في صميم هذا المجتمع
للمهندس الدكتور محمد محمود غالي مدير عام مصلحة النقل السابق
دكتوراه الدولة في العلومالطبيعية من السربون
ليسانس العلوم التعليمية - ليسانس العلوم الحرة - دبلوم المهندسخانة
أما القوام فنحيل - أما الصحة فما زال بصاحبها رمق للحياة ، يغالبها وتغالبه - و أما الجسد فيكسوه جلباب أسود مهلهل - و أما الرأس فيعلوها غطاء لا هو بالعمامة و لا هو بالطربوش، تستطيع أن تتبين فيه لفافة من الأقمشة البالية - و أما القدمانفعاريتان ، و هو يحمل في يديه خيوطا قد ربط بها عدد من العصافير المذبوحة، لا شك أنها كانت نتيجة للصيد - أما نداءه فإنك تسمعه يقول ((الفجافيج)) - ((الفجافيج)) بتاعةاسكندرية، و الفجافيج هى العصافير، و لعلها كلمة يونانية أو إيطالية. و لماذا لا يقول العصافير؟ لعل السبب أن الذين اعتادوا شراءها من أمثاله هم الأجانب، فقد جرت العادةمنذ زمن طويل أنهم هم الذين لديهم النقود التي تسمح لهم بشراء الكماليات بعد أن توافرت لديهم الضروريات، و مع أن الكثير من هؤلاء قد رحلوا عن ديارنا أو تمصروا و تكلموالهجاتنا، و مع أن البعض منا يحلّ محلهم في الأعمال ، التي تكسب صاحبها المال، و مع ذلك فقد ظل النداء القديم لا يتغير يتجاوب بين المقاهي تعوده الرجل النحيل ، يدور بهذهالعصافير التي لا تغني من جوع كما تدور النحلة الدوارة، يدخل هذه ليخرج إلي تلك، و يأتي الليل ليبيع منها للعشاء كما باع منها في ساعات الغداء - إنك لا تعرف كيف بد يومه ومن أين أتى؟ أين يسكن؟ و أين ينام؟ هل له غرفة يأوى إليها
أو هو يقضى ليله مع خمسة آخرين - هل له منام و هل يتدثر بغطاء؟ - لا شك أنه ينامتحت سقيفة مع أكثر من خمسة، و لا شك أنه لا يملك سريرا يضع عليه هذا الجسد المحطم و لا غطاء يغطيّ به هذه البقايا من الإنسان، و يتباعد الصوت عنك و تسمعه بعيدا يدوى ((الفجافيج)) - ما زال ينادي، ما زال يسعى للرزق - أين داره؟ - الناس تأكل ما يحمله مع غيره من الطعام، أما هو فلا يأكلها و لا يجد قوت يومه - ماذا أكل اليوم و ماذا يأكل غدا؟ * * *
و تسير في شوارع القاهرة حتى الرئيسية منها فيمر بك مواطن آخر ينادي ((الليمون - الليمون)) - أما القوام فهزيل كصاحبه بائع الأسكندرية - و أما الصحة فمنهارة إلىأقصى حدود الانهيار - و أما الجلباب فمهلهل قد خلعت القذارة عليه طبقة سميكة - و أما غطاء الرأس فلبدة لم يغيرها منذ الشباب و قد أصبح في عداد الكهول - و أماالأقدام فعاريةسواء في أيام البرد القارص أو أيام الزمهرير- و أما اليدان فتحملان سلة متداعية كصاحبها قد لازمته سنين طويلة، و هى من الحقارة بحيث إنه من المستحيل أن يسلبها منه إنسان،و على هذه السلة بضاعة اليوم كله، لا أكثر من ثلاثين ليمونة ، و الناس يساومونه كأنهم يشترون سيارة، و لو حسبت رأس ماله كله لما تجاوز عشرة قروش، ترى هل سيربح منها فياليوم خمسة، قد يكون هذا في الحسبان ولكنه ليس أحيانا في الإمكان. و ما ذا تكفي هذه القروش، و قد تتساءل هل لمثله أولاد، و أين هم و أين ينامون و ماذا يأكلون؟
هذا فيمصر، و في شمال أفريقيا و فلسطين و الأردن و سوريا و لبنان و المملكة السعودية أمثلة عديدة من هذين المواطنين، فإذا رحلت إلى بغداد و الحلة فإن أهل الدجلة و الفرات ليسواأحسن حالا من هؤلاء، فإذا سافرت كما فعلت من بغداد إلى البصرة فإنك تلمح في المحطات التي يقف عليها القطار الفخم المزودة صالوناته بالزجاج الأزرق بائعة القشدة
أو الجيمر كما يسميها أهل هذه الجهات، و تسمع المسافرين ينادونها يا ((أمَّ الجيمر)) يا ((أمَّ الجيمر)) أي يا صاحبة القشدة، و هى بدورها مهلهلةالثياب و على حد ما أذكر عارية القدمين، و هى تختلف جد الاختلاف عن غيرها من البائعات اللاتي تصادفهن في المحطات في بلاد أو ربا فهذه الأخيرة تملك أشياء غير البسكوت أوالقشدة تملك على الأقل ملابس أخرى يمكن لها أن تغيرها، و لها مسكن نظيف تأوى إليه و قد تناولت طعام الإفطار قبل خروجها من ذلك المسكن الذي يضمها هى و زوجها و أولادها - أماهذه البائعة المتجولة في محطاتنا فهى لا تختلف في مظهرها و أحوالها عن زميلها في القاهرة و الاسكندرية و غيرها من المدن العربية، و هي شبح ثالث تعيش بدورها على دراهممعدودة لا تكفي لإحدى الخراف التي ترعى في هذه المساحات الشاسعة، القاحلة للأسف حيث كان يقطن على ضفاف هده الأنهار الغنية أهل بابل في الماضي البعيد، و حيث قامت علىضفافها أيضا عاصمة الرشيد.
