدلهما عليه رحمة بهما وجزاءً حسناً لابيهما الصالح.
وبعد بيان الغاية من اعماله يوضح الرجل العالم لموسى ان ما عمله كان بارادة الهية خاصة ولا يدخل في الحسابات الظاهرية والتصرفات العادية.
وهكذا تومىء هذه القصةالى ان هناك حكماً مخفية لكثير من الظواهرالكونية التي قد تبدو للانسان مبهمة بل تبدو فيها جوانب مظلمة ظالمة رغم ان فيها الصلاح والجمال، فيجب ان يوكل الانسان الأمرفيها الى الله العليم القدير الرحيم.
وتأتي القصة - كما اسلفنا - في سياق بيان وجود حكم الهية في امهال الكافرين لا يدركونها وفي سياق ترك الغيب لله كما في قصةاصحاب الكهف.
83- ويأتي هنا الحديث عن ذي القرنين في جواب تساؤل - ربما كان امتحانياً آتياً للمشركين من قبل اهل الكتاب - ولكنه ينسجم مع سياق الإخبار عبر العلمالغيبي.
85،84- انه رجل مكنه الله واعطاه قوة وسلطاناً ومنحه اسباب العظمة والقدرة والعمران وكل مايوصله الى ذلك فاستفاد من هذه القدرات.
86-فانطلق بقواه نحو الغرب حيث منتهى اليابسة المعروفة آنذاك، وحيث كانت تلوح الى منتهى النظر برك مملوءة بالطين الاسود الحار وحينئذ يبدو للناظر على مدى الافق ان الشمستغرب فيها. ووجد عندها قوماً يسكنون تلك المنطقة. وهنا خيره الله بين تعذيبهم وبين ان يسلك معهم مسلك العفو، ولعل هذا التخيير لما علم من حال القوم ولما عرف منه من خيروصلاح او لعله تخيير امتحان.
87، 88- فما كان منه الا ان اتخذ سبيل العدل إذ وعد الظالمين بالعذاب الدنيوي الذي يتبعه عذاب اخروى اكبر حيث يبدو ان القوم قد تعرفوا منقبل على منذر الهي بيّن لهم سبيل الحق واعطاهم وعي الآخرة، واما من آمن وعمل صالحاً فسوف يكون له الجزاء الحسن والمعاملة الطيبة.
89، 90- وفي رحلته الثانية اتجه ذوالقرنين نحو الشرق - اقصى الشرق في نظره - فوجد الشمس تطلع على قوم لا يحجبهم عنها حاجب من جبل او غابة. وربما لا يملكون ما يستترون به عنها او انهم كانوا يعيشون الحياةالهمجية.
91- وقد تعامل معهم ذو القرنين بما يعلمه الله من تعامل المؤمن القادر العادل.
93،92- وفي رحلته الثالثة جهز خبراته وقواه واتجه الى منطقة تقع بينسدين او جبلين فوجد عندهما قوما بسطاء ذوي لغة غير مفهومة .
94- ولما كان هؤلاء البسطاء مبتلين بهجمات وغارات من قبل اقوام همجية مفسدة في الارض اسمها ياجوجوماجوج، وقد راًوا في ذي القرنين هذه القدرات الهائلة، طلبوا منه أن يبني لهم سداً مابين الجبلين او الحاجزين الطبيعيين يمنع الغزاة في مقابل اجر يقدمونه له .
95-ولكنه وعدهم ببناء السد دون ان يقبل منهم الأجر وكانت خطته ان يردم مابين الجبلين مستعيناً بقوتهم العضلية.
96- وطلب منهم أن يجلبوا له قطع الحديد ويكوموها فيالفتحة بين الجبلين حتى كأن جانبي الجبلين صدفتان تحيطان بالحديد المكوم، وتراكم الحديد حتى ساوى القمتين وحينذاك أشعل النار المتوهجة بالمنافخ ثم طلب نحاساً مذاباًفصبه عليه ليسد الخلل بين القطع ويقوي الحديد.
97- وهكذا اغلق الطريق على الاقوام الهمجية فلم تستطع أن تتسلقه او تثقبه.
