المؤثرات الأسطورية والتاريخية في الشعر السوري المعاصر
ديوان (بين يدي المحيط) نموذجاًد. محمد عبد الرحمن يونسللخطاب الشعري المعاصر خلفيات ثقافية متنوعة يستمد منها رؤاه وأطروحاته الفكرية، ومن هذه الخلفيات: الواقع والتاريخ والتراث العربي بحكاياته وخرافاته وأساطيره.فالتراث العربي يشكل بالنسبة للفكر الأدبي العربي المعاصر امتداداً وحضوراً فاعلاً، ويتجلى هذا الحضور في استفادة هذا الفكر من بنيات هذا التراث وتجسيدها في أجناس الخطاب الأدبي، سواء أكان شعراً أم قصة أم رواية أم مسرحاً. والأعمال الأدبية التي استفادت من التراث العربي كثيرة جداً، ويصعب حصرها، وقلما نجد كاتباً عربياً إلا واستفاد من بنية التراث العربي، بأنساقه التاريخية والأسطورية والخرافية. إلا أنه من الملاحظ أن الخطاب الشعري العربي الحديث والمعاصر كان أكثر الأجناس الأدبية استفادة من الرمز الأسطوري وإيحاءاته ودلالته.كانت الأسطورة منذ القديم محاولة لتفسير الحياة والكون، وظواهره الطبيعية، وبالتالي هي ظاهرة ثقافية وبنية فكرية في ذاكرة الأمم والحضارات والشعوب، إنها "تشكل جزءاً من لغة التعبير الشعبي"(1).وهي تشكل بنية مهمة من بنيات الشعر، ابتداء من الشعر الجاهلي، ومروراً بالرومانسي حتى المعاصر، لكنها في الشعر المعاصر تبدو مهمة أكثر كتشكيل لغوي جديد، وبالتالي كبنية دلالية عميقة. ويبدو أن اللجوء إلى الأسطورة في الخطاب الشعري المعاصر، أعطى للشاعر مزيداً من الحرية والتخيل والتقنية في استخدام المفردة الشعرية، فكانت الأسطورة عاملاً مساعداً على تشكيل الصورة الشعرية من جهة، ومرجعاً أتكأ عليه الشاعر لإدانة وتعرية البنى السوداء في مجتمعه بطريقة رمزية وإيحائية من جهة أخرى، وأحياناً أدى هذا الاستخدام إلى وقوع الخطاب الشعري داخل دائرة ضيقة من إيديولوجيا انتمى إليها الشاعر، وأراد فرضها على بنية القصيدة، فكانت القصيدة أشبه بتقرير سياسي وإيديولوجي. وبعض القصائد وظفت الأسطورة توظيفاً جمالياً وفنياً، واستفادت من الأيديولوجيا في آن، لكن هذه الأيديولوجيا لم تكن طاغية وطامسة لفنيات الخطاب الشعري الأخرى.إنّ الأسطورة تحمل "أكثر عناصر الشعر بروزاً: الغنائية والصورة والشمول الدلالي، وتقف كما يقف الشعر في منطقة إدراكية تمتزج فيها العواطف بالخيال بالوعي، لتؤلف كلاً كاملاً لا يمكن أن يحمل على غيره، إنها تحيل إلى ذاتها دائماً كما هو الشعر. ولأن هذا الكون الذي تقيمه الأسطورة يمتلك مسبقاً مقوّمات البناء الفني الجاهز بأفكاره وأخيلته ومغزاه الشامل، وجد الشعراء في الأسطورة متكأ يحملون عليه قصائدهم"(2).ومن الأعمال الشعرية الجديدة التي اتكأت على التراث التاريخي والأسطوري، واستفادت منه، ووظفته توظيفاً جمالياً وشفيفاً أحياناً، وأحياناً رمزياً ومعقداً متداخلاً فيما بينه، ديوان "بين يدي المحيط" للشاعر السوري محمد حمدان، وفي هذه الدراسة سأتابع الأسطورة في ديوان الشاعر سواء كانت تاريخية أم من الميثولوجيا القديمة، باعتبار هذه الأسطورة نسقاً بنائياً مكوّناً للرؤية الشعرية، وعلاقة هذه الرؤية بالواقع العربي، وإلى أي مدى تدين هذه الرؤية هذا الواقع بهزائمه وفجائعه، أي أني من خلال الأسطورة قد أفهم الرؤية، وبالتالي قد أفهم مكونات الخطاب الشعري عند الشاعر محمد حمدان، ومضطر هنا إلى اللجوء لكثير من مفاهيم الأيديولوجيا وعلاقتها بالخطاب الشعري المعاصر، لأنّ ديوان "بين يدي المحيط"، رؤية متشابكة تتداخل فيها الأسطورة مع التاريخ، مع الفن والأيديولوجيا والواقع في آن.مع امتداد هذا الليل العربي بقتامته، فوق سهوب المدن والبحار والمحيطات، ومنذ البداية ـ كمدخل شعري قصير ـ يتساءل الشاعر: لماذا يكتب الشقاء على الأمة؟:يا أمتاهْكُتب الهديلُ على الحمامِعليكِهل كتبَ البكاءْ"(3).في قصيدته من أوراق "عبد الله"، مهداة إلى أمل دنقل، وصرخته بوجه كامب ديفيد "لا تصالح"، تتنامى الرؤية الشعرية مع رؤية أمل دنقل، في رفض الاستذلال والركوع أمام أعداء الأمة، ويظهر وجه الأم ببعده التنويري، الوجه الذي يصرخ في وجه أبنائه طالباً منهم وقفة كبرياء، ضد السلطة المستبدة، وضد السلطة الكهنوتية رمز الثبات والسكونية:"قالت لي أمي يوماً:أجهرْ بالحق ولا تخشَ ظلاّمكْارفع رأسك نحو الأعلى كالنخل البدويْواجعل أنفك يشمخُفي وجه الغطرسة الحبلى بالزيفْلا تسمع قولَ الدرويش الميت ذعراًويداه تعدُّ قروش الوالي"(4).ويستفيد الشاعر من دلالات البعد التاريخي لحادثة تمزيق قرآن الله من قبل الوليد بن يزيد، الشخصية التاريخية المتهتكة التي حولت الأمة إلى مستزلمين:"احذرْ شعراءَ وكتابَ ورسامي الردّهْجيشُ الردّة ما زال يقود طلائعهُمن مزّق قرآن الله وقد تعتعه السكرُورافقه الشيطانْ" ص9.