التناص في شعر محمد حمدان
(الوظيفة والنسق)د. سعد الدين كليبعلى الرغم من أننا لا نعنى كثيراً بمسألة التحقيب الجيلي, فننسب هذا الشاعر أو ذاك إلى جيل شعري بعينه, فإننا نجد أنفسنا مدفوعين إلى القول إن الوعي الشعري ـ الجمالي, لدى الشاعر محمد حمدان, قد تكوّن في مرحلة الستينات, من القرن العشرين، في سورية؛ حيث ارتفاع وتيرة النزعة الأيديولوجية، والوظيفة الاجتماعية، والقضايا العامة ذات الطبيعة السياسية خاصة. من جهة، وارتفاع وتيرة التحديث والتجريب, على مختلف المستويات الأسلوبية والفنية والجمالية، من جهة أخرى. وقد انعكس ذلك, في النص الشعري, لدى جيل الستينيات, عبر مسيرته المستمرة، بأشكال فنية مختلفة ومتناقضة أحياناً, حتى عند الشاعر الواحد, في المرحلة الواحدة. فقد انخرط شعراء هذا الجيل في الشأن العام, بالقدر نفسه الذي انخرطوا فيه في التجريب الجمالي الخاص. وهو ما أدى إلى نوع من الاضطراب أو التناقض بين متطلبات الشأن الاجتماعي العام ومتطلبات التجريب الجمالي الخاص, أو بين الذوق العام والذوق الخاص. ولعلّ فايز خضور يكون واحداً من أوضح الأمثلة على ذلك. حيث قدّم نصوصاً شعرية متعددة، تترجّح بين هذا وذاك, كما قدّم نصوصاً أخرى تنصرف إلى هذا دون ذاك. وليس فايز خضور سوى مثل على جيل شعري، أراد أن يكون لـه موقف من المجتمع والفن معاً. ومن البدهي أن شعراء ذلك الجيل ليسوا على السوية نفسها من الترجّح في ذلك الموقف. ولكن كان لكل منهم تجربة، امتدّت أو انحسرت, تعبّر عن ذينك الميلين. مع الإشارة إلى أننا لا نذهب إلى أنهما ميلان متناقضان. بل إن طريقة التعامل الفني هي التي تدفع إلى جعلهما متناقضين أو متكاملين فحين يتمّ التغليب يكون التناقض بالضرورة. ولا شك في أن المسألة تتعلق, في نهاية المطاف, بطبيعة الخيار الجمالي, عند هذا الشاعر أو ذاك.يمكن التوكيد أن الشاعر محمد حمدان من أقلّ شعراء جيله نزوعاً إلى التجريب اللغوي أو الأسلوبي أو الفني، على الرغم من نزوعه الحداثي العام. فقد انصرف الشاعر, منذ البدء تقريباً, إلى الاهتمام بالشأن العام بطرائق أسلوبية, لا تمتّ إلى التجريب إلا بدرجات محدودة، تسمح للنص الشعري أن يعبّر عن موقف الشاعر من القضايا العامة من جهة، وأن يؤدي وظيفته الاجتماعية ذات الطبيعة السياسية القومية غالباً من جهة أخرى. ولعلّ هذا ما يجعل تجربة حمدان الشعرية أقرب إلى تجربة كلّ من علي كنعان وعبد الكريم الناعم منها إلى تجربة علي الجندي أو محمد عمران أو فايز خضور. أي أن الشاعر محمد حمدان لا يفاجئ قارئه بنصٍّ إشكالي على صعيد اللغة الشعرية أو الصورة الفنية، أو التجربة الانفعالية ـ النفسية أو الرؤيا الشعرية ـ الوجودية. بل يدعو قارئه إلى نصّ أليف أسلوبياً, عنيف أيديولوجياً. إن شعر محمد حمدان يذهب إلى أفقه الرؤيوي بطرائق أسلوبية، تجمع بين البساطة والعمق, والمباشرة والإيحاء, والفكرة