و مع ذلك فهؤلاء أعضاء من هذا المجتمع العربي الذي وصفنا في مقالنا السابق عناصر القوة فيه، و هذا المجتمع القوي بموارده و طبيعة أرضه، هذاالمجتمع الغني بمعادنه و بتروله ليس وحده المسئول عن هذا النوع من التسول الذي يبدو في شكل تجارة، و هؤلاء و غيرهم كان يجب أن يكونوا أمام منجلة أو مخرطة أو مكبس أو يكونوافي مزرعة ليخرجوا صناعة أو طعاما للناس تغنيهم عن حاجتهم للغرب أو الشرق، و هؤلاء أمثلة لآلاف غيرهم من المواطنين الذين يستدرون العطف - ترى من المسئول عن هؤلاء و منالمسئول عن هذه الحال؟
* * *
تلك صور من مصر و العراق أردت أن يدخل القاريء بها معى في صميم المجتمع العربي و المجتمع الإسلامي اللذين ذكرنا هما في مقالنا السابق، وهى المجتمعات الغنية بمواردها الطبيعية و ثرواتها غير المحدودة، و لنا رجعة لهذه الموارد و تلك الثروات، و لعله من المفيد أن أطلع القاريء على صور واقعية أخرى من المجتمعالغربي - أنجلترا أو فرنسا أو غيرهما و هو المجتمع الذي يحاول في الماضي و في الحاضر أن يعيش جزئيا على مواردنا و يقاسمنا أرزاقنا.
ونحن في كل هذا لا ننحو إلا إلى الواقع ، و لا نكتب إلا عن ضمير، و لا نروي الوقائع سماعا إنما نروى ما شاهدناه و نحلل ما خبرناه، و أنا في كل هذا أحاول أن أعرف علة تأخرنا وأسباب تفوقهم، و لا يمكن أن ننتهي إلى معرة هذه العلل و الوقوف على هذه الأسباب في مقال أو اثنين.
* * *
منذ أكثر من ثلاثين سنة كنت انتهيت من دراسة كلية الهندسةبمصر و سافرت مع زوجتي لأدرس العلوم الطبيعية في الخارج، و هناك في باريس غيرت سكني خلال عشرة أعوام سبع عشرة مرة، حيث طرقت و أولادي الفنادق تارة و العائلات أخرى، كماسكنا في مساكن مفروشة و أخرى أسسناها بأنفسنا.
من ذلك ترى أننا اختلطنا بمختلف الأوساط، و أن الذي أرويه إنما أرويه عن الواقع و كنا لوجود الأولاد معنا طيلة هذه المدةنحتفظ بخادمة فرنسية، و في حالة اضطرارنا عند عدم وجود خادمة مستديمة كنا نلجأ لخادمات يشتغلن بالساعة، و هى عادة موجودة في كل أوربا - أذكر جيدا أننا كنا ندفع أربعة قروشفي الساعة الواحدة في وقت كانت الحياة في باريس أرخص منها في مصر و بغداد، و كان أجر العامل في بلادنا يبلغ هذا القدر لليوم كله لا لساعة واحدة- و في ذات يوم مرضت هذهالخادمة التي تشتغل بالساعة، و كنا في ضاحية اسمها ((بولارين)) من ضواحي باريس، فزرناها و وجدناها تسكن فيلا صغيرة و لها غرفة للنوم بها سرير مزوّد بالمفارش البيضاء التييغيرونها عادة كل أسبوع، و يتصل بغرفة النوم صالة للطعام نظيفة، و قد لا حظنا وجود راديو تستمع فيه هذه الخادمة إلى الموسيقى كما تتتبع الأخبار.
و إنما أعطيك صورةصادقة لأكثر من واحدة، تبدلوا علينا في كل مرة نضطر فيها لخروج الخادمة المستديمة أو في كل مرة نزور فيها بحكم الاختلاط أو المودة رجلا أو امرأة من طبقة العمال أو الخدم -السرير النظيف و الطعام الذي يحتوي دائما في كل وجبة على أكثر من صنف واحد و غرفة الطعام المرتبة و الراديو
و عادة الجرائد - هذه أشياءعادية عند هؤلاء و هي غير عادية عندنا.