تمثل الأسطورة بالنسبة للأدب نموذجاً جمالياً يتكئ على السحر وقوة المخيلة في استحضار النموذج الأسطوري بدلالاته الإنسانية العميقة من حيث امتداد هذه الدلالات، عبر أنساق الزمان الماضي والحاضر وبالتالي المستقبل، فالأسطورة "تتناول أعظم القضايا والمشاكل التي لا تتبدل ولا تتحول... إنها تتناول الحب والحرب، والإثم والطغيان والشجاعة والمصير، وكلها تتناول بطريقة أو بأخرى علاقة الإنسان بتلك القوى الغيبية التي يراها تارة غير منطقية وتارة قاسية، وتارة أخرى عادلة"(5).إلا أن الشاعر العربي المعاصر أضاف لهذه القضايا والمشاكل التي لا تتبدل رؤية جوهرية، تعتمد طاقات الفعل التثويري، وقدرته لأن يعطي الأشياء التي لا تتحول بعداً ديناميكياً ومتنامياً، وغير جامد. فالتاريخ والأسطورة ـ كنسق ماضوي ـ حينما يوظفها الخطاب الشعري المعاصر بفنياته الجديدة، تبقى قادرة على نقل خلفيتها المعرفية، وإيحاءاتها إلى الواقع، وبالتالي تعمل على تغييره وهدمه، حتى ولو كانت بنية معرفية فرزها الماضي بأنساقه المعرفية. ويستفيد الشاعر محمد حمدان من شخصيات تاريخ الجزيرة العربية الجاهلية، ليدين واقع الردة والهزيمة، والجيوش المتراجعة المهزومة.. الواقع المأساوي الذي تعيشه الأجيال المعاصرة، والسلطات التي تتخاذل في الدفاع عن أرضها، وتغرق في حفلات العربدة والسكر:"ما بال كلِّ جيوشكمْجعلت حديدَ دروعها في ظهرهاتركت بأمركُمُ مسالحهالتشهد ضحكة الفِطْيَون(6) يفتضّ البكاراتِ الحزينهْهي حفلة للجنس.. والعري الرخيصِعلى عمائمنا تقام.. على جماجمناونحن الراقصون الشاهرون سيوفنافي وجه حرفٍلم يدّبج خطبةً عصماءَ في شرف القبيلةْ".ص 48.وعبر خطاب الإدانة المستنفر طاقات التاريخ وصيرورته، يدبّج الخطاب الشعري مقطوعة شعرية ساخرة، تدين سيد القبيلة ورعاع القبيلة المهزومة المستكينة:"يا سيدي الطاووس إني خاضعٌ لمشيئتكْيا سيدي الطاووس إنك أنتَ مولاي الوحيدْيا سيدي الطاووس أنت الكلُّ في وطن النعاجْيا سيدي الطاووس يا مهديَّ كلَّ الجائعين الخانعينْيا سيدي الطاووس كلُّ رقابنا جسرٌ لنعلكْيا سيدي الطاووس أمركَ.. ثم أمركَ.. ثم أمركْ". ص 84.ثم يستحضر الخطاب الشعري أبا جهل ومسيلمة الكذّاب، وسجاج. وهي الشخصيات المعروفة بمعاداتها الشديدة للنبوة، والمدّعية النبوة في شبه الجزيرة العربية ـ يستحضرها ليدلّ بها إلى شخصيات عربية معاصرة لعبت نفس الأدوار السابقة، لكن بطريقة جديدة، إذ ساهمت في إذلال الأمة، وتبذير ثرواتها في مناطحة الويسكي وذلك في مدن الغرب الأوروبي ـ بريطانيا وأوروبا."هذا أبو جهلٍ.. مسيلمةُ الجديدُيقود أفواج الحفاةِ ليدفنوا رمسيس في سيناءَوالَحجاجُ يدفع بالذين نجوا لعرس الانتحارْوسجاحُ يملأ رقصها البيتَ العتيقِيقايضون النفط بالويسكي لينتشي العقالْسبحان من أسرىوربُّ محمد أسرى به للقدس فالسمواتِوالإسراءُ في شرع الكبار اليومَنحو العري في مدن الضبابْ" ص 84 ـ 85.إنّ اعتبار التاريخ حقلاً مرجعياً لرؤى الخطاب الشعري العربي المعاصر، يدفع هذا الخطاب لأن يتكئ على كثير من معطيات الأيديولوجيا وبنيتها المعرفية، وبالتالي لا يستطيع الشاعر التخلص من بروز نزعته الأيديولوجية ذاتها، داخل قسمات هذا الخطاب. فإذا كانت الدراسات التاريخية تؤكد أنّ أنصار النبي محمد ، هم بسطاء الشعب وفقراؤه في مكة ويثرب، في حين أن التجار أصحاب الأسواق والقطاعات الزراعية من سادة مكة، هم أعداء الدعوة الجديدة، وبالتالي أعداء محمد، أعداء الطبقات الدونية في المجتمعات الإسلامية الجديدة، فإنّ الشاعر محمد حمدان يؤكد أن تاريخ الحياة العربية المعاصرة، يتناص مع ذلك التاريخ، فأنصار القضايا الإنسانية والوطنية النبيلة هم الكادحون والبسطاء، في حين أن التجار: تجار النفط والنساء والمقايضات، والباحثون عن اللذة في أوروبا هم أعداء الأمة:"مولاي لم يدخل أبو الأوثان دينكَ مؤمناًإلا بتاج الشرق والعزَّى وما ملكت يمينهْمولاي: أنصارُ النبي الأوسُ والطرداءُوالأعرابُ أنصافُ العراة الكادحونَوكلُّ أفواج القداميس الكبار أبو لهبْ" ص 85.وتتجلى تقنية استخدام الرمز الأسطوري عند الشاعر في قصيدته "جلجامش يتقلد سيفاً"،... إذ تتداخل الرموز بشكل كثيف، لتستحضر حالات شعرية تدين وجه الحياة العربية المعاصرة، وتبدو الأسطورة قناعاً ومرجعاً في آن، ومن كثرة استخدام شخصيات ملحمة "جلجامش"، يبدو الخطاب الشعري أحياناً ضبابياً وغائماً وعصيّاً على الضبط والتحليل النقدي.