د. يوسف الصميليلا يستطيع قارئ ديوان محمد حمدان "ألفان" أن يبعد عن ذهنه صورة الشاعر نفسه الذي هو مسكون إلى حد كبير بالهم الحضاري العربي، والذي يجد بابه مفتوحاً على مصراعيه للأحزان التي تطل عليه من التاريخ ومن الحاضر، وكأنه الوجه الآخر للإنجاز، وكأن الفعل لا يكتمل إلا بحديه الماضيين الفاعلين في النفس العربية، وهذان الحدان هما: النصر والنكبة/الفرح والحزن/البشارة والخيبة/أو كل ما كان على شاكلتهما من ثنائيات تتوالد من شريط ماثل في النفس، قبل أن يجد طريقه إلى النشر قصيدة شعر، أو حوار صداقة، أو مقالة صحفية، أو نجوى ومسارّة مع الذات ولها، في لحظة تأمل طويلة قد يكون تصدير الديوان نفسه مفتاحاً لحل مكنوناتها.قالت الأرض لعينٍزرّفت في الليل دمعةًجهزي الفانوسدرب الرياح والأمطارلا تكفيه شمعةْفالشمعة أو الفانوس بما يمثلان من عصف وغضب، هما حدا التكوين الوجداني لمسار النص الشعري في هذا الديوان "ألفان" ولأن الشاعر مهموم إلى حد الارتباك، ولأن فعل التكوين يحتاج إلى زمن طويل، فإن البحث عن البداية ربما كان مسوغاً مقبولاً للخطوة الأولى ولهذا كانت قصيدة "من نقطة في القلب" أحد مفاتيح النص، بل يمكن اتخاذها أنموذجاً لكل مسكون الشاعر الحضاري. يطالعنا نص القصيدة في تعدد النفي: لا صبح، لا أفلاك، لا مصباح، ومع نفي جملة متممة لوجوبه ووجوده وصولاً إلى نقطة القلب نفسها "الجزيرة" التي غلقت في موسم النسيان ذاكرة الجهاد. فهل نقطة القلب هذه، هي جذر المقاومة الذي فقد مسارب الغذاء في تجاويف الأرض اليباب؟ وهل هذا الفقدان هو الذي يسرَّ فعل الخروج من "كفني إلى كفن الدروب"؟ أي من موت الذات إلى موت وسائل إعادة الحياة إليها، ولماذا جاء هدهدها؟ أليس في هذا استيحاء لرمز ديني مغرق في القدم، كانت الجزيرة المعنية طرفاً فيه؟ نعم النص يشي بذلك الامتداد الموصول تاريخاً وحاضراً، ويتخذ من يافا وقانا بعدين آخرين لهذا الامتداد مكملاً حبله الطويل إلى أوجاع الفرات، إنه حبل الدم أو نسغ المقاومة "من قلبي إلى أوجاع الفرات، إنه حبل الدم أو نسغ المقاومة "من قلبي إلى أطراف مملكة النبات". إن نقطة القلب ترتد إلى الماضي، لتوقظ وجع أيامه وآلامه، التي هي مورد بشارته وآماله في الوقت نفسه، لذلك كان مألوفاً أن تقترن الأضداد ببعضها بعضاً وأن يكون الشفق مع الغسق وغرناطة في أقصى الغرب سمرقند في أقصى الشرق، وإن الشام هي نقطة القلب بينهما، لكن الأفعال التي اجتاحت هذين الطرفين هي أفعال يأس وإحباط: نعى، ضيعت، أضناه، يباغتها جفاف تدهمه. فأين بارقة الأمل؟ هنا يصبح "النداء" مفتاحاً آخر، كأسلوب للتنبيه أو الاستغاثة أو للإشعار بالوجود ويتنوع المنادى بتنوع إيقاع البحث عن مستمعين: يا دار.. يا حكاية.. يا سامعين الصوت.. يا قابضين الجمر.. يا راكبين الخيل.. يا أنت..