في علم الكلام وفيما وراء الطبيعة
لحضرة الدكتور عبد الحليم محمود أستاذ التربية وعلم النفس بكليةاللغة العربية
لا يمكننا أن نحدد بالضبط تاريخ نشأة الأبحاث في المغيبات، ولكننا قد لا نعدو الصواب إذا قلنا انها نشأت منذ نشأة الإنسان على ظهر البسيطة، وقد لانعدوالصواب أيضاً إذا قلنا إنها منذ النشأة الاولى، قد اختلفت فيما يتعلق بمنهاج البحث، واختلفت فيما يتعلق بالنتيجة. وقد كان الاختلاف شاملا لكل المساتير، فمن انكار مطلقللأولوهية وللروح، إلى ايمان مطلق عام يغرق في الوهم ويبعد في الضلال حتى يصل إلى التخريف بأوسع معانية، وبين هذا وذاك مذاهب لا يحصيها العد: فمن تشبيه مطلق، إلى تنزيهمطلق، إلى تشبيه يشوبه التنزيه، أو تنزيه مشرب بالتشبيه، ومن حلول إلى اتحاد، ومن وحدة الوجود، إلى التفرقة بين العابد والمعبود، إلى مذاهب يبعث اختلافها الدوار فيالرأس، وتبعث براهينها الشك في جميعها، الا من عصم ربي فوفقه إلى طريق الرشاد.
أجل:الا من عصم ربي، ذلك أن اتباع الطريق السوي توفيق من الله، وليس ذلك من اكتساب العبد،فالحلول ـ مثلا ـ عقيدة راسخة استساغتها البيئات المسيحية ـ وفيها من أساطين المفكرين ما لا يحصى ـ منذ ألفين من السنين، وقد تسابقت العقول في البرهنة عليها، حتى أقامتهاعلى دعائم فلسفية منطقية خلبت عقول الملايين من بني البشر، فآمنوا بها، وضحوا في سبيلها.
والتشبيه قد برهن عليه ذووه ببراهين عقلية، وأخرى نقلية، ووحدة الوجود لهاأنصارها المتحمسون لها الذين يرون ان ما عداها لغو أو ضلال.
ولو درسنا تاريخ العقائد لوجدنا أن كل فرقة تستند إلى منطق، وكل عقيدة قد سادت في فترة منالزمن، أو سادت في بيئة من البيئات. وكل بيئة تعتقد ان ما لديها خير ما أخرج للناس. ولو سرنا في المنطق إلى غايته لوصلنا إلى الحيرة والشك في كل ما انتجته العقول الإنسانيةمن آراء.
ومع ذلك فاليقين موجود ومهما حاولت ان تنكر إشراق الشمس إذا كانت مشرقة، فسوف لا يستجيب اليك شخص ما، وسوف لا تستجيب أنت إلى نفسك.
وهكذا الامر في جميعالمحسوسات بيد أن ذلك ميدان. والمغيبات ميدان آخر.
لقد كان من الطبيعي: أن يكون الحس طريق المعرفة المادية، وأن يكون العقل طريق المعرفة العقلية. وما دامت المغيبات منالمعقولات، فالطريق إلى معرفتها انما هو العقل، وما دمنا قد وثقنا بالحس في معرفة الماديات فلنلتزم الوثوق بالعقل في معرفة المغيبات. هذا النمط من التفكير يبدوموقفاً، ولكنه محض سفسطة: فالتصور ـ وهو أساس المعقولات ـ لا يقوم الا على الحس، وإذا جردته من المدركات الحسية، فقد أزلته إزالة لا تترك له من أثر. وما دام الأمر كذلكفالتفكير المجرد عن المحسوسات معدوم، وما دامت المساتير لا شأن لها بالحس فكل تفكير فيها لا يؤدي إلى نتيجة.
لقد أطال العلماء في بحث الاراء الموضوعية، والاراءالذاتية، ورأوا أن الأولى لا تقبل جدلا: ذلك لأنها تعتمد الاعتماد كله على الحس. أما الآراء الذاتية، وهي قائمة على أسس أخرى، فإنها مجال للأخذ والرد، ولا يمكن الوصولفيها إلى نتيجة حاسمة مهما طال النقاش. وإذا كانت مادة الأخلاق هي الميدان الخصب للآراء الذاتية، فإن الالهيات، وهي حجب ومساتير، وميدان أخصب، لذلك لا يعدو البحث فيها أنيكون علماً كلامياً أو علما جدليا .
ومهما أشاد المعتزلة بالعقل، ومهما رفعوا من شأنه، فمن البهديهي: أن الميدان الذي يتخبط فيه العقل تخبطاً لا نهاية له إنما هوميدان ما وراء الطبيعة.