تبتدئ القصيدة بمقطوعة غنائية شفيفة، مشيرة إلى جزيرة مسحورة في بداية بحر الظلمات تسمى الأطنطيد، ثم تبتدئ القصيدة من خلال الأسفار الصوفية، بتوظيف الرمز الأسطوري، عبر رؤية تخيليّة تفترض أنّ العرب كانوا قديماً سادة العالم، إذ فكّوا السحر، ووصلوا إلى الأطلنطيد:"ما بين الأبيضِ والظلماتِعلى أبواب الأطلنطيدملاعبُ موجٍ فارهة الطَولِتقول الأسفار الصوفيَّةُ:إنّ الموجة ثمةَ نصف أنثىنصفٌ سمكهْجاءت أورورُ بهاغبَّ هبوط المشكاة على بابلَ قوسَ قزحْ" ص 33.يتداخل التاريخُ مع الأسطورة، مع السحر، مع مفردات النص القرآني، لتشكل حالة شعرية ليس من السهل فك استغلاقاتها الرمزية، فالموجة نصف السمكة، ونصف الأنثى حالة سحرية ذكرتها مغامرات الملاحين، والسير الشعبية والفولكلوريّة، وقد توحي إلى جمال البحار والمحيطات التي توجد فيها هذه السمكة، وبالتالي الانتقال من فضاء مكاني محدود إلى فضاء أعمّ وأشمل، هو فضاء المجد القديم والحضارات القديمة،وفضاء الوطن والأمة، فإلهة الخلق أورور أبدعت هذه الحالة الجمالية في جزيرة الأطنطيد، وتتجسد هذه الحالة الجمالية في حضارة بابل القديمة، التي كانت أمّ الحضارات ومنارة للعلم والمعرفة، ويستخدم الشاعر لفظة "مشكاة" و"قوس قزح"، ليشير إلى أفق هذه الحضارات المشرقة."إن الأدب ليس سوى أساطير أعيد تجميعها، وإنّ عناصر البناء فيه تستمدّ كيانها من الأساطير، وهنا نستطيع أن نرى في الأدب كياناً واحداً معقداً هو نفس ما نراه في الأسطورة من كيان أكثر بساطة وسذاجة لا يعدو كونه حشداً كلياً من الإبداع اللفظي. وما في الأدب من شيء ذي شكل وهيئة إلا وله شكل أسطوري مناظر هو الذي يأخذ بأيدينا إلى مركز هذا الحشد من البناء أو الكيان اللفظي. وبقدر ما تنصرف الطبيعة النقدية إلى دراسة تعانق الأدب مع الحياة، وملاءمة الكلمات للأشياء، يبعد بنا النقد الأسطوري عن "الحياة" إلى عالم أدبي مستقل في كيانه وذاته هو هذا البناء الأدبي، بيد أن الأسطورة... تعني أشياء كثيرة إلى جانب البناء الأدبي، وليس عالم الألفاظ والكلمات بالعالم المستقل تماماً في ذاته وكيانه"(7).وفي نفس القصيدة يقول الشاعر:"على أبواب القلعةأهداب البدويات المكحولةُالرمش كما الخنجر يسبيكَ فتصبح ملحاًيتطاول صوت البوغازِيصكُّ السمعَيفيقُ الميناءُ المسكون ذباباً... طاعوناً.. حمّى:"أرفضكم يا عربَ المشرقِأرفضكم يا عربَ المغربِأرفضكم يا عربَ الأقنعةِالدفِّ.... الأنفارِالخطبِ المنقوعة بالوحلِ" ص34.ومن فضاء الأطلنطيد وأبواب قلعته.. فضاء السحر والأسطورة، وفضاء الحالات الجمالية التي تشكلها البدويات، اللواتي يشكلن حالة أسطورية أيضاً برموشهن الساحرة،.. يأتي خطاب الإدانة لكل حالات التراجع والهزيمة العربية، والردّة الحضارية التي أزاحت العرب عن تاريخهم المشرق.. ويستخدم الشاعر عبارة: "الميناء المسكون ذباباً"، لتشير بحمولتها الدلالية والأيديولوجية، إلى حالة الانكسار العربي السالفة الذكر..يستنهض صوت البوغاز ـ معبر الحرية والاستشراف المستقبلي ـ الذاكرة العربية من انكساراتها وهزائمها، فتصبح موانئ العرب المسكونة بالذباب رفضاً وسُخطاً، فالميناء في بنيته الدالة هو فضاء للتوق والحرية، والمراكب والسفن والقلاع، والرحلة والتجدد، لكنه داخل حقل الاستخدام الأيديولوجي والأسطوري هنا، يتحدد ليشير إلى كل الفضاءات العربية السوداء، التي تهيمن عليها شعارات التشدق والخطب الجوفاء الفارغة، وأصوات الدفوف والطارات، هذه الأصوات التي لا تحدث إلا الخواء الإنساني، وحالةً من التراخي والانهزامية، في حين أنّ الفعل الجمالي البديل لحالات هذا التراخي، يضمر في فضاءات العالم العربي الكالحة، والغارقة بالطين، ويتلاشى الأمل لولا قلة من العرب، عرب البارودة، وبقايا أحفاد عظماء التاريخ العربي، كعقبة بن نافع، الذي وصل إلى المغرب وفتحه، ومحمد بن القاسم الذي فتح المنطقة الفارسية حتى وصل إلى الصين، لولا هذه القلة لرفض صوت البوغاز ـ أو تحديداً صوت البديل، أو الصوت الآخر غير الانهزامي، صوت الطليعة الواعدة ـ لرفض كل الشرق، وكل فضاءاته وشموسه الغائبة:"لولا عربُ البارودة في الأغوار ووادي الحمةِفي كل دروب الأرض المحتلةِفي كل زواريب الليل المظلمِما بين المتبقي من راية عقبةَ وابن القاسمِلولا عربُ الشوق السريّونَلكنتُ رفضت الشرق وشمس الشرقْ". ص34.إنّ استخدام الرمز الأسطوري والتاريخي، من أهم إنجازات القصيدة العربية المعاصرة، على مستوى الرؤية، وعلى مستوى تطويع التراث، وإحياء ما في التراث من قيم جمالية، وقد عمد الشعراء المعاصرون إلى "أن يجيء شعرهم على أرفع درجةٍ من الثقافة العريضة الغزيرة، حتى لكأنما مهمة الشاعر أن يتحدث إلى نفسه أو إلى أشباهه من المثقفين، وكان ذلك الاتجاه من الشعراء بمثابة الدفاع الجاد عن الثقافة العربية وعن تقاليد الحضارة الإنسانية كلها من ديانات وآداب ونظم اجتماعية وتأملات فلسفية وغيرها، وكيف يصنعون ذلك؟ يصنعونه بالإحالات التاريخية التي لا يكاد يخلو منها سطر واحد من القصيدة، وبديهي أن بناء قصيدة على هذا الأساس الثقافي الذي يراد لـه إحياء القيم الحضارية على مدى التاريخ، أقول إنه من البديهي أنّ بناء قصيدة من هذا الطراز لا يجيء عفو ساعته ولا وَحْياً سهلاً هيّناً يوحى به إلى الشاعر دون الحاجة منه إلى عناء، بل هو وليد دراسة الأولين والآخرين"(8).وتمتد الإحالات التاريخية والأسطورية في ديوان "بين يدي المحيط"، إلى فضاءات حضارية وثقافية متعددة، إلى فضاءات النص القرآني، وفضاءات أسطورة الفينيق، وجلجامش وأرش كيغال، إلهة الموت، وحضارات بلاد الرافدين ومصر القديمة، واليمن، ويستفيد الشاعر محمد حمدان من كل هذه الفضاءات التي تبدو شديدة التداخل، يصعب فصلها، وتحديد كل إيحاءاتها على حدة. يقول الشاعر:"كان الفصلُ شتاءًالعهنُ المنفوش يطير رذاذاًتكبرُتكبرُ ما بين الأمواجِ الفجوةُأمي طردتنيكنت أعيش بجوف الحوت المملوءِ سعالاًلا أعرف طعم الشمسِغدوت مع الفينيقِزرعت دروب الرمل بكاءًكانت فيضانات في دجلةَ والنيلِومأربُ ضاقت فيه الجدرانُتجمّدَ سطحُ المتوسط يغرينيأبحرتُ وأرشانابيغرّبتُ على وهج شعاعٍ يحمله الفينيقُأفكرّ في ملكوت الشرق المتخم بالظلمِوسيدوري تسكرهُإركالاً تمسك جمّتهُتسحبه نحو القاع السفليّ ومملكة الموت الوثنيةْ" ص 35 ـ 36.وتتضافر الإحالات الطقوسية التي تشير إليها مفردات كالمزامير والكشف والأستار، والحالات الأسطورية التي تشير إليها شخصيتا نيسابا وآنو، الأسطوريتان، اللتان ذكرتهما الأساطير، لتؤكد أن العرب المعاصرين في حالة سكون قاتلة ومميتة، وأنهم لم يفعلوا شيئاً تثويرياً من شأنه أن يفكّ أسرار القلعة المسحورة "الأطلنطيد"، وبالتالي يكتشفون جماليات وسحر هذه القلعة وما تحويه، ولم يفتحوا بابها الذي يشير رمزياً وبنيوياً إلى أنه نافذة للحرية، والبحث عن بديل، فهم اتكاليون، انهزاميون ومستسلمون، فبدلاً من أن يأكلوا من عرق جبينهم، ويحرسوا أنفسهم، ويغيروا واقعهم، فإنهم يلجؤون إلى إلهة القمح (نيساباً) لتطعمهم، وإلى "آنو" الإله الأسطوري ليحميهم:"وتقول مزاميرُ الكشف الصوفيةُ:منذ دهورٍ موغلةٍ في الغابرِلم تنفتحِ الأستارُولم تسمح أمواجُ البوغاز لنسمة صيفٍأن تخترق الأعماقَلذا لم تتغير في ماء البحر ملوحتهُنيساباً تطعم أهل القلعةِآنو يحرسهمْ" ص 34 ـ 35.إنّ انفتاح النص الشعري على أسطورة جلجامش وطاقاتها الإيحائية، أمدّ القصيدة بطاقة من الحلم والتّخيلُ، ساهمت هذه الطاقة بدورها في صياغة لغة بعيدة الدلالة من جهة، وفي صياغة رؤية شعرية عمّقت إحساس الشاعر والمتلقي من جهة أخرى بمآسي أمتهما، وتراجعها الحضاري.وكان اللجوء إلى الأسطورة نافذة للفرح، ومعادلاً موضوعياً بديلاً عن خيبات الإنسان المعاصر وأزماته الروحية والحضارية، والشاعر المعاصر الذي يستخدم الأساطير يضع نفسه في مواجهة العالم، ذاتاً واعيةً لبنيات هذا العالم السوداء، وقادرة على كشفها،ووضع البديل لها، عن طريق استنفاده للشرط الإنساني الكامن في أعمال الأبطال والآلهة الأسطورية، ومن ثمّ التأكيد على هذه الأعمال الإنسانية النبيلة كونها تجسد حكمة الشعوب وخبرتها المعرفية، و"كل فكر أسطوري هو فكر أزمة، كما أنه فكر يشتمل على عالمين متمايزين يكون صانع الأسطورة بينهما منقسماً على ذاته راغباً في التوحيد بينها، وقد يكون هذان العالمان هما الواقع والحلم أو الداخل والخارج أو الأنا والآخر أو الإنسان والعالم أو غير ذلك من الثنائيات، كذلك فإنّ أي شاعر أسطوري هو شاعر يقوم بإسقاط الكثير من الأفكار والأحداث والتفاصيل الخاصة بالآلهة والطبيعة والأنبياء والقديسين على ذاته، إنه يتصور نفسه إلهاً أو نبياً أو ذاتاً متعالية تنطق بالحكمة لكنها تعاني أيضاً كل ما يعانيه البشر بطريقتها الخاصة. يعاني الشاعر، خلال هذه الحالة الكليّة، حالة من التأرجح بين الانقسام والتوحد، كما أنه يمرّ خلال ذلك بحالات من الآلام الشديدة والمعاناة والمكابدة، ثم العبور إلى قدس من الأقداس حيث الفهم الكلي ثم الحكمة المصفاة، وخلال ذلك يستخدم الصور وغيرها من الوسائل الشعرية لتكثيف الأزمة، كما يستخدم قراءاته فيقوم بعكسها أو قلبها بأشكال دالة كي تعبر عن ذلك الوعي الأسطوري، خلال هذه العملية تكون كل كلمة هي قناع كما يقول نيتشه. وعلينا أن نحاول أن نبحث دائماً وراء كل كلمة، عن المعاني الكامنة وراء قناعها الحرفي الظاهري الذي يواجهنا"(9).