والصورة، كما تجمع أيضاً بين تقنيات الشعر وبعض تقنيات السرد؛ من دون أن تقع في النثرية، إلا في عدد من النصوص الشعرية الأولى، أو النصوص التي تتغلّب فيها النزعة الأيديولوجية على الهاجس الجمالي. غير أن محمد حمدان يبقى شاعر البساطة، لا التبسيط, في اللغة والصورة والبناء الشعري العام. ولا غرابة في ذلك. فقد بنى الشاعر جماليات نصّه الشعري على مفهوم الوظيفة الاجتماعية أساساً. نلحظ هذا, في مجمل شعره حتى الوجداني منه. بمعنى أن النظر في شعر حمدان بمعزل عن تلك الوظيفة, هو نظر من خارج النص. إذ إن تلك الوظيفة قد حدّدت مختلف الجماليات الأسلوبية والفنية للنص الشعري لديه. وبما أن لتلك الوظيفة, هذه الأهمية القصوى، فقد جاءت جماليات النص تعبيراً عنها, وتعميقاً لها في آنٍ معاً.ولعلنا لا نبالغ إذا ما ذهبنا إلى أن تلك الوظيفة هي التي تحدّد طبيعة التناص وأنساقه ووظائفه, في شعر حمدان. ولا سيما التناص القصدي منه. حيث نلاحظ أن نسبة التناص القصدي ـ أو الواعي ـ ترتفع بشكل لافت للنظر, في النصوص الشعرية ذات النبرة الأيديولوجية ـ القومية العالية؛ وتخفت نسبته أو حدّته في النصوص ذات الهاجس الوجداني أو التأملي؛ مؤكدين سلفاً, كما يؤكد منظرو التناص, أن ليس ثمة نص غير متناص, أو ليس ثمة نص بريء من التعالق النصي مع نصوص أخرى سابقة عليه, أو معاصرة له. وبما أن الأمر كذلك, فإن الكلام على حضور التناص في نصّ ما, هو من قبيل البدهيات. غير أن هذا لا يمنع من القول إن ثمة نصّاً يعلن عن تناصه بشكل مباشر وواضح, وثمة نص يتلاشى فيه التناص, حيث لا يكاد يبين, إلا من خلال دراسة البنى الصوتية أو الصرفية أو النحوية أو الدلالية. أي من خلال دراسة المستويات العميقة في النص. ولعلّ في هذا فحوى القول أن ليس ثمة نص غير متناص. وهذا التناص هو التناص العفوي ـ أو اللاواعي ـ الذي لا قبل للمبدع في تجاوزه أو حتى في إدراكه أحياناً. غير أن التناص القصدي هو الذي يستحضره المبدع, من أجل التعبير عن موقف أو حالةٍ أو قضية أو فكرة؛ وذلك لقناعته أن ذلك الاستحضار يقوم بوظيفة أسلوبية أو جمالية داخل النص؛ أو يقوم بوظيفة انفعالية أو اجتماعية، خارج النص أو في علاقة النص بالمتلقي. والتناص القصدي, دون سواه, هو مدار مقالنا هذا, من منظور أن هذا التناص جاء تلبية لموقف الشاعر الاجتماعي, من مختلف القضايا العامة، كما جاء تعميقاً للوظيفة الاجتماعية ذات الطبيعة السياسية غالباً, التي ينهض بها النص الشعري عند حمدان.