وفيق خنسهفيما يشبه المنام، ويتقمصُ اليقين قابلتك لأوّل مرّة. كان ذلك منذ خمسين عاماً. كنت تقف على شرفة "بتغرامو": عينٌ على الدفء والمكان الرومانسي، وحضن الأمّ، وعين على العالم الخارجي، وخاصة على "قطنا". رأيتك تنشج وأنت تسير إلى جانب شقيقك الأكبر، ومع كل التفاتة ينخلع قلبك، ويفر عائداً إلى البيت الحميم. وفي "قطنا" بدأت من الصف الخامس الابتدائي. هناك كانت الخطوة الأولى نحو الآخرين في وطنك. والآخرين البعيدين في الجغرافية. وفي تلك السنوات تفتحت علاقات، وجسداً، ودخولاً في الوطن والسياسة والثقافة.وفيما يشبه اليقين، ويتقمّص الرؤيا أتوهّمُ أنني التقيتُ بكَ في زمن الانفصال، كنا قد دخلنا إلى الدنيا، كانت أحلامنا عامرة ثرّة شاهقة، في ذلك الزمن اختار كل منا أن يكون وحدوياً. وآمنا عميقاً في الروح أن العرب أمة واحدة، ومن أبسط حقوقهم أن يصوغوا حضورهم في دولة واحدة. كبرنا في التواريخ، وكبرت معنا أحلامنا، واختار كل منّا طريقته في العبور إلى الوطن الكبير.وفيما أجزم به، وتشهد عليه حلب التقينا في مطلع السبعينيات. ربما يومها اختلفنا في الفن، ووظيفة الفن، وفي الشعر والالتزام وغيرها، ولكنني أذكر بوضوح أننا اتفقنا في أننا وحدويان!ذهبت بك الحياة، والمهنة، والكتابة إلى المغرب العربي، وبعدها بسنوات طويلة حملتني الحاجة والقهر إلى جزر الواق واق. تابعت قصائدك الأولى، الثانية والثالثة وأنا أحسدك على هذا الإيمان الذي بلغ حدّ التصوّف بالأمة العربية، والوحدة العربية، وفلسطين، وكل قضايا أقطار الوطن الكبير. وكلما أمعن الوضع العربي بالانهيار كلما أمعنت بالمضي مع حلمِك. ارتدّ كثيرون، وتخاذل آخرون وصمت بعضهم، ولكنّك امتلكت شجاعة الإيمان بالحلم الذي ضمّ جناحيه على جيلنا، حلم الوحدة العربية البكر.والآن أرى الأبيض يمتدّ ويمتدّ، في الجلد، والقلب، والمكان، والثقافة فأراك تتلفّتُ بأشعارك إلى عالمك الداخلي، وتبوحُ بأوجاع الغربة، والشغف بقريتك الأولى "بتغرامو"، وتعلن نمنماتٍ ناعمةً عن الكرامة، والمواطن، والحق، والأهل، والدنيا. فكيف أكرّمك شاعراً وباحثاً وصديقاً؟ كيف يمكن أن يكون الأديب مكرماً، وهو يرى وطنه يذهب في جحيم القتل، والتمزق، والإحباط؟إذا كان لابد من تكريمك فإنني أمدّ يدي صديقاً، لأشدّ على حلمك أولاً، ولأشد على حلمك ثانياً، وثالثاً، وعاشراً، ثمَّ أحضنك بكل ما تبقّى في قلبي من دفء، وأردِّدُ بمحبةٍ قصيدتك "اعتراف" من ديوان "بتغرامو وشرفة الأبجدية":"أنا أولاً مذنبٌوأنا ثانياً مذنبٌوأنا ثالثاً مذنبٌوأنا عاشراًـ وكما تعلمين ـ محبٍّفهل تغفرين؟..."أخوكوفيق خنسهاللاذقية: خريف /2005/