إنّ الوعي الأسطوري هو وعي شعري في المحصلة الأخيرة، ويقوم هذا الوعي بدوره، في التأكيد على رؤية الشاعر وأيديولوجيته، انطلاقاً من الأنساق الشعرية الأسطورية ذاتها.وحين يوظف الشاعر محمد حمدان في نصوصه الشعرية عدة إحالات تاريخية أسطورية ـ سبق ذكرها ـ نلاحظ بروز الوعي الشعري، من خلال صوت البوغاز الرافض، الذي يشير إلى صوت الطليعة والنخبة.يؤدلج الشاعر قسمات هذا الصوت من خلال المقطع الآتي في نفس القصيدة:"يأتيني صوتُ البوغاز المالحُأتركُ كوخيَ والوحلَ ومستنقعَ حزني:أنتم في الحكم ملوكُ طوائفْفي الملّة والدين شيوخُ طوائفْأكرهكمْماضيكم يكرهكمْوالحاضر لا يأملُ خيراًوالمستقبل يرفضكمْ حاشا عرب البارودةْ" ص 35.قديماً كانت الأسطورة وسيلة أساسية من وسائل تفسير ظواهر الكون، ولذا قلما يخلو عصر من العصور من الأساطير، ومدى تأثيرها في طبيعة العلاقات البشرية اجتماعياً وفكرياً، حتى أنها لدى كثير من الشعوب تشكل بنية طقسية مقدسة يحتفى بها بإجلال واحترام عميقين. ويرى كلود ليفي شتراوس "أن الأساطير والحكايات الجارية في الحياة هي المدخل المباشر لفهمٍ معقول للعناصر غير المفهومة في بعض أشكال الإبداع الشعبي، والرموز التشكيلية لدى بعض المجتمعات، فالأساطير والحكايات هي التي تقودنا لفهم هذه الرموز وتفسيرها. إنّ جهود الأثريين مع جهود الأثنوجرافيين سوف تساعد في إلقاء الضوء على العناصر المبهمة من ثقافات الشعوب"(10).وفي ثقافات الشعوب المعاصرة تتداخل الأسطورة مع التراث، والخرافة والحكاية، حتى أنه ليصعب إعطاء ملامح خاصة بها، تفرقّها عن غيرها.ولقد استوعب الشاعر العربي المعاصر درجات تداخلها وإبهامها، وغموضها، فمزجها تارةً بالتاريخ وأخرى بمعالم مدينته وحضارته، وثالثة في علاقته مع البنيات الثقافية التي يعايشها سياسياً واجتماعياً. إنّ "الوعي بالتراث والوعي بالدور التاريخي هما القدمان اللتان يمشي بهما التراث، واللتان تقودان خطواته وتوجهاتها. ولا يمكن أن تتحقق مسيرة بقدم واحدة.فالوعي بالتراث دون وعي بالدور التاريخي من شأنه أن ينتهي بهذا التراث إلى الجمود، حيث تغيب كل الفعاليات اللازمة لاستمرار حيويته، والوعي بالدور التاريخي دون وعي بالتراث يمثل قطيعة أبستمولوجية ضد تاريخية الإنسان النفسية والعقلية"(11).وفي المقطع الآتي يستفيد الشاعر محمد حمدان من الخلفيات المرجعية التراثية والأسطورية الآتية مؤكداً دورها التاريخي، وعلاقات هذا الدور بتطلعات الإنسان المعاصر:1 ـ شخصية طارق بن زياد التي ترمز إلى الشعلة والمنارة، وأفق المستقبل التثويري.2 ـ النخلة كرمز لشموخ الإنسان العربي وعزته كونها تحمل استقامة السيف.3 ـ بعض مفردات نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب "كرم الله وجهه".4 ـ الواقع العربي الفاسد الأسود واقع النفط، وما يشير إليه من حالات العربدات، وهزّ الأرداف، والخصور.5 ـ أسطورة عشتار وتموز، ودلالاتها البنيوية والرمزية على مستوى الخصب والنماء والجمال.يقول الشاعر: "أيقظني صوتُ البوغازِيميد سريرُ البحر على نبرتِهِ:كلُّ ملوك المدن المفجوعةِأطعمت لحومَهُمُ أسماك محيطِ الظلماتْلم تبقَ بجوفيَ أسمالُ قذارتهِمْحسبيْ أنَّ بجوفيَ شعلةَ ذاك الطارقِ بابَ الآتييعطيها الزيتَ دمُ الآلاف من السمرِ... انصهرواليعيشَ النخلُ على أبواب العشقِ الأندلسيِّيظلاّن بقلبيَ: الشعلةُ والنخلةْماتت بدخان النفط مجامركمْما بين الغمزة والسرّة والردفوبين القرِّ الشتويِّ وحرِّ الصيفِوبين النهبِيُعمّد أطفال بيوت القصديرِ بخمرِ الحيفِدفنتم ما خلّفه الأجداد لكمْمزّقتم محرابَ القدسِ اليومَوكلًَّ نزوع النخلِ لشمسٍ دافئةٍ سمراءَ غداًهل جئتَ لتطفيءَ شعلة عشتارَ وتموزْ؟اغربْ عن وجهيَ يا مبعوثَ الشرِّ؟" ص 37.إنّ الخطاب الشعري العربي المعاصر، برؤيته الجمالية وفضائه، الذي ينمو متسعاً ليشير إلى بنيان المجتمع بكل حالاتها الإنسانية والثقافية والسياسية، اتكأ على الرمز الأسطوري، لما لهذا الرمز من قدرة على استحضار وكشف الجوهري والإنساني، في علاقة الإنسان مع الطبيعة والمجتمع والزمان والتاريخ، وبدا الرمز الأسطوري في الخطاب الشعري قناعاً تحتمي وراءه الذات الشاعرة.. وهذا راجع إلى فسحة الحريات المهمّشة، والظلمة في العالم العربي. ومنذ أنْ بدأت ظاهرة الرمز، تطغى على بنية هذا الخطاب بدأت الحركات النقدية ترصد إحالات هذا الرمز وتداخله مع الأحلام الغائبة، والرغبات المكبوتة، لكن هذه الحريات لم تضع حتى الآن مصطلحات علمية ونقدية دقيقة، ودراسات مقارنة حول ماهية الرمز الأسطوري، وبنيته من خلال انتقاله