أشرنا آنفاً إلى أن التناص القصدي ترتفع نسبته أو حدته, عند الشاعر, في النصوص ذات النبرة الإيديولوجية العالية. أي في النصوص التي تكون وظيفتها الاجتماعية ـ السياسية القومية ضاغطة أو مباشرة أحياناً. وكأن الشاعر يستحضر مختلف الموروث الديني أو الأسطوري أو الأدبي أو الشعبي, لتعميق الإحساس بالقضية التي يطرحها أو يعالجها, أو لتعميق البعد الزمني أو الإنساني أو القومي فيها. في حين يتراجع ذلك الاستحضار ـ أو التناص القصدي ـ لديه في النصوص الوجدانية أو التأملية. وكأن لسان حال الشاعر يقول إن صوت الذاتي خاصّ به هو. ولهذا يأتي نصّه متخففاً من التناص ـ القصدي طبعاً؛ أما صوت الموضوعي فهو صوت عام, ولهذا تتداخل النصوص في نصّه بمستويات ودرجات متعددة ومختلفة؛ مما يؤكد ارتباط التناص بالوظيفة الاجتماعية، في شعر الشاعر. ونودّ الإشارة, هنا, إلى أن النصوص الوجدانية أو التأملية لا تحتلّ إلا مساحة محدودة، من مجموع شعر الشاعر. وهي فوق ذلك لا تتعدّى المقطعات أو الومضات أو القصائد القصيرة نسبياً. على حين أن النصوص ذات الارتباط بالشأن العام غالباً ما تكون مطوّلة بشكل ملحوظ. وهي التي تشكل الإطار العام لتجربة حمدان الشعرية التي هي تجربة الشأن العام من منظور الذات.يتوزّع التناص القصدي، في شعر حمدان, على عدّة أنساق تناصيّة, وهي: النسق الديني (القرآن ثم الحديث غالباً)، والنسق الشعبي (الموروث الشعبي العربي والسوري خاصة)، والنسق الأدبي (الشعر القديم خاصة)، والنسق الأسطوري (الأسطورة السورية القديمة غالباً). إن هذه الأنساق هي التي تهيمن على النص الشعري, لتشكل أسلوبيته ـ أو تسهم في تشكيلها ـ أحياناً, كما تسهم في رؤياه الشعرية والأيديولوجية، ومن ثمّ, في وظيفته الاجتماعية. وهو ما يجعله نصاً متناصّاً بامتياز. حتى يخيّل للقارئ أحياناً أن شعرية النص عند محمد حمدان تنهض من التناص, في المقام الأول. حيث إن الشاعر يفيد من النصوص الغائبة, بمختلف أنساقها, أسلوباً أو فكراً أو رؤية, في تعزيز الشعرية، في النص. ولا يعني هذا أن الشعر يتعامل مع النصوص الغائبة تعاملاً إيجابياً بالضرورة. كأن يتبنى أطروحاتها أو أساليبها, كما هي. بل إنه يتعامل معها أحياناً بشكل سلبي, كأن يهدم هذه الأطروحة أو ذلك التركيب, لكي يبني أطروحة أو تركيباً على ما قد هدمه. من دون أن يعني الهدمُ, في هذا المجال, موقفاً رافضاً أو سلبياً. وإنما يعني تغيير السياق الفكري أو الأسلوبي للنص الغائب, في نصّه الشعري. وقد ظهر الهدم لديه, على عدّة أشكال أو مستويات كهدم التركيب وهدم الدلالة وهدم الرؤيا وهدم المنظور الفكري. مما سوف يمرّ بنا في أثناء الحديث عن هذا النص أو ذاك. ولكن في الحالين, حال التعامل الإيجابي وحال التعامل السلبي, ثمة نزعة بادية إلى بناء الشعرية على التناص القصدي؛ كما ثمة نزعة بادية إلى استخدام هذا التناص في أداء الوظيفة الاجتماعية للنص. ولا بأس من الإشارة إلى أن لهذه الوظيفة أثراً كبيراً في الميل إلى أنساق تناصية معينة دون سواها؛ كما لها أثر كبير أيضاً في تراتبية تلك الأنساق, من حيث الشيوع والأهمية، في نتاج الشاعر. إذ إن تصدّر النسق الديني ثم الشعبي ثم الأدبي ثم الأسطوري, في ذلك النتاج, يدلّل بوضوح على أن الشاعر يتكئ, في خطابه, على الخلفية