في الشريعة الإسلامية
الضرورة تعفي المضطر من العقاب
لحضرة صاحب الفضيلة
الأستاذ الشيخ محمد جواد مغنية رئيس المحكمة الشرعية الجعفرية العليا ببيروت
عدم الحرج:
تقوم الشريعة الإسلامية على مبادئ وأسس يقاس بها كل حكم من أحكام الشريعة، من أي نوع كان، ومن تلكالمبادئ السعة، وعدم العسر والحرج على المكلفين، وهو أصل مطلق غير مقيد، وحاكم غير محكوم، لا ينفيه شيء، و به ينتفي كل تكليف يوجب العسر والحرج، سواء أكان التكليف من نوعالعبادات أو المعاملات أو العقوبات أو الأحوال الشخصية.
وقد أعلن القرآن الكريم هذا المبدأ (وما جعل عليكم في الدين من حرج).
(يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكمالعسر). (يريد الله أن يخفف عنكم) واشتهر الحديث عن الرسول الأعظم: (بعثت بالحنيفية السمحة).
قاعدة الحل والطهارة:
وعمل بهذا المبدأ علماء الشريعة الإسلامية،وجعلوه أصلاً مستقلاً للتشريع يسري في جميع أبواب الفقه، وأقروه بقواعد أخر ترجع في حقيقتها إلى اليسر
/ صفحة 158 /
وعدم الحرج، مثل قاعدة الحل والطهارة، ومحصلها أنيحكم الفقيه بطهارة كل شيء وحليته حتى يثبت العكس بالنص الشرعي على النجاسة والتحريم، فمدعي النجاسة والتحريم عليه الإثبات، والقائل بالحل والطهارة لا يطلب منه الدليللموافقة قوله للشرع والعقل، كل شيء طاهر حتى تعلم نجاسته، وكل شيء حلال حتى يعلم أنه حرام، إذن لا يجبر الإنسان على أداء شيء أو تركه إلا مع الدليل الشرعي (1)، وقال الإمامعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه: (إن الله سكت عن أشياء، لم يسكت عنها نسياناً لها، فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم).
قاعدة المصالح والمفاسد:
ومن القواعد التي ترجعإلى عدم الحرج قاعدة المصالح والمفاسد التي قال بها الشيعة والمعتزلة، وتتلخص في أن الله أمر بالفعل لمصلحة فيه تعود على فاعله، ونهى عنه لمفسدة كذلك، لا أن الفعل يصبحصالحاً لأن الله أمر به وفاسداً لأنه نهى عنه، بل أمر به الله تعالى لأن صالح بالذات، ونهى عنه لأنه قبيح بالذات (2).
ويتفرع على ذلك أنه يجوز للإنسان ـ إذا أضطرتهالظروف ـ أن يفعل، ويترك ما نص الكتاب والسنة على وجوبه وتحريمه، ولا يعد ذلك مخالفة منه للشريعة، بل عمل بالشريعة نفسها، على شريطة أن تقدر الضرورة بقدرها، فيكتفيالمضطر بما يدفع عنه الضرورة والضيق، وبارتفاع الضرورة يرتفع المسوغ الشرعي والعقلي، ويبقى الشيء على حكمه الأول، ويكون التعدي بغياً وعدواناً (فمن أضطر غير باغ ولا عادفلا إثم عليه). (فمن اضطر في مخمصة غير
ــــــــــ
(1) كتاب فلسفة التشريع للدكتور المحمصاني طبعة ثانية ص 134، نقلا عن كتاب الإشباه للسيوطي، من السنة، والكتابالمعروف بالرسائل باب البراءة للشيخ الأنصاري من الشيعة.
(2) كتاب شرح التجريد للعلامة الحلي، ص185 طبع العرفان.
/ صفحة 159 /
متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم). (وقدفصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه).
معنى الإضطرار:
ليس للاضطرار ضابط خاص يرجع إليه الفقيه، وإنما يختلف باختلاف الأشخاص، والعوامل الخارجية، والدوافعالنفسية، فرب حالة تعد اضطراراً بالقياس إلى إنسان دون غيره، بل رب حالة تكون اضطراراً لإنسان في مورد ولا تكون اضطراراً له في مورد آخر، ولذا قيل: لكل مقام مقال، ولكلسؤال جواب، ولكل حادث حديث.
وعلى أي الأحوال فليس معنى الإضطرار ـ في مقامنا هذا ـ أن يكون الإنسان مجبراً على الفعل، على نحو لا يكون له معه مندوحة إلى الترك، فإنالفعل ـ والحالة هذه ـ لا يتصف بحسن أو قبح، ولا يحكم عليه بحل أو تحريم، لأنه خارج عن القدرة والإختيار، وإنما المقصود من الإضطرار أن يكون الإنسان قادراً على الفعلوالترك معاً، ولكنه يختار الفعل لعامل خارجي أو دافع نفسي، كمن لا يملك من دنياه إلا ثوباً واحداً يستتر به، فاضطره الجوع إلى بيعه، ليشتري بثمنه رغيفاً يسد رمقه، ويقيمأوده.
وقد ذكر الفقهاء أسباباً تخفف على المجرم عقاب الجريمة، وأعذاراً تعفي المضطر من كل عقاب، غير أنهم لم ينظموها في مبحث واحد، بل جاءت متفرقة في أبواب الفقه هناوهناك، ولو جمعت لكانت كتاباً مستقلاً.
