من الأسباب الغيبية ما فوق الأسباب
الحسية، لكن لم ولن يطلع عليها إلا ذو حظ
عظيم، كما أن مبدأ التوحيد لا يتنافى مع
إذن الله تعالى لبعض عباده بالتصرف في
الموجودات تصرفاً لم تألفه الحواس ولا
ينكره العقل.
مراتب الولاية التكوينية
وهذا الولاية ذات مراتب، وأضعفها مرتبة
ما نشهده عند كل الناس كولاية الإنسان على
أعضائه وعضلاته فيحركها مثلما يشاء
بمقدار ما يتمكن بإذن الله تعالى، لكنها
مرتبة غير ملفتة، باعتبار تآلف الناس معها
وتعودهم عليها، وإلا فإنه من الناحية
الفكرية لا فرق في مبدأ هذه التصرفات بين
مرتبة ومرتبة من مراتب الولاية
التكوينية، وإن كان هناك فرق في أهمية هذه
المراتب وسموها.
وهذه المرتبة من الولاية قد تبقى وقد تسلب
بحادث أو بولادة ونحو ذلك أو بسبب غير
طبيعي، كما أنه تسلب عنه دائماً، وقد تسلب
في أوقات محددة، وقد تسلب للحظة أو لحظات،
وقد لا تسلب أبداً، كل ذلك وفق مشيئته
تعالى.
وهناك مرتبة هي أسمى من المرتبة السابقة،
يكون الإنسان بسببها قادراً على التصرف في
مجال أوسع من ذلك، كأن يحرك الحجر من مكانه
بدون أن يسلمه، بل بمجرد أن يأمر الحجر
بالتحرك، وكأن يحرك الشجر من مكانه من دون
أن يقلعها أو أن يمسها، وكأن ينفجر نبع ماء
تحت يد الإنسان، وهذه سلطة وولاية على بعض
الموجودات، لكنها لا تستند إلى الطرق
المألوفة في التأثير والإيجاد.
وهناك مرتبة أسمى قد يملك الإنسان معها
قدرة التأثير في دائرة أوسع.
وليس هناك عدد محدد لمراتب هذه الولاية،
لأنك تستطيع أن تحصي مراتب كثيرة، لكنك لن
تتمكن من حصرها، لأن مفردات الوجود الكوني
فوق قدرة البشر، كل ذلك لا يأبى عنه العقل،
وإن كان هناك نقاش مستفيض في تحقق بعض
المراتب لدى بعض الخلق.
الولاية التكوينية في القرآن
لكن هذه الولاية التكوينية على اختلاف
مراتبها، لا تكون إلا بإذنه تعالى، ولا
يمكن لأي مخلوق مهما علا شأنه أن يستقل عن
الله تعالى في التصرف، بل كل ما في هذا
الوجود من حوادث وتغيرات، لابد أن يستند
في نهاية الأمر إلى إرادته تعالى إرادة
فعلية، وما من أحد يملك قدرة مستقلة عنه
تعالى مهما اختلفت مراتب التصرفات
والقدرات.
ولذا نجد القرآن الكريم عندما ينسب إلى
أحد أنبيائه وأوليائه قدرة تكوينية ما
فإنه غالباً ما ينبه على أن هذا بإذن الله
تعالى لئلا يبتلى المرء بالشرك كما ابتلي
بذلك قوم من أهل الكتاب عندما رأوا
القدرات الهائلة عند نبي الله عيسى(ع).
وللتأكد مما نقول انظر إلى قوله تعالى في
قصة النبي عيسى(ع) {ورسولاً إلى بني
إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني
أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه
فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه
والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله}.
فتأمل في هذا التكرار في كلمة بإذن الله،
وهذا يدل على أنه ليس هناك إذن واحد عام
سابق يشبه التوكيل والتفويض، بل هو كل
حركة من حركاته، يطلب إذن الله تعالى، وفي
الحقيقة فإنه لا يمكن أن يكون هناك إذن
سابق يصير بموجبه المأذون قادراً على
الاستقلال بالتصرف، مستغنياً عن أي إذنٍ
لاحق، إن هذا المعنى غير متعقل في علاقة
الله تعالى بعباده، لأنهم الفقراء إليه
وحقيقتهم الفقر، ومن كان هذه حقيقته، لا
يمكن أن يستقل عن ربه ولو للحظة، ومن
مقتضيات الفقر الاحتياج المستمر لفيض
الله تعالى، حتى يستمر الفقير في وجوده
وفي تأثيره. فالحاجة للإذن مقوم لوجودنا
شعرنا بذلك أم لم نشعر.
ونحن شيعة أهل البيت(ع) نعتقد أن الله
تعالى قد أكرم أنبياءه وأوصياء الأنبياء،
ومنهم أئمتنا(ع)، بكرامة الولاية
التكوينية بمراتبها السامية المناسبة
لمقام المخلوقين المربوبين وبإذن الله
تعالى، وإن كنا غير قادرين على رسم حدودها.
كما أننا نعتقد أن هذه الكرامة لا تعطى
بغير سبب وحكمة وكفاءة، بل يرتبط فيضها
على العبد بمقدار قرب العبد من الله
تعالى، ولذا نجد بعض هذه الكرامة عند
الأولياء من غير الأئمة والأنبياء(ع)،
فليس بمقدور كل أحد أن يتصرف، وليس بمقدور
كل شخص أن ينال إذن الله تعالى، بل هذا من
مختصات النفوس القدسية والأرواح الربانية
التي سمت وحلقت في أجواء القدس والنور،
وسبحت في جوهر التوحيد، وتجلت فيها حقيقة
العبودية، وبمقدار ما تثبت هذه الصفة
بمقدار ما يفاض على الإنسان من كرم الله
تعالى.