الثقافية للمتلقي العربي, وهي خلفية دينية من جهة، وشعبية من جهة أخرى. وهو ما يعني أن الشاعر يركز على مسألة التواصل التي من دونها, يصعب على النص أن يؤدي الوظيفة الموكلة إليه, وهي وظيفة اجتماعية ـ سياسية. وهو ما يسوّغ تراجع النسق الأسطوري إلى المؤخرة، من حيث الشيوع والأهمية؛ على الرغم من تصدّر هذا النسق في شعر الحداثة العربية، منذ الخمسينيات حتى الثمانينيات تقريباً. غير أن الشاعر محمد حمدان قد قدّم عليه أنساقاً أخرى، انسجاماً مع فحوى الوظيفة الاجتماعية وطبيعتها لديه. والحقّ أن حمدان ليس الوحيد, في ذلك, بل إن عدداً من شعراء الواقعية، في سورية, قد انصرف عن هذا النسق, كرمى للوظيفة الاجتماعية ـ السياسية، وذلك من مثل شوقي بغدادي وممدوح عدوان وعلي كنعان.. إلخ. وقد يكون انصراف الشاعر حمدان عن النسق الصوفي ـ بشكل لافت ـ دليلاً آخر, على إلحاحه على تلك الوظيفة. وذلك على الرغم أيضاً من تصدّر هذا النسق, في شعر الحداثة، في الربع الأخير من القرن العشرين. حتى يخيّل للدارس أحياناً أن شعر الحداثة قد وجد ضالته الكبرى، في النص الصوفي, مثلما كان قد وجد ضالته الأولى، في النص الأسطوري. وعلى أية حال, فإن الشاعر محمد حمدان كان لـه خيار تناصي قصدي آخر, وهو النسق الديني (القرآن ثم الحديث غالباً)، حيث يجري عليه أشكالاً من الهدم والبناء, كما نجد في قوله:يا أنتَ!بطنُ الحوت قومكَوالرمالُوثدي أمك والكتابُوالقهرُ والحرُّ المسافر في جفون الغمدِوالعطبُ المقيميا أنتَ!أرضَكَ ثم أرضَكَقبل أن يرث الدياراتِ الخرابُ(1)يدخل هذا المقبوس, في تناص, مع قصة يونس والحوت القرآنية، ومع الحديث النبوي حول فضل الأم "قال: [أمّك ثم أمّك ثم أبوك], ومع الآية القرآنية, من سورة مريم: إنّا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون (الآية رقم 40), ومع المعنى نفسه من القول الديني المتداول: "إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها". كما يدخل أيضاً في تناص, مع إحدى خطب علي بن أي طالب التي يقرّع فيها أتباعه الذين يتعلّلون بالقيظ والقرّ فلا ينفرون. (الحرّ المسافر في جفون الغمد). وذلك بالإضافة إلى دخول المقبوس في تناصين عفويين، وهما: يا أنت, والعطب المقيم, مع شعر الحداثة عموماً. حيث شاع فيه نداء الضمير أنت, مما ليس معهوداً في الشعر القديم, كما شاع فيه التركيب النعتي الدالّ على الخواء أو الرداءة أو العقم.. إلخ. وفي هذين التناصين نجد نوعاً من التبني للتركيب اللغوي، في حين نجد نوعاً من الهدم أو التحويل للتركيب أو الدلالة أو الرؤيا أو المنظور. ففي جملة "بطن الحوت قومك" تحويل للغربة المكانية إلى الاغتراب الروحي, وفي "أرضك ثم أرضك" تحويل أيضاً لعلاقة النسب "أمك ثم أمك" إلى علاقة المواطنة. أو في مستوى دلالي آخر, نجد فيها تحويلاً للعلاقة الأخلاقية بين الأبناء والأمهات, إلى العلاقة الأخلاقية