98- ولم يغتر ذوالقرنين بهذا الانجاز العظيم وانما شكر الله على رحمته ولطفه به اذ استطاع ان يساعد هؤلاء، الضعفاء . واعلن ان هذا العمل الجبار مهما كان فهو صغير الى جانب قدرة اللهوسيندك عند حلول يوم القيامة.
فكان بذلك نموذج الحاكم القوي الصالح العامل بالعدل والمعين للضعفاء.
99- وعندما يحين يوم القيامة يجمع الله الناس ليموجبعضهم في بعض ثم يأتي النداء الالهي ونفخة الصور لتنظم صفوفهم للحساب .
100- وتعرض جهنم بكل مافيها من رهبة امام الناس.
101- ويبصر الغافلون الذين لم يبصرواالحقيقة في الدنيا النار أمامهم الآن.
102- واذا باولئك الذين تولوا عباد الله من دون الله يرون أنفسهم اذلة لا ينصرهم احد ويتجلى لهم مصيرهم في النار.
103،104- انهم الأشد خسراناً فاما الدنيا فسعيهم فيها ضلال وضياع في الواقع رغم أنهم يحسبون انهم يحسنون صنعاً ويشبعون فيها اهواءهم .
106،105- واما الاخرى فلا قيمةلأعمالهم ولا وزن بعد ان كانوا كذبوا بايات الله ولقائه واستهزأوا بالايات والرسل فاستحقوا عذاب جهنم.
107- وفي قبال اولئك الأخسرين اعمالاً يقف المؤمنونالعاملون للصالحات وقد حققوا كل آمالهم حيث جنات الفردوس ينعمون فيها بالطيبات خالدين لا يرغبون عنها الى حياة اخرى.
108- وهكذا جاءت هذه السورة المفعمة بآياتالله وعلم الله وهداه للبشرية الحائرة الجاهلة تقودها نحو صلاحها وتوصلها نحو السعادة بالعلم الالهي المطلق والكلمات الالهية التي لا تنفذ ولا تنتهي مطلقاً .
109-مثال حسي على الاطلاق في العلم والقدرة والهدي الالهي فان البحر الواسع الغزير - لو تصورناه حبراً تكتب به الكلمات - يمده بحر مثله سوف ينفذ ويفقد مالديه من طاقات وتبقىالكلمات الالهية اوسع واوسع من ذلك لان فيها اسرار الوجود العظيم.
110- وما الرسول الا انسان كالباقين ولكنه يمتاز عليهم بالوحي واعطاء المعرفة التوحيدية ويبقىامام الانسانية ان تستفيد من هذا العطاء فترجو لقاء ربها وتعمل صالحاً وتقوم بكل مقتضيات التوحيد لتسعد وتنعم بالخلود وهكذا تختتم السورة بالتأكيد على لزوم الالتزامبخط الايمان، والاعتقاد بعظمة الله وعلمه المطلق.
(14)
سورة مريم
2،1- تبدأ السورة بالحديث عن الرحمة الالهية التي خص الله بها زكريا النبي وهذهالروح تسري مع السورة حتى النهاية وبطبيعة الحال فان الرحمة نفسها تقتضي الشدة مع المنحرفين. وربما كان هدفها تركيز عبودية الله وصفاته المطلقة. وتقديم النماذج الرفيعةمن الانسانية. 3- اذ راح زكريا يناجي ربه في معزل عن الناس ويبثه همومه. والدعاء سلاح المؤمن، ووصل له بربه، وتنفيس له عن كربته، وبالتالي فهو سبيل للتكامل.
4- انه يشكو لربه الوهن والضعف الشديد، والشيخوخة ويعلن لربه أنه عاش مع الدعاء، ونجى به من الشقاء، واستمد منه السعادة باستمرار.
5- انه يخشى أن يضيع تراثه منبعده، وربما كان يشير الى تركته المعنوية كاستمرار خطه الدعوي التوحيدي ، وقيمومته على مريم، والمادية ايضاً، خصوصاً وهو لا يرى في الموالي من عمومته او كلالته او عصبتهالخير المطلوب ولا ولد له لأن امراته كانت عاقراً لا تلد؛ ولذا فهو يسأل الله ان يعطيه ولداً بقدرته غير المعتادة بعد ان كانت الظروف العادية كلها تأبى حصول ذلك.
