دراسات وآراء
محمد حمدان شاعراً
إبراهيم عباس ياسين
في غمرة الإصدارات الشعرية المتلاحقة والمتراكمة، كثيراً ما يقف القارئ والمتابع لما يصدر هنا، أو هناك، في حيرة بالغة من أمره أمام هذا الكم (الشعري) الهائل... والذي يحاول، في معظمه، أن يغتصب اسم الشعر وشكله زوراً وبهتاناً. وبالرغم من وفرة هذه الإصدارات ـ وربما بسبب هذه الوفرة ذاتها ـ فإنه (القارئ) قلما يعثر على عمل شعري يحقق معادله الموضوعي ويرتقي إلى مرتبة الشعر الحقيقي كفن إبداعي. إلا أنه، وبالرغم من قتامة هذا المشهد ـ كي لا نقول رداءته ـ فإن ثمة مطبوعات تبدو وكأنها اختراقات مضيئة للمشهد الشعري السائد.. وإن كانت كواحات شعرية متناثرة ومتفرقة وسط صحارى رملية شاسعة في الكلام العادي، المعاد والمكرور إلى حد الابتذال والسأم أحياناً. أسوق هذه المقدمة التي وجدت أنها ضرورية للحديث عن تجربة شعرية هادئة وواثقة أيضاً، لم تأخذ حقها كفايةً من الاهتمام والمتابعة، على الرغم من حضور صاحبها الفاعل في الحياة الأدبية. وإن كان صاحبها ـ محمد حمدان ـ يبدي عزوفاً، وربما نفوراً، من الهالات الإعلامية الزائفة، ومن الحفاوة النقدية الكاذبة، التي تكلل عادةً شعراء كثيرين غيره، وممن هم دونه موهبة وأقل تجربة... مما يقدم لنا، كمهتمين بالشأن الثقافي، وفي هذا دلالة بائنة على تخلف العملية النقدية الجادة، والقائمة على أسس علمية، موضوعية، مضبوطة، عن مواكبة الحركة الشعرية، وعلى الأخص لدى من يتعاطون "النقد الارتزاقي" على حد تعبير الشاعر فايز خضور "حيث يجعلون ممن يشبه أنثى الماعز ذكراً للغزال كي يضمنوا الرضا الرخيص، ويتبادلوا فيما بينهم نفايات التملق والنفاق".وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه القراءة في تجربة حمدان الشعرية لا تسعى لإطلاق أحكام نقدية ولا تشكل بالضرورة حكم قيمة على هذه التجربة. إنها أولاً وأخيراً، قراءة تخصني وحدي أكثر مما تخص الباحث الأدبي أو الناقد المختص... إذ أننا كشعراء مضطرون في غياب الناقد الحقيقي والموضوعي لانتزاع أشواك أيدينا بأيدينا في كثير من الأحايين، عملاً بالمقولة الشائعة: "أن توقد شمعة خير من أن تلعن الظلام ألف مرة."!"قالت الأرض لعينٍزرَّفت في الليل دمعةْجهزي الفانوسَ...درب الريح والأمطار..لا تكفيه شمعهْ."ولأن شمعة واحدة لا تكفي لإنارة الطريق في عتمة الأمطار والريح... يبدو الشاعر محمد حمدان وكأنه يحاول أن يوقد قصائده فوانيس ويطوف بها في وحشة أيامنا الحالكة.إن قراءة هادئة وواعية في تجربة حمدان الشعرية والمتمثلة حتى الآن بست مجموعات شعرية (1) تكشف لنا بوضوح تام عمق ومصداقية هذه التجربة، كما تدلنا إلى معاناة شاعر ريفي مسكون، منذ بداياته الأولى، بهموم شعبه وبقضايا أمته إلى حد يبدو معه وكأنه شاعر منذور لترجمة تلك الهموم والقضايا:"أنا الصيادُ...