والسياسية بين الأفراد والأرض أو بين المواطنين والوطن "على اعتبار أن الأرض هي جغرافيا الوطن". ولو أردنا أن نقرأ التناص قراءة أسطورية، لقلنا إن ثمة تحويلاً للواقعي الذي هو الأم إلى الأسطوري وهو الأرض/ الأم الكبرى، في الأساطير السورية القديمة. أما في الجملة الأخيرة "قبل أن يرث الديارات الخراب "فنجد تحويلاً للغيبي إلى المادي ـ الواقعي, أو من اللاهوت إلى الناسوت. وهو تحويل في المنظور الفكري. وكذا فإن هنالك تحويلاً كلياً للتركيب اللغوي، مع الإبقاء على الدلالة والرؤيا, في جملة "الحرّ المسافر في جفون الغمد" بحيث لا يكاد القارئ يتبين مستوى التناص في التركيب. وفي المحصلة، فإن المقبوس قد اتكأ على النص الغائب ـ أو النصوص الغائبة ـ لإنتاج قول جديد, ينسجم والطرح الأيديولوجي الذي يقوم عليه. وهذا ما نجده في قول الشاعر أيضاً:أيها الوقتُ:خذ لي أماناً من الريحِحتى أبوحَ بسرّ الزمرّدِقبل احتضار المكانفمن عن يميني العيونُومن عن شمالي الظنونُأمامي قفار من الشوكِخلفي محيط من العادياتْ(2)في هذا المقبوس عدّة أشكال من التناص, تمّ تحويل النص الغائب فيها بما ينسجم ورؤيا النص/ المقبوس. حيث نلحظ، في الجملة الثانية "خذ لي أماناً من الريح حتى أبوح بسرّ الزمرّد" تناصاً مع القول التراثي الشعبي والرسمي "أعطني الأمان يا مولاي". ونجد فيها أيضاً تناصّاً عفوياً مع العديد من الآيات القرآنية التي تتحدّث عن العذاب الذي ينزل في الأقوام الخاطئة دينياً, من مثل قوم لوط وثمود وعاد, حيث كانت الريح هي الأداة الفعّالة في الهدم والدمار والإفناء. فحين يطلب الشاعر أماناً من الريح, إنما يطلبها من تلك "الأداة" الطبيعية ـ الإلهية المدمّرة. وما يعزّز هذا التناص هو شبه الجملة "قبل احتضار المكان" إذ إنّ تلك الريح حين كانت تسلّط على الخاطئين, تميت النسل والزرع, فتحتضر الأمكنة وتغدو أعاليها أسافلها. مع الإشارة إلى أن الريح, في الأساطير القديمة، لها الفعل نفسه. ونلحظ تناصاً ثانياً مع قول النبي الكريم لعمّه أبي طالب, مدافعاً عن موقفه ودعوته "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه"، وقد جاء هذا التناص القصدي في السطرين الخامس والسادس؛ كما جاء تناص قصدي آخر, في السطرين الأخيرين، مع خطبة طارق بن زياد المعروفة، في جيشه الذاهب إلى فتح الأندلس. ويمكن القول إن ثمة غطاء نصّياً أعلى ـ إن صحّ التعبير ـ للأسطر الأربعة الأخيرة، يكمن في بعض الآيات القرآنية، من مثل الآية التاسعة من سورة يس: وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون ؛ ومن مثل الآية السابعة عشرة من سورة الأعراف ثمّ لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.. .