، لكن هذا المنادى، كثيراً ما يكون صاحبه كالمستجير من الرمضاء بالنار، فالمسافة التي تتلو في مناسكها مزامير الغريب هي نفسها رجع صدى المنادى في الحكاية التي لم تجد صوتاً سوى صوت الغريب، ومع ذلك لابد من كوة ضوء حتى وإن كان الرجاء مغلفاً بالنهي في:يا سامعين الصوتلا تقسوا على صوتيلا تجرحوا موال من عشقوافي موتهم موتي،لأن النتيجة تؤمل بإشراق فجر جديد فقابض الجمر من تنورهم زيته، وراكب الخيل ظهر مطيهم بيته، أما المنادى "أنت" ففيه الجملة "القفل" بعد كل المفاتيح:يا أنتَ لا ترحل إلى غرب المحيطِيا أنتَ بطنُ الحوت قومُكَيا أنتَ أرضكَ ثم أرضَكَقبل أن يرث الدياراتِ الخرابُ.وإذا كان الشاعر قد عمل على توظيف أسلوب النفي والنداء، كتنويع لاستدرار فعل الجهاد أو المقاومة أو الانبعاث، فإنه آثر تكملة الدائرة بأسلوب الاستفهام: هل أنت مسؤول عن الوهم/.. هل.. هل.. هل أنت أنت؟ وقد بدا السؤال الأخير كجواب عن المنادى الأخير../يا أنت.. هل أنت أنت؟ وهي المفارقة الصارخة بين حاضر قاهر وماضٍ باهر، لتتنوع بعد ذلك إيحاءات النص من زمن على زمن، ومن موت على موت ومن حجر على حجر، وصولاً إلى نقطة في القلب يسكنها الجنوب، حيث اتسعت كوة الضوء، وأينع فعل المقاومة، واتسع الموقف للعشق الذي لا يخلو بعده من فعل الولادة وفعل الانبعاث. احتشدت في النص إشارات كثيرة، تراصت، بعضها إلى جانب بعضها الآخر، لترحل بالمتلقي إلى رحاب الدين والدنيا معاً، من إسماعيل ومضمون فديته، والمعراج ودلالة رمزيته، وقرطاج الموغلة في البعد اسماً ومسمى، وصيدون لؤلؤة المياه جميعها، إلى جنوب التبغ والتفاح حيث يمتد حبل دمي إلى حقل البشارة، إيذاناً بالعبور إلى فجر جديد، بعد دوامة الإبحار من كفني إلى كفن الدروب، وبعد التيه الذي أطلقه غياب المهر، وبعد الوهم الذي ينتاب كالحمى فؤاد الوقت، وبعد أن مد الضباب جسور القمع من جسدي إلى جسد البنفسج، وبعد أن زفوا إليَّ هزائمي، وقلت إن السكر أمتع. كذلك تحتشد في النص صور الحاضر مشفوعة بتعبيرات مجازية، وتضمين لـه مدلوله في سياق النص:لستَ ابن أم القاطنينَولا ابن عمٍ للبلادْإن الذي سمك السماء بنى لنا بيتاً،لتضفي على البعد المعنوي بعداً وجدانياً محوره الذات الحاضرة:ارفع رايتي البيضاءَ كي يرضى الشمالْيبكي النيلُ عبدَ الناصر، الشهداءَ،الجوعُ في بغداد أزمنَهل أنتَ أنتَ..وتتدرج في السياق نفسه صور طريفة ومُرَّة من شدة قتامة الواقع:الحلماتُ مسبحةُ من البن المعتقِكان شتاءُ هذا الطين أسودَكنتُ مختبئاً وراء العريوكان العريُ أحمرَ..والمدائحُ..تبيعُ في سوق الضياع حليب أمي.لكن هذه الذات ستستيقظ لتقترب البداية من بدايتها، ولتبتعد النهاية عن نهايتها، وليورق التيار سنبلة الولادة في الطريق:والعالم السفليُّ يهجر نعشهُوالأرضُ تبعث وحيهامن نقطةٍ في القلب يسكنها الجنوبْ.إن النص الذي كانت بدايته الجزيرة، امتد حبل تاريخه من نقاط انبعاث بعينها، وكأن التاريخ الصعب، الذي تعاني منه هذه النقاط بالتحديد، إنما هو ثأرٌ منها، لذلك انتفت المسافة بين الماضي السحيق والحاضر، لأن الصلة بينهما تكثفه مفردة واحدة هي الجهاد الذي مر عليه موسم النسيان، لكنه عاد إلى نقطة في القلب يسكنها الجنوب، وكل نقطة انبعاث هي نقطة في القلب من الجزيرة إلى الشام فبغداد فسمرقند فغرناطة، فالجنوب في لبنان.شهادات