أسباب التخفيف:
ومن أسباب التخفيف التي ذكرها الفقهاء: أن الزاني إذا كان أعزب أو متزوجاً يتعذر عليه الوصول إلى زوجته لمرضأو سفر فعقابه الجلد دون الرجم، وإذا كان متزوجاً يمكنه الوصول إلى زوجته ساعة يشاء يعاقب بالرجم، وأن السارق
/ صفحة 160 /
تقطع يده، إذا نقب نقباً، أو كسر قفلاً أوباباً، وإذا أخذ المال من غير حرز كسرقة الثمرة على الشجرة، أو السرقة من الحقل والبيدر فلا تقطع يده (1).
الدفاع عن المال والنفس والحريم:
ومن الأعذار التي تعفيالمضطر من كل عقاب، الدفاع عن المال والنفس والعرض، ولو أدى الدفاع إلى قتل المعتدي، وعليه جميع المذاهب، قال صاحب المغني ج7 (لا أعلم فيه خلافاً) وقال صاحب الجواهروالمسالك (القتل دفاعاً عن النفس والمال لا يوجب قصاصاً.. ومن وجد مع زوجته رجلاً يزني بها فله قتلهما معاً، ولا إثم عليه) وفي الآية الكريمة (ومن قتل مظلوماً فقد جعلنالوليه سلطاناً) والمعتدي قتل ظالماً لا مظلوماً، وقال الشهيد في المسالك (الأقوى وجوب الدفاع عن النفس والحريم مع الإمكان، ولا يجوز الإستسلام) أي يجب على الإنسان أنيدافع عن نفسه وحريمه بكل وسيلة، ولو بقتل المعتدي، على شريطة أن يعتمد في الدفاع على الأسهل فالأسهل، كالصياح أولاً، ثم الضرب ثم الجرح، وأخيراً القتل، أما الدفاع عنالمال فجائز فعله وتركه.
حاجة المضطر إلى الطعام:
ومن الأعذار: حاجة المضطر إلى الطعام، فقد أباح فقهاء المذاهب للجائع الذي يخاف التلف على نفسه أن يتناول كل مايحفظ به نفسه، ويسد رمقه، فأباحوا له أكل الميتة، والسرقة والنهب والقتل، قال صاحب المغني في باب الصيد والذبائح ج8 (إذا لم يجد المضطر إلا طعاماً لغيره، فإن لم يكن صاحبهمضطراً إليه لزمه بذله للمضطر، فإن لم يفعل فللمضطر أخذه منه، لأنه مستحق له دون مالكه، فإن احتيج في ذلك إلى قتال فله قتاله، فإن قتل المضطر فهو شهيد، وإن آل أخذه إلى قتلصاحب الطعام فدمه هدر لأنه ظالم) وقال صاحب المسالك ج2 باب الأطعمة والأشربة: (إن كان المضطر قادراً على قتال صاحب الطعام قاتله، فإن قتل المضطر كان مظلوماً، وإن قتل صاحبالطعام فدمه هدر).
ــــــــــ
(1)المغني طبعة ثالثةج8 ص248، والجواهر والمسالك باب الحدود.
/ صفحة 161 /
ومن الطريف ما ذكره كثير من فقهاء السنة والشيعة أنالمضطر إذا لم يجد إلا نفسه جاز له أن يقطع بعض أعضائه غير الرئيسية التي لا يؤدي قطعها إلى هلاكه، ويأكلها، وأنه إذا وجد إنساناً ميتاً جاز له أن يأكل من لحمه.
وأول مايختلج في النفس أن الفقهاء قد استوحوا هذا الفرض وأمثاله، من الفقر والحرمان في العصر الذي عاشوا فيه، وأن شأن المضطر في حركاته وسكناته أشبه بشأن الجماد تسيره قوة خارجةعنه، لأن لا يصغي ولا يمكن أن يصغي لقول: هذا حسن يجب فعله، وذاك قبيح يجب تركه.
وقد التقت النظرية القائله (إن الفقر ليتحدى كل فضيلة) بنظرية الفقهاء (لا عقاب معاضطرار) بل هي عينها، وكفى بالفقر عقابا.
وقال الشيخ محمد على الأعم في منظومة الأطعمة والأشربة (1)
ما كان يوماً يعبد الإله الفضل للخبزالذي لولاه
ومن الأمثلة عندنا في جبل عامل (الجوع كافر) ولعل مصدر هذا المثل قول أبي ذر: (إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر خذني معك) فقد تجول هذا الصحابي في قرىالعامليين ـ جنوب لبنان ـ ينذر ويبشر أهله، عند ما نفاه عثمان إلى بلاد الشام.
وليس الفقر كفراً فحسب، بل هو الموت الأكبر، كما قال الإمام علي ابن أبي طالب كرم اللهوجهه: موت للعقل والروح والجسم، فلا صحة ولا علم، ولا فضيلة مع فقر، فالجهاد للقضاء على الفقر أفضل من كل جهاد عند الله سبحانه، لأنه جهاد في سبيل الإيمان بالله والعملبشريعته وأحكامه.
ــــــــــ
الشيخ محمد علي الأعسم عالم من علماء النجف وشعرائها، له منظومات في الفه والعربية، توفي سنة 1247 هجرية.