تجليات المكان الشعرية في قصيدة (بتغرامو)
د. خليل الموسىلكل مكانٍ خصوصيَّةٌ وعلاماتٌ شعرية تميزه عن سواه، وتتجلَّى هذه الخصوصيةُ في الملامح الطبيعية التي تشكّلها التضاريسُ الجغرافية، كما تتجلَّى بخصوصيةِ الإنسان الذي يعيشُ في المكان من خلال لونه وطبيعته ومزاجه وعاداته وتقاليده، لأنَّ الإنسانَ ابنُ بيئته، والتفاعلُ أمرٌ حتميٌّ، فالإنسان يتكيّف مع المكان ويُكيُّفه، بحريَّاً كان أم بريِّاً، سهلاً أم جبلاً، صحراءً قاحلةً أم تربةً خصيبة، بارداً أم حارَّاً معتدل المناخ.وقد تعامل الشعرُ العربيُّ منذ القديم مع المكان على أنَّه البطلُ الأوَّلُ الحقيقيُّ والدراميّ في بنية القصيدة من خلال مشهد الطلل وسواه، ولذلك كان وصف المكان ينبعُ من حاجةٍ داخلية شعرية، فالشاعر لا ينبهر بجماليات المكان الخارجيّة، وإنّما يعِّبر عن أُلْفةٍ داخلية مع هذا الكائن المكانيِّ الشبيهِ بالأمِّ الكبرى، فقدَّم المشهدَ الطلليَّ على سواه، ولو تأملنا في طبيعته من خلال الشواهد الكثيرة لوجدناهُ موَّاراً بالمشاعر الإنسانية المتأججة نتيجةً لما حلَّ بهذه الديار من عوامل الطبيعة وعوامل الزمن من جهة، ولرحيل الحبيبة والحبّ وزمن الشباب من جهة ثانية، ولنتأملْ في الفجيعة الإنسانية الذاتية التي يضع الشاعر امرؤ القيس متلقي معلقتِهِ فيها منذ مطلعِها. إنه في أشد الحالات الدرامية تراجيديةً وفجائعيةً، فيقف بعد زمن غيرِ محدّد على أطلال الحبيبة، ويُحدِّد المكان بدقّة متناهية، وكأنّه مهندسٌ معماري، ويبيّنُ أثر العوامل الطبيعية في هذا المكان، وكأنّه خبيرٌ جيولوجيّ، ثمّ يعبِّر تعبيراً لا مباشراً عن فجيعته بالزمن الذي مضى على خروج الحبيبة من هذا المكان إلى جهة مجهولة، وقد غدتِ الديارُ مأهولةً بالظباء منذ زمن بعيد، وهذا يشيرُ إلى أنّ لقاء الحبيبة متعذّر، فكان هذا الاغتراب والبينُ والبكاء:
قِفَا نَبْك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
فَتُوضِحَ فالمِقْرَاةِ لم يَعْفُ رَسْمُهَا
لما نَسَجَتْهَا من جَنُوبٍ وشَمْأَلِ
بِسِقْطِ اللِّوى بينَ الدَّخُولِ وحَوْمَلِ
لما نَسَجَتْهَا من جَنُوبٍ وشَمْأَلِ
لما نَسَجَتْهَا من جَنُوبٍ وشَمْأَلِ
يا دارَ ميَّةَ بالعلياءِ فالسَّنَدِ
وقفْتُ فيها أَصَيْلانَا أُسَائِلُها
أَمْسَتْ خلاءً وأمسى أهلُهَا احْتَمَلُوا
أخْنَى عليها الذي أخنى على لُبّدِ
أقْوَتْ وطالَ عليها سالفُ الأبدِ
عَيَّتْ جواباً وما بالرَّبْعِ من أَحَدِ
أخْنَى عليها الذي أخنى على لُبّدِ
أخْنَى عليها الذي أخنى على لُبّدِ
هل تَخِذْتَ الغابَ مثلي
فتَتَبَعْتَ السواقي
هل تَحَمَّمْتَ بعطرٍ
وشربْتَ الفجرَ خمراً
في كؤوسٍ من أثير!؟
منزلاً دونَ القصورّ
وتَسَلَقْتَ الصخورْ؟
وَتَنَشَفْتَ بنور!؟
في كؤوسٍ من أثير!؟
في كؤوسٍ من أثير!؟
يا مَسْبَحَ الأحلامْ
يا منهلَ الأقدامْ
يا سما لبنانْ
يا مَهْبَطَ الإلهامْ
يا سما لبنانْ
يا سما لبنانْ
يا جارةَ العاصي لديكِ السُّؤْدُدُ
هو عاشقٌ من دَمْعِهِ لكِ مُورِدُ
يسقي الهوى من قَلْبِهِ الْجُلْمُودِ
يسقي الهوى من قَلْبِهِ الْجُلْمُودِ
لبنانُ دونَكِ ساجدٌ مُتَعبِّدُ
وارَحْمَتَا لِمُتَيَّمٍ مَصْفُودِ
يسقي الهوى من قَلْبِهِ الْجُلْمُودِ
طوَى الدَّهْرُ من عمري ثلاثينَ حِجَّةً
أُغَرِّبُ خَلْفَ الرِّزْقِ وهو مُشَرِّقٌ
نَبيتُ بأكواخٍ خَلَتْْ من أُناسِهَا
ومأكَلُنَا ممّا نصيدُ وطالما
ونَشْرَبُ ممّا تشربُ الخيلُ تارةً
وطوراً تَعَافُ الخيلُ ما نحنُ نشربُ
طويْتُ بها الأَصْقَاعَ أسْعَى وأَدْأَبُ
وأُقْسِمُ لو شَرَّقْتُ كانَ يُغَرِّبُ
وقامَ عليها البومُ يبكي ويندبُ
طَوَيْنا لأنَّ الصَّيْدَ عنّا مُغَيَّبُ
وطوراً تَعَافُ الخيلُ ما نحنُ نشربُ
وطوراً تَعَافُ الخيلُ ما نحنُ نشربُ