يبدو مما سلف أن الشاعر يعوّل كثيراً على النسق الديني, في موضوعة التناص القصدي, من دون أن يكون خطابه الشعري دينياً. بل هو خطاب ينهض من الأيديولوجية القومية المعارضة, لما هو سائد، في الواقع السياسي العربي المتّسم بالتفكك والقمع والاستلاب بمستوياته المختلفة. فهو بهذا المعنى، خطاب قومي أولاً. وهو توسّل الشاعر, من أجل إنجاز هذا الخطاب, بعدد من التقنيات الفنية، والأسلوبية، وعدد من الأشكال الثقافية والمعرفية، والأنساق التناصية. ولعلّ هذا ما يجعل المستويات الثقافية لنصه الشعري بادية الحضور. إنه نص ثقافي, علاوة على كونه نصاً شعرياً. أو لنقل إن هذا النص الشعري ذو مستويات ثقافية ومعرفية وأيديولوجية عالية النبرة أو الكثافة. ولا شكّ في أن للتناص القصدي أهمية كبرى، في تحويل الأشكال الثقافية الموضوعية إلى مستويات نصية. وبهذا فإن توسيع دائرة الأنساق التناصية يحيل على توسيع دائرة تلك المستويات. وإذا ما كان الشاعر قد عوّل كثيراً على النسق الديني, كما قد أسلفنا, فإنه لم يعوّل عليه فقط, بل أضاف إليه ـ وإن بدرجات أقل ـ كلاً من النسق الشعبي والأدبي والأسطوري. ففي قصيدة "محطات لقطار الزمن الآتي", من مجموعة "صلاة للبحر الأحمر", نجد ما ينوف على خمسة وخمسين تناصاً, نصفها تقريباً من النسق الديني, والنصف الآخر موزّع على بقيّة الأنساق بدرجات متقاربة. مع الإشارة إلى أن القصيدة تمتدّ على اثنتي عشرة صفحة، من القطع المتوسط. وعلى الرغم من أن هذه القصيدة مطوّلة نسبياً, فإن نسبة التناص فيها هي نسبة عالية جداً. وقلّما نجدها في نص شعري بهذا الحجم. غير أن هذه النسبة تدلّل على أن الشاعر حمدان يحاول أن يبني شعرية النص على التناص من جهة، وأن يوسّع بالتناص دائرة الأشكال الثقافية من جهة ثانية، وأن يؤكد على مسألة التواصل مع المتلقي, من خلال التركيز على النسق الديني ثم الشعبي, من جهة أخرى. فثمة, إذاً, عدد من الوظائف التي يقوم بها التناص, في النص عند حمدان, منها ما هو نصي ـ شعري, ومنها ما هو ثقافي, ومنها ما هو اجتماعي ـ وظيفي, مع توكيد أن العلّة الأولى، في التناص القصدي، عند الشاعر، تكمن في الوظيفة الاجتماعية للنص. ولا أدلّ على ذلك من كثافة ذلك التناص في القصائد ذات النبرة الأيديولوجية ـ القومية العالية، وضآلته أو انتفائه أحياناً كثيرة, في القصائد الوجدانية، مما كنا قد أشرنا إليه من قبل. ولا بأس من التوقف, عند الوظيفة النصية ـ الشعرية للتناص القصدي، توكيداً للأهمية التي يوليها الشاعر له, من خلال فعالية الهدم والبناء أسلوبياً ورؤيوياً. يقول, في القصيدة التي ذكرناها آنفاً "محطات لقطار الزمن الآتي":تغيرُ الأصائلُ صبحاوتغدو إلى واحة الشمس ضبحاوتوري زناد الحجارة قدحا(3)ويقول فيها أيضاً:ولا تحسبنَّ الألى يقتلون دفاعاً عن الحقّ موتىفهم في الندى ينعمونْوأرزاقهم في فؤادي وما يوعدونْلهم في السماء سماءٌوفي أرقي سدرةٌ عرضها الأرضُ والأفقُيحيون فيها(4)ففي المقبوسين السابقين، يعيد الشاعر إنتاج عدد من الآيات القرآنية، محوّلاً في رؤياها