عبر المثاقفة الحضارية بين الأمم والشعوب، ولذا يجد الدارس صعوبة واضحة في استكناه هذا الرمز، وسيميائيته التي تبدو مغلقة في كثير من الأحيان، حتى أنّ المعاجم اللغوية التي ذكرت بعض هذه الرموز تبدو قليلة جداً، "وقاصرة قصوراً واضحاً عن خدمة الشعر. أضف إلى ذلك حاجتنا إلى معاجم أخرى كثيرة تحدثنا عن الأساطير العربية. والعلمُ بالأساطير يثري فهمنا للشعر... فقد نشأ الشعر العربي كغيره من الشعر في أحضان الأساطير، والأساطير جزء هام من النشاط الروحي. وإذا لم يكن بدّ من أن يقرن الشعر العربي بأشياء فلتكن الأساطير، وسائر الفنون والاعتقادات الدينية، فكل هذه العناصر تؤلف مجالاً متشعباً متفاعلاً"(12).إننا إذا اتجهنا إلى البنيات الأسطورية في قصيدة (جلجامش يتقلد سيفاً)، نلاحظ أنها ليست معزولة عن بقية البنيات الرمزية والتاريخية الأخرى في الديوان، وهي متشعبة ومتفاعلة معها، في كل الفضاءات الشعرية، إذ يتحدد فضاء البنية الواحدة في أكثر من قصيدة، ويتكرر كفضاء اليأس والحصاد والجوع والعري، والردّات العربية، والإذاعات العربية الخاوية، والأبطال الأسطوريين المهزومين، وبنيات الشرّ والكذب التي تتمثل في بعض الشخصيات التاريخية كسجاح ومسيلمة الكذّاب وأبي جهل وخمبابا واركالا.. وهكذا تترابط القصائد الشعرية، فيما بينها، لتشير إلى فضاء نصي عام، هو فضاء البحث عن قيم جمالية ونبيلة لم تتشوه بعد، ويمكننا أن نقول مع الناقد التشكيلي بيير زيما: "إنّ كل نص يمثل معنى في علاقته بالنصوص الأخرى.... فالنص المعزول وحده لا يمكن وصفه بالمقارنة مع مصالح اجتماعية وخطابات أيديولوجية، أو أنظمة قيم اجتماعية أو رؤى للعالم"(13).في المقطع الشعري الآتي، تتساند هذه البنيات لتشير إلى بعض الأيديولوجيا، متداخلة مع رؤى للواقع العربي، ومع حالات من الحلم تارةً، وشيء من الرومانسية الثورية تارةً أخرى:"بقيةُ جلجامش في الأرض العربيّةِهذا المنبوذُ الواقفُ قدّامكْفافتح بابَ القلعةِيرجو أن يتطهّرأن يركعَ في محرابِ السيفِويحفظ كلّ طقوس الحبِّوكلّ فنون الطارق في الحربِليحرقِ أسطول اللذاتِوأسلاكَ إذاعاتِ الردّة والقبليّةْدعه يتعلّم من عروَةَ قرآن أبي ذرْخمبابا ابتلع الغابةَ والنهر ومال النفطِوساومَ غربان الميناء على جثث الأعرابِيكاد الليل يمرُّ عليهمْلا يتركُ للريح وميضَ ذبالٍيتحدّث عنه لمن يأتي بعد الطوفانْصديق الرحلة أنكيدوقتلته سجاحٌ ومسيلمةُ الكذّاب على أبواب الغابةِجلجامش أضحى معزولاً ومحاصرْ" ص 38.قد يتساءل القارئ الكريم: ما العلاقات الإشاريّة القائمة بين جلجامش وطارق بن زياد، وعروة بن الورد، والقرآن الكريم، وأبي ذر وخمبابا ومال النفط، وأنكيدو وسجاح ومسيلمة الكذّاب، حتى تغطي بهذه الكثافة فضاء النص الشعري..؟.. وهل الشعر فضاء لأسماء الشخصيات الأسطورية والتاريخية، أم هو فضاء للتخيّل والإبداع، والكشف؟.إنّ محاولة تأويل الرمز الشعري تأويلاً دقيقاً، وفهمه كبنية نصيّة، هي أشبه بحل معادلات الرياضيات، أو فكّ استغلاقات المتواليات الهندسية، والرموز اللوغاريتيمية،.. ولذا فالرمز الشعري عصي على الضبط، وهو بنية سيميائية معقدة، لها حقولها المرجعية الممتدة في التراث والأسطورة والأحلام، واللاشعور الجمعي ـ collective unconscious، حسب مصطلح كارل يونج، هذا اللاشعور الذي يظهر عند الإنسان المبدع في "رؤى الفنان ووحي المفكر وتجربة المتصوّف"(14).وبلا شك قد يحتاج الرمز إلى تأويل، كعمل أولي لفك استغلاقاته، ومن ثمّ إيجاد فضاء جمالي بين حالة الرمز، وبين حالة المرموز إليه، ورغم المحاولات المتباينة من قبل الدارسين والنقاد لتأويله، ومع ذلك يمكن القول إنه "ليس هناك حدود لتأويله"(15).كل محاولة لفهم الشعر فهماً نصيّاً ضيقاً، هي محاولة محكومة، بأفقها الضيق، لأنها لا تتعدى حدود التشبيه والاستعارة، والعلاقات البلاغية التي تعارف عليها النقد القديم، إذ ينصب اهتمام الناقد والمحلل الأدبي على مجموعة مقولات جاهزة: يريد الشاعر أن يقول، ويقصد الشاعر بقوله كذا وكذا، ويشبه الشاعر هذا بذلك، وهذا عائد إلى بيئته وظروفه الجغرافية، وظروف مرضه التي عاش فيها.إنّ مثل هذه الكليشهات الجاهزة، والتي لا تزال تتحكم في كثير من نصوصنا النقدية المعاصرة، والصفحات الأدبية لصحافتنا اليومية، لم تساهم إلاّ في قتل طاقات النص الإيحائية، وقدرته على أن يكون نصاً منفتحاً ومتنامياً مع نصوص وثقافات معاصرة أخرى، طبيعي أمام التباينات الفكرية والثقافية السائدة في الأوساط النقدية، أن يتفكك المنهج النقدي نفسه، وأن يكشف عن إمكانات جديدة تنتمي إلى كافة الحقول المعرفية، من فلسفة وفن وتاريخ وميثولوجيا وأساطير، لما للأساطير من أهمية بالغة في "الكشف عن النماذج المثالية لكل الطقوس وكل النشاطات البشرية الدالة"(16). والشعر من أهم هذه النشاطات عمقاً وبعداً ودلاله.