ومن الواضح أن مذهب المعتزلة على ما فيه من روعة، ودقة، وجمال، وعلى ما أداه من خدمات جليلة في ميدان المنطق الجدلي، لا يقومعلى أساس معقول .
العقل قاصر إذا فيما يتعلق بالاخلاق، وعلى الخصوص فيما يتعلق بالالهيات، ومن هنا كانت الحكمة في نزول الاديان، ومن هنا كان السبب في اقتصارها علىالأخلاق والالهيات. وإذا كانت قد تحدثت في التشريع، فإن التشريع داخل في نطاق الأخلاق.
بيد أن الأديان إذا كانت قد اخذت موقفا حاسما فيما يتعلق بتحديد الخير والشر،فإنها في المغيبات لم ترهق الإنسان من أمره عسراً، فتوضح له ما ليس في مقدوره إدراكه، أو تبين له ما يسمو عن التبيان.
اما هذا الذي يسموا عن التبيان، فإنه ذلك النوع منالمعرفة الذي لا يدخل في نطاق المحسوسات، وبالتالي لا يدخل في نطاق العقليات: أعنى المساتير.
لذلك رسمت الأديان في هذا المحيط إطاراً عاما فقط، وهذا الاطارالعام نفسهمبني بعضه على الحس، وهو داخل في نطاق الآيات المحكمات التي هي أم الكتاب: لو كان فيهما آلهة الا لله لفسدتا أما بعضه الاخر فهو المتشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغفيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة .
هناك إذاً إطار عام لا يرضى النفوس الطُّلَّعة، التي أبت ـ خطأ ـ ان تعترف بحدود للعقل، أو بقصور فيه، فبحثت داخل هذا الاطارفكان ما كان من تشعب، وفرقة، واختلاف. بماذا نفسر هذا الافتراق ؟
إننا لا نشك في أن رؤساء الفرق الإسلامية، معتزلة كانوا أم أشاعرة، وشيعة كانوا أم أشاعرة، وشيعةكانوا أم سلفيين، قد تشبعوا بإيمان راسخ، وحرارة دينية فائقة، وعقيدة لا تزعزعها الاعاصير، وقد اعتمدوا جميعاً على نصوص واحدة:كتاب الله، وحديث رسوله.
فلم كانالاختلاف ؟ ولم هذا التشعب الذي لا ينتهى ؟
لسنا ـ في تعليل ذلك ـ أمام مشكلة لا تحل، إذ الشأن في ذلك إنما هو الشأن
في كل الآراء الذاتية التي لاتخضع الا إلى الاستعداد الشخصي وحده. ولو استقامت أمور المسلمين الدينية لما حادوا عن موقف الإمام مالك: التسليم المطلق الاستواء معلوم، والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة.
آراء ذاتية داخل الإطار العام، آراء هي من صنع البشر، آراء تتحد في نسبتها ـ من حيث القرب والبعد ـ إلى النصوص المقدسة. إنها آراء. بيد أنها آراء غير مفهومة، وكل منعالج، في إخلاص، تصور صفات خارجة عن الذات، أو تصور صفات هي الذات، فإنه يقر معنا أن ذلك إنما علمه عند ربي.
الطريق الاقوم إذا هو التسليم المطلق. وهذا هو الإيمانبمعناه الصحيح ولكن ذلك ليس معرفة. تلك هي النتيجة التي نريد من كل ما سبق الوصول اليها، وإذا اردنا أن نلخص ما نريد أن ننتهي إليه قلنا:
1 ـ الحسن عاجز عن الوصول بناإلى المغيبات فإننا لا نحسها.
2 ـ العقل: وهو مبنى على الحس ـ قاصر كذلك.
3 ـ النصوص الدينية لا تؤدي بنا إلا إلى نوع من المعرفة غير المباشرة، أو إلى التسليم، أوالتفويض، وليس ذلك من المعرفة المباشرة في شئ.
وإذا فعلم الكلام ليس بدعة فحسب، وإنما هو ضلالة وهو عبث وهو انحراف عن السبيل السواء.
قد تبدو هذه الاراء جديدة أوخارجة عن الطريق السوي، وكلنها مع ذلك تتفق تمام الاتفاق مع ما يراه حجة الإسلام الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال ومع ما يراه الإمام المحاسبي في مقدمة كتابه الوصايا ومع ما يراه غيرهما من أئمة العارفين بالله، ولنا فيهم أسوة حسنة.
هل معنى ذلك ان المعرفة فيما يتلعق بالالهيات غير ممكنة ؟ هل معنى ذلك ان الغطاء لا يمكن أنيكشف عن الحجب ؟ وانه لا سبيل إلى المعرفة الحقيقية المباشرة ؟ ذلك ما لا نقول به. ما السبيل إذاً إلى المعرفة ؟ ذلك ما سيحدثنا عنه العالم الجليل الأستاذ المستهدي فيالعدد القادم ان شاء الله.