الدينية، وفي أسلوبها القرآني, مع احتفاظه بمادتها اللغوية الأساسية، وعناصرها المضمونية ـ الفكرية. فليس ثمة فكرة من خارج النص القرآني, وليس ثمة دلالة لغوية من خارجه أيضاً. وكأن الشاعر لا يفعل غير إعادة بناء بعض الآيات القرآنية بما ينسجم والرؤيا التي يسعى إلى طرحها في خطابه الشعري. ولا شك في أن مثل هذه الإعادة تقع في منزلق جمالي خطير. وهو أن يكون المرجع النصي ـ أو النص الغائب ـ هو المادة اللغوية والمضمونية، وهو الإطار الأسلوبي والجمالي للنص المنجز. وكأن هذا النص هو المرجع النصي مفكّكاً. وفي هذا ما فيه من مبالغة تناصية مضرّة، بالنص الشعري. فشعرية النص أعمق وأوسع من التناص بل من الأسلوب اللغوي أيضاً, على الرغم من أهمية هذا في الشعرية عموماً.إننا لا نذهب إلى أن الشاعر محمد حمدان يفعل ذلك في نتاجه الشعري عامة، ولكننا نذهب إلى أنه يكثر من فعله, في القصائد ذات الطبيعة الأيديولوجية ـ السياسية. وإن يكن بشكل أخفّ مما رأيناه في المقبوسين الأنفين. وفي الأحوال كافة, فإننا نجد أنفسنا مطمئنين إلى القول إنّ التناص القصدي هو سمة نصّية، في شعر حمدان, وهي سمة ضاغطة في الكثير من الأحيان. وليس في هذا حكم قيمة سلبي أو إيجابي. بل هو من قبيل التوصيف الدرسي. إذ إن حكم القيمة السلبي أو الإيجابي ينبغي أن يقع على هذا النص أو ذاك, في تعالقاته النصية، لا على التعالق النصي أو التناص مجرداً أو مطلقاً. وإن يكن هذا لا يمنع من الإشارة إلى تلك المبالغات التناصية، في بعض نتاج الشاعر, مما مرّ بنا آنفاً, ومما نجده كذلك في قوله:المهرُ يكبو مرّةًوالسنديان يموت منتصباًوبغلُ الجرِّ بعد الألف يرفس ضاربيهوأمتي..نحفو شواربناونفعل فعل سادتنا الشيوخِونصنع الحلوى ونبكي(5)وإذا ما أردنا أن نحدد الرؤى الفكرية والجمالية التي يعود إليها الفضل في توجيه النص إلى هذا النسق من التناص أو ذاك, أو الأدقّ إلى نوعية معينة من الأبعاد التي تحملها النصوص الغائبة؛ فيمكن القول إن ثمة نمطين من تلك الرؤى. الأول هو نمط الرؤيا الثورية التي تعيد النظر, في مجمل الواقع العربي داعية إلى تغييره, بل نسفه بفعل المقاومة بمختلف مستوياتها. ومن خلال هذا النمط تتولّد شخصية البطولي الجمالية, التي سعى الشاعر إلى بلورتها في العديد من نصوصه الشعرية، عبر مسيرته الإبداعية. أما النمط الآخر فهو نمط الرؤيا الاغترابية التي تتعالى، في نصوص الإحباط, أو تتداخل أحياناً في النصوص المبنية على الرؤيا الثورية. وغالباً ما يبدو الاغتراب مبنياً على لهجة الرفض أو السخرية أو الإدانة. مما يعني أن ذلك الاغتراب ليس من نوع الاغتراب الفردي المأزوم أو المهزوم. بل هو اغتراب المتبرئ من رداءة الواقع وتفاهته. فهو, بهذا المعنى، اغتراب ثقافي ـ أيديولوجي. وقد تولدت, من هذا النمط من الرؤيا, شخصية المغترب المتمرد التي هي الوجه الآخر للبطولي. غير أنه الوجه المنكسر