نعود إلى المقطع السابق، لنرى أن الشخصيات الأسطورية و التاريخية محكومة برؤية أيديولوجية برزت من خلال الفضاء الشعري على شكل ثنائيات ضدّية: ثنائية تجسد قيماً جمالية وخيّرة: جلجامش، طارق بن زياد، عروة، القرآن، أبو ذر، أنكيدو.وثنائية ضديّة تجسد عكس القيم السابقة: خمبابا ـ الردّة، القبليّة، الظلام والفوضى العربية التي تشير إليها لفظة "الغابة"، سجاح، مسيلمة الكذّاب، الإذاعات العربية الطامسة للحقائق، مال النفط المنهوب من قوت الأمة وعرقها، والمبذر على اللذات الرخيصة.إن العلاقات الإشاريّة القائمة بين هذه الشخصيات هي علاقات رؤية وتاريخ وفن، فأبو ذر وعروة، يربطهما مفاهيم النص القرآني الجمالية والخيّرة، ويربطهما توق البحث عن أفق مشرقٍ، يحقق للبشرية، سلاماً وطمأنينة وعدلاً، بحيث لا ينفى أبو ذر وحيداً شريداً إلى صحراء الربذة، ولا يفني عروة بن الورد زمانه ضائعاً وجائعاً ومتصعلكاً في بوابات الصحراء ومفاوزها باحثاً عمّا يسدّ رمقه هو وأصحابه الصعاليك، ولا يموت عطشاً، في حين أن أفراد القبيلة وشيوخها وزعماءها يموتون تخمةً وسكراً، ومالاً وحريراً وجواريَ، وجلجامش وأنكيدو يربطهما التوق إلى اكتشاف المجهول، والقضاء على عنصر الشر الكامن في رمزية خمبابا، واكتشاف النبتة المقدسة، التي تعطي لأبناء البشر زماناً نظيفاً وخلوداً يجعلهم في مصاف الآلهة.والثنائيات الضديّة في القصيدة المعاصرة هي حمولات أيديولوجية، تشير إلى الظواهر الثقافية والإنسانية والاجتماعية في المجتمع ببعديها السلبي والإيجابي، واعتمادها في القصيدة المعاصرة ليست تجربة مقصودة لذاتها، بل في قدرتها على الإيحاء بعمق الفكرة، وبعدها الإشاري، وعندما يقتصر استخدامها على القصيدة، تتحول إلى بنية نصيّة... يغلب عليها الافتعال والصنعة، وتفتقد في الحين إلى الإبداع والتّخيل. وتوظيف الأسطورة في الشعر المعاصر، ينبغي أن لا يكون ظاهرة قصديّة، بل هو استحضارٌ لبنية جمالية، يتماهى فيها الإنسان مع قيم فوق عادية، لا يستطيع تحقيقها إلا الأبطال الأسطوريون، وهو رفض للزمان الحاضر ـ زمان الفاجع والقتامة ـ تماهياً مع زمان أكثر شفافية وخيراً وعدلاً، ويمكن القول مع ميرسيا إلياد:"إن الإنسان وهو يعيش الأساطير، يخرج من الزمان الدنيوي الكرونولوجي حيث يلج زماناً مختلفاً كيفاً، زماناًً "مقدساً" أوليّاً، وهو في الوقت نفسه زمان يمكن استعادته على الدوام"(17).والشعر في خطاباته، وبنياته النّصية الأسطورية هو محاولة دائبة البحث للخروج من أزمنة السواد الدنيوية، وتأسيس أزمنة بيضاء لا طغاة فيها، والعلاقات الإشارية والبنيوية التي تجمع سجاح ومسيلمة الكذّاب، وإذاعات الردّة العربية ومال النفط، ـ في قصيدة جلجامش يتقلد السيف ـ واضحة جداً في تاريخنا المعاصر، وليست بحاجة إلى أي تأويل أو تفسير.إنّ "استغلال الأسطورة في الشعر العربي الحديث من أجرأ المواقف الثورية فيه، وأبعدها آثاراً حتى اليوم"(18).وتتجلى جرأة الرؤية في ديوان "بين يدي المحيط". في كثير من المواقف، منها المز ج بين دلالات الأسطورة البابلية "جلجامش"، وبين التاريخ، إذ يتداخل التاريخ مع الأسطورة، وتصبح الأسطورة قناعاً للتاريخ، والتاريخ قناعاً تختبئ وراءه الذات الشاعرة. في المقطع السابق:"صديق الرحلة انكيدو.قتلته سجاحٌ ومسيلمة الكذّاب على أبواب الغابة" ص 38.وبمحاولة تأويل المقطع نلاحظ أن "أنكيدو" يعني البطل الثوري والمفدي والمخلص، وهو هنا إما أن يكون عبد الناصر في مرحلة مدّة القومي والوحدوي، وإمّا أن يكون إشارة إلى العمل الفدائي في تفجيره وعطائه الثوري، وقد يكون الحلم العربي المشرق، في الحرية والكرامة، أو فكرة الثورة والحق والعدالة.قد يكون أنكيدو جزءاً من هذه الرؤى، أو كلها في آن..، لكنه يبقى نافذة الفرح، أو النور الهادئ، الذي يهتدي به البطل الأسطوري جلجامش،.. وبالتالي بقية جلجامش وأحفاد طارق الموجودة على الأرض العربية. وتختبئ الذات الشاعرة أيضاً وراء قناع "الفينيق"، الطائر الأسطوري المتجدد، الذي يحرق نفسه كلما هرم، ثم يعود متجدداً، فالفينيق هو صوت البوغاز، وصوت التغيير، وصوت البحث عن بديل"."قال الفينيقُ:بقيةُ جلجامشَ في الأرض العربيةِهذا المنبوذُ الواقف قدّامكْفافتح بابَ القلعةِيرجو أن يتطهّر" ص 38.