منذ عرفت معنى الموتِأبحث عن معاني الحب والثورةْ""لنَحنُ الجياع كسرب القطافي سني الجفافْونحن العطاش كزهر الربابعد سبع عجافْوكل العناقيد ملأى بدار الخليفةْوقد شوّبت وهي تسأل عناوترجو لقاناولكنهم حرموها عليناعيون الخليفة ترصد حتى هوانا"وكثيراً ما يحدث أن تتسع أحزانه في غمرة الأسى والهموم التي يستشعرها، وتمتد امتداد وطنه الكبير... الكبير... من محيطه إلى خليجه، و"من السعال إلى مدارات الهجير":"سلامٌ من صبا خرنوبة في سفح ضيعتناإلى بوابة (البوغاز) في أرض الغروبِإلى جرود الأطلس المدروز بالشوحِ(حدودُ بلادنا تمتدّ)ينحت فوق صخرته وفي قلبيبفيءِ التوت والصفصاف رسماً، طائراً، هماً،وما زالت خريطته ـ إشارتُه:(بلاد العرب أوطاني)ومن الواضح أن هذا الشاعر الريفي أو القروي المأسور لصوت الناي، والباكي لثغاء الحملان، الحامل هم تراب قريته الرافض في ذات الوقت أن يدنس الغرباء قدسية ذلك التراب، كثيراً ما يقف موزعاً بين ماضيه التليد من جهة وبين حاضره المثقل بالأوجاع والمآسي من جهة ثانية، في محاولة منه لاستشراف الغد الآتي بحثاً عن حياة حرة، كريمة، لا خوف فيها ولا حزن. صحيح أنه لا يذهب بعيداً في تفاؤل زائف، لكنه ـ وهذا هو الأهم ـ لا ينتهي إلى يأس قاتل:"قالت عجوزٌ لفنجانهافي شتاءِ الرمادْ:أبٌ وابنه، ومساءُ الطريقْطريدان عند ثغور المحيطِكأبطال إحدى الرواياتِسلَّ قراصنة اليمِّ ـ في غابر القحط ـ ما كسبته ملاحمهمفانثنوا باحثين عن السندبادْ".وإذا ما أردنا أن نتلمس سبل الخلاص على يدي الشاعر حمدان برزت لنا الثورة بشكلها الواضح والصريح في مقدمة تلك السبل وهو ما يصوره لنا في قصائد كثيرة من عناوينها تمثيلاً لا حصراً: (الحب والثورة ـ من أوراق عبد الله ـ قبة الحجر، ومنها قوله:"رأيت على الرغم من سطوة الليلِأن المنارةَ شعّت قليلاًقليلاً.. أنارت سماءً بدت كاليبابِتشقَّق ذاك الجدارُجيوشٌ من النمل تحمل قمحاً ورطباًحلمتُ بأن سيوف الجزيرة عادتْوأنَّ الرباطاتِ قائمةٌ في النفوسوأن الزغاريد تنتظرُ الأقحوانْ".مثلما تبرز الشهادة كقيمة عليا يتغنى بها الشاعر إيذاناً بميلاد زمن جديد:صحونا على صحوة الرمل/أيقظَنا النخلُ برفُع تكبيرةَ الصبحِ/هذا أوانُ الشهادةِ/هذا هو الزمن العربيُّ الجديدْ".(....)"شواطئنا يا رفاقيسنغسلها بالرماحلتبقى أطايبَ من كرز وتمور وتينْفيا أهلنا الطيبينْبأحجاركم نستردُّ الكرامةَفي ظلِّها نستحق الحياة."ويبدو نداء الشاعر في العودة (إلى حكمة الأرض) وكأنه نافذة تطل منها الروح في بحثها الدائب عن خلاص:أيها العاشقون ـ تقول الفراشةُ ـعودوا إلى حكمة الأرضفي البدء كان حوار الندى والأقاحيصراط المحبين في سورة النجمِ،فاتحةٌ لكتاب الربيع".في حين يبرز العشق، وكأنه دالتنا إلى حياة تستحق بأن تعاش فعلاً... ويعيد إلى أذهاننا مقولة (إلوار) الشهيرة: "الحب يعين على الحياة". يقول حمدان:"نسينا ونحن نقارع أغلالناأن بين الحنايا قلوباًوأن الطريق إلى العشق صعبٌكما العشق، عشنا ازدهار المنافي..."