6- انه يطلب الوريث الصالح المرضي المتخلق بالخلق الحسن الذي يرثه في ماله وفي خطه العلمي والعملي الصالح، والدعوة الى التوحيد، وربما كان يرجو الله ان يجعل في ولدهامتدادا للنبوة خصوصاً وهو يشير الى آل يعقوب وهوالخط التوحيدي النبوي المعروف عبر التاريخ.
7- ويستجيب الله دعاءه، ويناديه مبشراً له بغلام ويعطيه اسماً لم يسمبه أحد قبل ذلك؛ او لم يكن له شبيه من قبل.
8- وهنا يتهيب زكريا الموقف وهذه الاستجابة السريعة لهذا الأمر المستبعد بالنظر الى الواقع القائم: فامرأته عاقر: وهو شيخكبير جف عطاؤه وفقد قواه. فيتساءل عن كيفية تحقق ذلك.
9- وطبيعي ان يأتي التذكير الالهي بالقدرة المطلقة، فكل شيء امامه هين سهل خصوصاً بعد التنبه الى ان الله تعالىخلق الانسان ولم يك شيئاً.
10- ومسألة الايمان العقلي بهذا الامكان شيء وموضوع الاطمئنان القلبي بمثل هذه الحادثة العجيبة شيء آخر، وهوما رأينا شبيهه في قضيةابراهيم وكيفية إحياء الموتى، لذلك يطلب زكريا من ربه آية حسية ، والحس اكثر تاثيراً في تحقيق الاطمئنان . فكانت الآية الحسية أنه يفقد القدرة على تكليم الناس ثلاث ليالبأيامها.
11- ويخرج زكريا الى قومه وأتباعه من محرابه - وهو محل الحرب ضد الشيطان والشرك - ليطلب اليهم ان يسبحوا الله صباح مساء.
12-ويتوجه النداء ليحيى - وهو صبي - أن يتحمل الامانة الالهية ويحيى مع التوراة - أو مع كتاب خاص به - ويُبلّغ بها بعد ان يتفهم معارفها ويطبق تعاليمها وقد آتاه الله القدرة علىذلك رغم كونه صبياً لم يبلغ الحلم بعد.
13- وغمره الله بالحنان والنمو الصالح والتقوى وهي عناصر تؤهله لحمل الامانة.
14- واتصف ببر الوالدين والتواضع للناسوالبعد عن التكبر والعصيان والغلظة يعيش مع الناس، ويلين لهم، ويرحم ضعفاءهم.
15- فهو يعيش حياة السلام والايمان وهو يموت في جو السلام واللطف وسوف يبعث والسلاميحفه ايضاً. وهكذا يشكل يحيى نموذج الانسان المؤمن الصالح: ترعاه الحكمة، وتنـمّيه الرحمة والحنان، وهو بر بوالديه ومن أحسن اليه، ورحيم بالناس، يتقي المعاصي، ويعملمطمئناً في اطار السلام الالهي.
16- وبعد ذكر قصة زكريا ويحيى يأتي الحديث عن عيسى وتتشابه حياتهما وسيرتهما المباركة كنموذجين انسانيين صالحين على مستوى القمة.
فهذه مريم المرأة المباركة الصالحة العذراء ام عيسى تعتزل قومها متجهة الى منطقة شرقية.
17- وتتخذ لها مكاناً تحتجب فيه عن قومها وربما لتعتكف للعبادة.وهنا يتمثل لها جبرئيل بشراً سوي الخلق.
18- وبطبيعة الحال فانها تذعر اذ يفاجئها رجل سوي في هذه الخلوة فتستعيذ بالله الرحمن وتذكره بالتقوى.
19- ليجيبهابانه رسول من الله ليهب لها غلاماً طاهراً نامياً بالخير.
20- ويزداد تعجبها رغم ان روعها يهدأ بعد ان تعلم انه ملك الهي مقدس ولكن أنى يمكن ان يهبها غلاماً وهيعذراء لم يمسسها بشر ولا هي انسانة فاجرة تستجيب للعمل الحرام؟!