أذكر أن إحدى هؤلاء و كانت بلجيكية تحدثت بمحض اختيارها مع قرينتي بعد أن أنهت عملها الذي استغرق ساعتين - تحدثت حوالي نصفالساعة، فلما همت بالخروج أردنا أن ندفع لها حساب يومها عندنا فطالبتنا على الفور بأجرها عن نصف الساعة الزائد، فلما ذكرناها أن عملها كان ساعتين فقد بادرتنا بقولها((ولكني تعطلت بسبب الكلام مدة نصف ساعة أخرى)) و مع أننا لم نطلب إليها الكلام فقد دفعنا صاغرين الحساب عشرة قروش بدل ثمانية ، و إني لا أنسى هذا الحادث و قد عشت أذكر أنهمهناك يأخذون الأجر حتى على الكلام. حدث مرة أن قفل دولاب من تلك الدواليب المبنية في الحوائط، و وقع المفتاح داخل هذا الدولاب - فأحضرت من دكان قريب عاملا تخصص في فتحمثل هذه الأبواب، حضر معي و معه سلسلة من المفاتيح معلقة في رقبته ، و لما أن أنهى عمله في بضع ثوان ناولته أجره الذي قدره بستة فرنكات و كانت تساوي في ذلك الوقت ستة قروش وما إن هم بالخروج حتى لا حظنا أننا قد نسينا بابا آخر مقفولا أيضا في الغرفة المجاورة يحتاج إلى هذا العامل، فلما رجوته في هذا قال إن أجره ستة قروش أخر فقلت له هذا أجركللباب الواحد لأنك تركت حانوتك و صعدت الدرج و أضعت وقتا في الذهاب و مثله في الإياب. أما الآن فإنك موجود و العملية لا تستغرق إلا بضع ثوان، ولكنه أبى و ما كان مني إلا أنناولته ستة قروش أخرى و فتح الباب.
* * *
هذه هي الحالة التي يعيش عليها خدمهم، و هذه عقلية المواطنين في بلادهم رأينا ذلك في فرنسا و أكثر منه في انجلترا و سويسرا وغيرها من بلاد أوروبا، تلك البلاد التي تحتاج إلى بترولنا فسيطرت عليه و تود الآن أن تسيطر على ممراته لتتم لها السيطرة كاملة.
لقد تعودوا أن يأخذوا حقوقهم كاملةولكنهم تعودوا في الوقت ذاته
ألا يعطونا حقوقنا، و يغلب على الظن أنهم يعتبرون أنه ليست لنا حقوق على هذا الأرض.
هذه الحياةالناعمة لهم يجب في نظرهم أن تكون خشنة لدينا، هذه الحياة السهلة السائغة في بلادهم يجب في نظرهم أن تكون صعبة علينا في بلادنا.
* * *
ولعل القاريء يدرك لماذا ذكرتبائع العصافير من الأسكندرية و الليمون من القاهرة و القشدة من تلك المحطات الواقعة في العراق العربي على طريق البصرة، ثم لماذا ذكرت بعد ذلك الخادمة الفرنسية في هذهالضاحية من ضواحي باريس و تلك البلجيكية في قلب باريس، تلك التي أصرت أن تأخذ أجرا حتى على الكلام.
لماذا ذكرت تلك الصور المتتابعة من الماضي مما علق في ذهني في تلكالساعة التي أكتب فيها ، و لعلي في محاولتي في مقالي السابق الذي وضعت فيه شيئا عن حقيقة مواردنا الزراعية و المعدنية من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلسي، و خرجت منهأننا الأغنياء و ان أهل الغرب هم الفقراء ثم محاولتي اليوم في وصف حياة شعوبنا و حياة شعوبهم أنهم المنعمون و نحن المحرومون، لعلي في كل هذا أضع الخطوط لصورة أنا أحاول أنأطبعها في ذهني و في ذهن القاريء - هذه الصورة التي أحاول أن أقارن فيها بين ما تمتلكه شعوبنا من موارد غنية و ما هي عليه من الفقر ورقة الحال - هذه الصورة ما زال يكتنفهاالغموض و لعلنا نحاول بمتابعة البحث أن نزيدها وضوحا و أن نعرف من هم المسئولون عن هذا الوضع و عن هذا التناقض في وجود بلاد غنية بمواردها كانت سيدة الزمان ولكن أهلهااليوم فقراء - فقراء في العلم - فقراء في الفن - فقراء في طعامهم و لباسهم و طريقة معيشتهم - و في هذا إنما ننحدث عن غالبية العالم الإسلامي و عن غالبية سكان الشعوب العربيةيستوي في ذلك المصري و العراقي كما يستوي السوري و الأردني كذلك أهل الحجاز و شما ل أفريقيا و سيكون للبحث بقية لنرى ما هى أحسن السبل لكي تعيش أم الجيمر و بائع العصفور وكذلك بائع الليمون كما يعيش زميله في بلاد الغرب.