سلمان حرفوشمحمد حمدان أراد أن يكون شاعراً فكان! حوّم حول مصباح الإبداع الشعري الملتهب طوافاً لا يكلّ, حتى إذا ما ارتطمت الأجنحة الخافقة بالوقد وتعاظمت المعاناة، كانت القصيدة قسر الرغبة والتصميم والمتابعة، لا عفوَ الخاطر الشعري الغالب على أمره. تلك كانت البدايات مع الديوان الأول: "الفارس والعتمة".ومع العمر المتقدم حثيثاً, تماهى الوقد المتوهج مع الأجنحة المضطربة باستمرار فاستقر الهاجس الشعري المبدع في الأعماق لتكون القصيدة الصليب الدامي الذي لا مفرّ منه. وذلك كانت الخاتمة في ديوانه الأخير: "صلاة للبحر الأحمر" الصادر عن اتحاد الكتاب العرب في سوريا, عام 1995. ولكل شاعر عشقه, وعشق حمدان الدفين "عروبي" وحدوي، مشبع بالحنين، والحزن, والأمل, ورمزه لديه جمال عبد الناصر, ساحر الحلم "العروبي" المجنّح في الخمسينات والستينات. ولكن الرمز ـ الحلم تحطم في ومضة خاطفة على صخرة حزيران 1967, ثم كان الموت المبكّر لفارس شاعرنا فأصبح العشق الممض نوستالجيا بحّار ضائع في أعالي البحار بعيداً عن برّ الطمأنينة والأمان.وفي "صلاته" الخاشعة للبحر الأحمر نجد الشاعر مسافراً خالداً من الحزن إلى الحزن, وعلى طريق جلجلة الأحزان "مشكاة" نور: إنها الكوّة المفتوحة في الليل العربي الطويل، انتفاضة الحجر والكرامة في الأرض المحتلة. وهاهو في نشيده الأول المعنون: "قبة الحجر" ـ والقبة هي دون شك "مزار" مقدس، وهي حصراً في نشيده قبة المسجد الأقصى ـ يرتّل:لياليَّ تحبو ببطءٍ شديد الخمولِكأغنية في رؤوس السكاريكخاطرةٍ في جبين الحيارىويملأ سمعي نقيقٌ رتيبٌفيعصف في مقلتيَّ الدوارْتنوس العواصم بين الفجيعة والانكسارْنحن إذن مع حصار الحزن ولكن, بعد الذكريات المريرة, يرى الشاعر "على الرغم من سطوة الليل":أن المنارة شعّت قليلاًقليلاًأنارت سماءً بدت كاليبابِتشقّق ذاك الجدارُجيوش من النمل تحمل قمحاً ورطباًحلمت بأن سيوف الجزيرة عادتْوأن الرباطاتِ قائمةٌ في النفوسِوأن الزغاريد تنتظر الأقحوانْإنها الصحوة الجديدة للأمل ومعها:صحونا على صحوة الرملِأيقظنا النخل يرفع تكبيرة الصبحِوأما الردّ على الجنرال الإسرائيلي المغرور الذي انتظر بعد حزيران "هاتف" الاستسلام من العواصم المهزومة "فهو الجموع صفوفاً صفوفاً":مبايعةً بالحجارةوثوار الحجارة الرائعون أولئك يستحقون من الشاعر الانتقال من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطب مباركةً وتمجيداً:فأنتم فضحتم دعاةَ الحضارةْوأنتمْكشفتم بأحجاركم زيف أهل الصدارةْوأبعد قليلاً يستيقظ اللاشعور الديني ويرتبط الحاضر بالماضي النبويّ:وأنتمْتباركُ أحجارَكم سدرةُ المنتهىونخلٌ أظلَّ نبيّ المحبة من هجمة المفترينْوأسرى يباركها العربيُّ الأمينْوختام القصيدة:فيا أهلنا الطيبينْبأحجاركم نستردُّ الكرامةَفي ظلها نستحقُ الحياةْونجد في هذه القصيدة تقريباً مجمل "ثوابت" حمدان الشعرية، شكلاً ومضموناً, لغة وعمارة فنّية:1. الحزن الموقع على تدافع الانحسار العربي؛2. بوارق الأمل هنا وهناك, ولكنها إشراقات لا توقف هجمة الحزن الكاسحة؛3. تأطير هذه الثنائية غير المتوازنة: حزن # أمل, داخل بنيان شعري شاهق هو أقرب ما يكون إلى ما سوف نسمح لأنفسنا بأن نطلق عليه اسم: المعلّقات الحديثة"؛4. نبش الموروث العربي من الذاكرة الدفينة، وإسقاط هذا الموروث على الواقع تماثلاً أو تناقضاً؛ وهنا يمكنك أن تقرأ قسماً من التاريخ العربي في شعر حمدان, والمفردات الخاصة المميزة له: "النخيل، الرمل, الصحراء, اللون الأسمر, القبائل, الحصان, عنترة، الحسين, آل ياسر....".وإذا أردنا استكمال ثوابت العالم الشعري الحمداني كان علينا الانتقال إلى القصيدة الخامسة: "صلاة للبحر الأحمر" ـ وهي التي أخذ عنوان الديوان منها ـ حيث نجد... مصر و.. "جمالها" الراحل:يا مصرُ أنتِ الجملة الأولى بقاموس الشروقِوأنت في وطن الجفون جناحُ مملكة النسورْالجملة الأولى يرتّلها (جمالُ)...