21- وهنا يأتي نفس التذكير السابق الذي تم لزكريا وهو التذكيربالقدرة الالهية المطلقة بالاضافةللحديث عن الحكمة الالهية من ذلك؛ وهو ان يكون الحادث آية ومعلماً يقود الخلق الى الايمان بالله وقدرته المطلقة ويحقق مقتضيات الرحمة الالهية بالخلق؛ فالرحمة هي سر خلقالكون ومده بالحياة والحركة وهي سر بعث الانبياء ليهدوا البشرية الى اهداف خلقتها. وكل ذلك كان امراً محتم الوقوع.
22- وتعود حاملة بعيسى - بأمر الله - وتبتعد عنقومها متجهة الى مكان بعيد.
23- وألجأتها أعراض المخاض والولادة الى جذع نخلة يابس، ولا معين لها وهي تلد لأول مرة، فيستولي عليها الفزع وتتمنى لو كانت قد ماتت قبلهذا ونسيها الناس.
25،24- ويناديها طفلها - على الظاهر - من تحتها ان لا تخاف ولا تحزن فقد جعل الله لها جدولاً سارياً يجري تحت قدميها ثم ان عليها ان تهز النخلةالعارية لتساقط عليها رطباً جيداً صالحاً للاقتطاف.
26- وهكذا يتجلى جانب آخر من الرحمة الالهية فاذا بمريم تجد الشراب والطعام والطمأنينةوالضمان بعدم أية مشكلة عندما تواجه قومها وانما عليها أن تعلن انها نذرت صوم الصمت فلن تكلم بشراً أثناءه.
27- وعندما عادت الى قومها حاملة ولدها بهت القوم فهاهميشهدون مريم العابدة القديسة العذراء وهي تحمل طفلاً فاتهموها بالعمل المنكر الفضيع.
28- فهي اخت هارون اي المنتسبة الى هذا الفرع المعروف وهو من هو في ورعهوعفته، وهي ابنة عمران الرجل الخير المعروف بالصلاح، وما كانت أمها من المنحرفات. فكيف اذن ترتكب هذا العمل القبيح؟!
29- فأفهمتهم بالاشارة ان عليهم ان يسألوه عنأمره فيزدادون تعجباً وحيرة من أمرهما اذ كيف يكلمون صبياً يرتضع؟
30- وفي قلب العاطفة وفورانها تحقق القصة هدفها إذ يعلن الرضيع - الذي اتخذ بعد ذلك إلهاً - أنهعبدالله خصه الله برحمته فآتاه الكتاب وجعله نبياً.
31- ومنحه البركة وهي الخير المتزايد، له وهو يولد وينمو وللناس اذ يهديهم نحو السعادة ويربيهم تربية زاكيةويقف الى جانب الضعفاء والمحرومين واوصاه الله - مادام حياً - بالصلاة وهي قربان كل تقي وعمود الدين وصلة العبد بالله، والزكاة وهي قيام بحق المال، وسد للحاجاتالاجتماعية.
32- فهو اذن نموذج للانسان الصالح الذي يبرّ والدته ويتواضع للناس ولا يشقى به احد.
33- وهو - كما راينا يحيى من قبل - يولد في سلام ويموت ويبعث فيجوالسلام. وهكذا هو المؤمن الحق.
35،34- هذا هو عيسى ابن مريم على حقيقته. انه العبد الصالح لله وانه الانسان البر المبارك المصلي المزكي المطيع لربه لا ما يفتريهاهل الكتاب من أنه اله او انه ابن الله، فان الله هو الكامل الغني القادر المطلق فلا معنى لنسبة الولد اليه وهو خالق الكون بارادته.
36- انه رب الكون والانبياءوالبشرية جمعاء وعليها ان تقوم بما تقتضيه هذه العبودية من اتباع اوامره ونواهيه فهي الصراط المستقيم .
37- هذه هي حقيقة عيسى رغم اختلاف فرق النصارى فيه، رجماًبالظنون والاوهام واتباعاً للمصالح الرخيصة وتقولاً عليه. والقرآن ينذرهم ويحذرهم من مشهد يوم عظيم.
38- ان البصر والسمع قويان حديدان آنذاك ولكنهما اليوم كليلانيرهقهما الضلال والضياع.