إن انفتاح باب القلعة رمزّياً، يشير إلى تدفق الآفاق، والعطاءات البديلة، هذه الآفاق المشرقة، تحديداً، ستقف في وجه سَجاح ومسيلمة الكذاب، وغربان الموانئ والغابات العربية. والصوت الأسطوري رمزياً وتاريخياً ـ عبر فضاء النص الشعري ـ ينفتح على فضاءات ا لحياة العربية السوداء، بعد أن ضاع الجهاد منها، وبعد أن قتلتها القبليّة والصراعات الطائفية والمذهبيّة في الأزهر والنجف، وبعد أن تحوّل النفط في الصحراء إلى سيّد مطاع، وبعد أن وئُدت الأحلام الثورية وطاردوها في البتراء، وبيروت وحيفا، وبُددت طاقات المغرب العربي الاقتصادية والعسكرية من ليبيا إلى المغرب "صنهاجة"، في رمال الصحراء، أي تحديداً في حرب البوليزاريو مع المغرب:تقول القصيدة: "افتح بابَ الحصن لهُنجدٌ غرقتْ فيها حباتُ السبحةِ بالنفطِوصنهاجةٌ تلعب بالرملِ......ومئذنةُ البتراء تطاردُ حلماًفرّ إليها من أنطاكية المأسورةْوالحلاّج تشقّق مصحفه مذ ضاع الركنُ الخامس منهُوصحن الأزهر في معركة لاهبةٍمع بهو النجف الغارق بالحزنِومآسٍ أدهى تقرع أبوابَ البيتَفلا قببُ القرويين ولا المنبرُ في الزيتونةِيسمعُ صوت الصخرةِ والإسراءِ:لقد ماتت بيروتُ وحيفا" ص 39 ـ 40.وتنتهي القصيدة ببارقة أمل خضراء، وتضع الرؤية الشعرية مشروعها الفكري والحضاري، في استشراف آفاق المستقبل، فالمستقبل لابدّ آتٍ ومشرق، طالما أنّ في الأرض العربية خصباً وأحفاداً لجلجامش توّاقين للرحلة والثورة:"لا تخشَ الآتي يا فينيقُفجلجامشُ ليس عقيماًشعب يحرق ذيلَ الطاووسِ ويحملُ سيفاًلن يقتله خمباباجلجامشُ سوف يحطّم خمبابا يوماً". ص 41.(1) ـ د. خليل أحمد خليل، مضمون الأسطورة في الفكر العربي المعاصر، دار الطليعة، بيروت، المقدمة، ص 6.(2) ـ محمد الأسعد، مقالة في اللغة الشعرية، المؤسسة العربية للدراسات والشعر، بيروت، الطبعة الأولى، 1980م، ص 128.(3) ـ محمد حمدان بين يدي المحيط، دار الحقائق، بيروت، الطبعة الأولى، 1992م، ص5. وقد صدر للشاعر الأعمال الشعرية الآتية: (1) ـ ا لفارس والعتمة، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، 1979م. (2) ـ الميناء الموبوء، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الأولى 1983م.(4) ـ بين يدي المحيط، ص 7. وجميع الإشارات إلى أرقام صفحات المقطوعات الشعرية ستوضع بعد الآن في متن الدراسة بجوار هذه المقطوعات.(5) ـ هيرمان نورثروب فراي، في النقد والأدب، ترجمة دكتور عبد الحميد شيحة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، الطبعة الأولى 1989م، ص7.(6) ـ الفطيون: صيرفي يهودي فرض سطوته في الجاهلية على منطقة يثرب وطريق التجارة.(7) ـ نورثروب فراي، في النقد والأدب، مرجع مذكور، ص 87.(8) ـ د. زكي نجيب محمود، مع الشعراء، دار الشروق، بيروت، القاهرة، الطبعة الأولى، 1987م، ص 141.(9) ـ د. شاكر عبد الحميد، لغة الحلم والأسطورة في شعر السبعينات في مصر، ألف مجلة البلاغة المقارنة، منشورات الجامعة الأمريكية، القاهرة، العدد الحادي عشر، 1991م، ص 55.(10) ـ LEVI- STRUS CLAUDE, STRUCTURAL ANTHROPOL- OGY, BASIC BOOKS, INC, NEW YORK, 1963.مستشهد به عند: صفوت كمال، الرمز والأسطورة في المجتمعات البدائية، مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلد التاسع، العدد الرابع، يناير، فبراير، مارس، 1979، ص 185.(11) ـ د. عز الدين إسماعيل، توظيف التراث في المسرح، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، المجلد الأول، العدد الأول، أكتوبر، 1980م، ص 166.(12) ـ عن /د. أنس داود، الأسطورة في الشعر العربي الحديث، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1992م، ص 152. مأخوذ عن د. مصطفى ناصيف، دراسة الأدب العربي، ص 207.(13) ـ بيير زيما، النقد الاجتماعي، ترجمة عايدة لطفي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى 1991م، ص 100.(14) ـ C. G. JUNG, THEROL OF THE UNCONSCIOUS, ROUT- LEDGE AND KEGAN POOL, TRANLATED BY R. F HULL,LONDON 1964, P.10.ترجمة: محمد أحمد في كتابه: المنهج الأسطوري في تفسير الشعر الجاهلي، دار المناهل للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1987م، ص 14.(15) ـ د.نبيلة إبراهيم، الرمز والأمثولة في التعبير الشعبي، ألف، مجلة البلاغة المقارنة، منشورات الجامعة الأمريكية، القاهرة العدد الثاني عشر، 1992م، ص 138.(16) ـ ميرسيا إلياد، بنية الأساطير، ترجمة د. محمد يشوتي، مجلة العرب والفكر العالمي، مركز الإنماء القومي، بيروت، باريس، العددان 13/ 14، ربيع 1991م، ص 81.(17) ـ ميرسيا إلياد، المرجع السابق، ص 85.(18) ـ د. إحسان عباس، اتجاهات الشعر العربي المعاصر، دار الشروق، عمّان، الطبعة الثانية، 1992م، ص 128.