فنضيف إلى الثوابت على الفور:5. مصر, وجمال عبد الناصرونختتم الثوابت مع:6. الأم, التي هي رمز الوطن والأمل, وهي ما سوف نجده في جميع القصائد تقريباً.لقد أمكننا, ويمكن لأي قارئ محايد، استخراج الثوابت الشعرية المحددة التي هي الدمغة الخاصة بشاعرنا, وفي هذا الدلالة الأكيدة على نضج وأصالة التجربة الشعرية فيما كتبه محمد حمدان في مرحلته الأخيرة. وشتان ما بين المبدع ذي الثوابت الواضحة الدائمة، وما بين الناظم ولا ثوابت لديه إلا ما كان من سقطات التكلف والقسر اللذين لا يخفيان عن نظر القارئ العادي ناهيك عن الناقد المتأني!ورجوعاً إلى ديوان "صلاة للبحر الأحمر"، نجد الحزن نغمة أطغى: إنه الحزن الفلسطيني ـ العربي المهيمن على جيل نكسة حزيران 1967. وهذا الحزن "سحبة" القوس الأولى في القصيدة، وهذه قصائد الديوان على التسلسل ومطالعها:1. لياليّ تحبو ببطءٍ شديد الخمولِ...2. تعالي إليَّ مع الليل فالليل منا...3. لمروانَ بيتٌيطل على ساحة الحيّ في عسقلانْيزيّنه الوردُ... (لكنه بيت للوطاويط لاحقاً!!)4. إلامَ تغالب حزنك يا صاحِ...5. طلع النهار على سفوح قبورنا...6. صباحَ الرحيل إلى الغار والجلنارِتجيء وقلبي يفتّته الرجمُيسحقه الشكُّ...7. صحارى يا مرايا الوشمِإني مثقل بالهمّ...8. ما الذي وشّح بالهمّ صباح القبرّاتْ؟...9. إلى من ستحمل يا موكب الرُّخّ أوجاعنا...10. من يدقّ الباب في آخر هذا الدهرِ؟"سحبة" القوس الأولى تلك سحبة طويلة على وتر الحزن. وهي تتردد أصداء متلاحقة على امتداد القصيدة في تنويعات عديدة؛ وتتقاطع هذه السحبات "الحاضرة" مع الأنغام البعيدة للماضي العربي الكارثي والمجيد في آن معاً, فحيناً:واخالداهْفي كلّ همّ كربلاءُ... (صلاة للبحر الأحمر, ص. 45)وحيناً:وحصاننا يستنهض الصحراءَيصهل: عنترهْ... (صلاة للبحر الأحمر, ص. 48)هنا, جنباً إلى جنب مع ذلك الماضي المجيد, تطل "فالسات" مشرقة من الحاضر المظلم... هاربة ومقهورة... نعم, لكنها موجودة رغم كل شيء, بشائر الصبح المنتظر:فيا آل ياسر صبر النبيينَشدّوا الوثائقَستغدو الحرائق برداً وأمناً...(محطات لقطار الزمن الآتي, ص. 39)أو:أرفض الصلب على دفتر حزنيأيقظي الأولاد والأحفاد والليلكَيا أمّ الشهيدْ(مصابيح ذاكرة الأرجوان, ص. 112)وفي القصيدة الأخيرة: "من يدق الباب"، يكون التدفق الحماسي لحناً متسارعاً وكأنه نشيد الوداع, وعد أمل وثورة، بعد طول انتظار:إنني أرفضُموجودٌ أنا في الرفض يا أم الشهيدْناوليني شفة الخمرِارقصيلا زاد في تلويحة العشقِسوى الرقص على بحر من النارِارقصي...إلى آخر هذا الزخم المتدافع حتى نهاية القصيدة, فـ "ما عدا مما بدا!", بعد هجمة الأحزان؟ في وسط هذا الزخم نفسه يعطي الشاعر التفسير:لن يهجرنا الصحوُ إذا كنا نغنيما الذي في جعبةِ الشعرِإذا الشعر انحنى للجائحاتْ؟إن للشعر إذن رسالة بشرى تفيض عن حالة الوعي أو تفيض منها! وعلى البشري الواعدة يكون ختام ديوان محمد حمدان: "صلاة للبحر الأحمر"، وهي نهاية جميلة، نديّة، فلعلّها ـ إن شاء الله ـ تكون من لدن الشاعر نبوءة صدق ـ لا طبخة حصى ـ في ليل التراجع والانحسار! ونحن ـ من جانبنا ـ أملنا الأمل أننا وفّرنا للقارئ الإطلالة الشاملة، رغم التكثيف والسرعة، على مجمل ذلك العالم الشعري الحمداني كما ارتسم في الديوان الأخير... ولنا بالتأكيد عودة إلى مجمل أعمال الشاعر في دراسة تفصيلية تفيه حقّه ضمن مسار الحركة الشعرية السورية، لأنه بدأ يستقل، عن سابق تصور وتصميم... ـ وبجدارة ـ بنكهة خاصة داخل تلك الحركة، ويستحق ما هو أكثر من هذه العجالة العابرة.إشارةنشرت الدراسة سنة 1997.