وإذا كان الحلم بمعناه الأوسع والأشمل يشكل ضرورةً بالغة للشعر والشاعر فإن حمدان بدوره كثيراً ما يتشبث، كغيره، بأذيال الحلم الذي هو كالحب أو الشعر، والذي لولاه لكانت الحياة أقل جدارةً من أن تعاش فعلاً، مع ملاحظة أن الحلم لا يشكل بالضرورة هرباً من مشكلات الواقع ولا عجزاً عن مواجهتها، فالحلم عند حمدان ـ كما يبدو للقارئ ـ وكأنه" استراحة المحارب" التي يحاول أن يسترد قواه ويستعيد أنفاسه من خلالها:"من لنا يا شقي الحروفسوى الحلموالخربشات على دفتر البحر والناي والعاشقين؟".فإذا ما تجاوزنا معاني القصائد إلى مبانيها فإننا نلحظ، بوجه عام، ترابطاً هو غاية في الدقة والفن ما بين محتويات القصائد وأرديتها الشعرية... مما يدلنا على خبرة الشاعر البائنة وإلى درايته البالغة في التعامل مع أدواته الشعرية وعلى الأخص في نتاجاته المتأخرة... فاللغة مشبعة بشاعريتها في قصائد كثيرة، ومكتنزة بالرموز والأخيلة، وحافلة بالإيحاءات والدلالات المختلفة والمتنوعة.. كما تبدو مقدرة الشاعر على توليد الصور وابتكارها في مواضيع كثيرة من قصائده حتى ليمكن القول، وباطمئنان كبير إن حمدان شاعر يفكر بالصور:ـ "وقوفاً نموت/ونحن نغنيرموشَ الشعاع الذي سربتهشقوقُ الجدارْ"ـ "شراعي مساحةُ رؤياتخيِّم فوقَ خلايا الوطنْ"ـ "رسمتُ خريطةَ ذاتيعلى جسدِ النور "الخ... الخ...ويبدو لي، كقارئ، أن مجموعة الشاعر الأخيرة (ألفان) جاءت تتويجاً لرحلة شاعرنا التي بدأها عام 1979 بمجموعتين الأولى (الفارس والعتمة)، بمجموعته والتي تمتد على مساحة زمنية يقارب عمرها قرابة ربع قرن ونيف... تخلص خلالها من بعض الملاحظات أو العيوب الفنية التي علقت بقصائده الأولى بشكل خاص... كاللغة العادية أو النثرية التي ترتدي لبوساً غنائياً أحياناً، وكالمباشرة التي تنحو منحى تقريرياً أحياناً أخرى... ففي هذه المجموعة (ألفان) وقبلها (صلاة للبحر الأحمر) يبدو حمدان وكأنه يعلن مجانبته للعناوين العريضة، الصارخة، وللمنبريات والخطابيات التي تتوسل تصفيقاً من الجمهور أكثر مما تتطلب إصغاءً وتأملاً.ولما كانت قصائد الشاعر محمد حمدان تنتمي بمجملها إلى شكل فني محدث هو الشعر الحر أو (قصيدة التفعيلة) فقد جاءت تلك القصائد غنية بإيقاعاتها وانفعالاتها وحرارة روحها من القصيدة المطولة إلى القصيدة متوسطة الطول إلى القصيدة القصيرة التي تتمثل من خلالها مقدرة الشاعر على الإيجاز والتكثيف والومض وكأنها قصائد مكتوبة بريشة البرق:"ومازلتُ يا سيدي/منذ عهدي وعهدك/رأسي السماء/وأقدامي الأرض/والظل يلعب فيه الهواء."المجموعات الصادرة للشاعر حمدان عناوينها التالية:(1) ـ الفارس والعتمة ـ دار الرشاد الحديثة ـ الدار البيضاء ـ 1979م.(2) ـ الميناء الموبوء ـ دار الآفاق الجديدة ـ بيروت ـ 1983.(3) ـ بين يدي المحيط ـ دار الحقائق ـ بيروت 1992.(4) ـ صلاة للبحر الأحمر ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1995م.(5) ـ ألفان ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 200م.(6) ـ بتغرامو.. وشرفة الأبجدية ـ اتحاد الكتاب العرب ـ 2005م.والمقاطع الشعرية الواردة في هذه القراءة مأخوذة من معظم تلك المجموعات باستثناء المجموعة الأولى التي لم يقدر لي الإطلاع عليها، والمجموعة الأخيرة الصادرة مؤخراً بعد الانتهاء من إعداد قراءتي هذه.