أو المنطفئ غير الفاعل. ونقول هو الوجه الآخر, لأن بين تينك الشخصيتين من العلائق الأيديولوجية المشتركة ما يجعلهما شخصية ثقافية واحدة ذات حالتين إنسانيتين مختلفتين، حالة الصدام وحالة الانكفاء. أي أن ثمة اتساقاً فكرياً ورؤيوياً, في نتاج الشاعر حمدان, يظهر جلياً, في مختلف النصوص والرؤى والمضمونات, كما يظهر في تعامله مع أنساق التناص, حيث استطاع الشاعر أن يطوّع النص الغائب لرؤياه الفكرية بصرف النظر عن كونه نصاً دينياً أو شعبياً أو أدبياً أو أسطورياً.وقبل أن نطوي هذه الأوراق, يحسن بنا أن نعرّج على نصّ, تتراجع فيه الوظيفة الاجتماعية ـ السياسية بل تتلاشى، ويتلاشى معها التناص القصدي. أما النص فهو بعنوان "ضجر":حين مرَّ على هبوة الدرب صمتُ البراريوما زال وقتٌ طويلٌ من البنِّيقرأ أسرارهُبين قوس المدى وتخوم النعاسْسرَّحت شعرهاخصلةًخصلةًثم راحت على مَهَلٍ تتأمّل أحوالهُوتنقّي فضاءَ الخميلةمن مفردات اليباسْ(6)ولكن إذا كان التناص القصدي قد تلاشى, فإنه يصعب قول ذلك بالنسبة إلى التناص العفوي أو غير الواعي. إذ تمكن الإشارة إلى عدّة تراكيب لغوية، في النص, تحيل على هذا النص الغائب أو ذاك إحالة كلية عامة. أي أنها لا تحيل على نص بعينه بل على نسق نصي. حيث نلحظ أثراً للشعر العربي الرومانتيكي في تراكيب "صمت البراري" و"قوس المدى" و"فضاء الخميلة" ونلحظ أثراً كذلك لشعر الحداثة العربية، في الجملة والتراكيب "وما زال وقت طويل" و"سرّحت شعرها خصلة خصلة" و"من مفردات اليباس"... ما بات شائعاً في ذلك الشعر. ومن البدهي أن يدخل هذا النص على قصره في تناص عفوي مع الشعر الرومانتيكي ومع شعر الحداثة. فالشاعر محمد حمدان ينتمي أساساً إلى الحداثة الشعرية من جانب. وكان قد خرج من عباءة الرومانتيكية في بداياته الأولى، من جانب آخر. وفوق هذا وذلك, فإن رؤيا النص تستدعي ذلك التناص اللغوي العفوي.ويبقى أن نقول إن الشاعر محمد حمدان واحد من الشعراء الذين أسهموا في حركة الحداثة الشعرية، في سورية. من منظور رؤيوي عام, يربط الحداثة في الشعر بحركة الحداثة الاجتماعية العربية، ويرى في الشعر شكلاً جمالياً ذا مضمون اجتماعي ثوري تنويري. ولعلّ هذا ما صرفه عن أن يطرح نصّاً شعرياً إشكالياً, على المستوى اللغوي أو الصوري أو النفسي ـ الانفعالي.. إلخ. بل إن هذا ما دفعه إلى أن يعلي من شأن الوظيفة الاجتماعية في الشعر. فجاء نتاجه الشعري تعبيراً عن موقفه الأيديولوجي وتعميقاً لـه في آن.(1) حمدان، محمد: ألفان. اتحاد الكتاب العرب, دمشق ـ 2000. ص: 35 ـ 36.(2) نفسه, ص: 10 ـ 11.(3) حمدان، محمد: صلاة للبحر الأحمر. اتحاد الكتاب العرب, دمشق ـ 1995. ص: 30 ـ 31.(4) نفسه, ص: 32 ـ 33.(5) حمدان، محمد: بين يدي المحيط. دار الحقائق, بيروت ـ 1992. ص: 80.(6) حمدان, محمد: بتغرامو.. وشرفة الأبجدية. اتحاد الكتاب العرب, دمشق ـ 2005. ص: 45.