محارق المكان في (بتغرامو) محمد حمدان - ادباء مکرمون نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

ادباء مکرمون - نسخه متنی

نزار بریک هنیدی، ابراهیم عباس یاسین، جمال الدین الخضور، خلیل الموسی، درغام سفان، راتب سکر، رضوان القضمانی، سعدالدین کلیب، سلمان حرفوش، فاروق ابراهیم مغربی، فواز حجو، محمد عبدالرحمن یونس، محمد قجه، نبیل سلیمان، یوسف الصمیلی، جمانة طه، حسن حمید، خالد ابوخالد، شوقی بغدادی، عبدالکریم شعبان، وفیق خنسه، فاید إبراهیم

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

محارق المكان في (بتغرامو) محمد حمدان

د. جمال الدين الخضور

إذا كان الأدبُ شكلاً متعالياً من أشكال المعرفة الاجتماعية، فإن الشعر يعّمم ذلك التعالي، وينهض به عالياً أكثر، لا بمعنى التعالي التداولي، بل بمعنى الارتقاء، ليشدَّ البُنى المستقبِلة (بكسر الباء)، ويعيد تشكيل وحدة التعامل والمعالجة بين المتلقي والنص. ولا يمكن للشعر أن يتميز عن مقامات الأدب الأخرى إلاَّ بمقدار ما يقدّم من علاقاتٍ غيابية تطغى على الحضورية، وفضاءات زمنٍ حجمية تبتعد عن خطية الأصناف الأخرى، وفوق هذا وذاك من علاماتٍ متميزة أخرى يتفرّد الشعر في أنه قادرٌ على تكثيف الزمان في محرقِ مكانٍ ما، وقادرٌ أيضاً على نشر المكان ونثره على امتداد فضاءات الزمن الاجتماعي والثقافي، محاولاً بذلك خلق أسطورته المميّزة. فليست الأسطورة في الشعر هي تلك العلامات الميتولوجية التي يتعكّز عليها النص الشعري. فلكل قصيدة متيولوجيتها الخاصة، وأسطورتها النوعية المميزة، التي تصنعها عبر نسيج اللغة.

أليس محمد حمدان يقدّم لك في شخصيته من غياب أكثر مما يقدم من حضور؟

لقد عرفته منذ أكثر من عشر سنوات شخصاً وطنياً (وأقصد بالوطني ذا البعد القومي كما يُسمى في الفكر القومي السلفي) يعطيك من خلال حضوره شبكةً من العلاقات الغيابية التي تحاول أن تنسجها عبر التلقي والحوار والاكتشاف. منذ كان يختبئ خلف بعض الشيب في لحيته وشعر رأسه، وحتى حضرَ الشيب كلُّه ليخفي خلفه علاقاتٍ تتمرّد على الرمزية والسريالية، وتضمر في ألوانها خطوط حداثةٍ خجولة أحياناً، ناصعة الغياب في تناسقها، وحاضرة في بعض ملامحها فقط. فهو لا يسهب شرحاً في إحضار تاريخه، بل يحضر في معالم ونقاط معينة، ويترك لك نسيج علاقات الغياب المرتبطة بها. وطني متجاوز لكل سمات العقد الاجتماعي الذي وصلت إليه العروبة في مفاهيمها التقدمية والديمقراطية، متواطئٌ مع لغة تداولية سلسة يحافظ عليها، كي لا يخدش نرجسية الشاعر العابر لأحزان جيله المنكسر على حواف الهزائم العربية.

محمد حمدان متآمر ضمنياً مع المكان. والمكان لا يخذله ولا يتركه بدون بيانات الخيانة التي يتشدّق بها شعراً. ومهما كنا، نحن أصحاب الأيديولوجية الوطنية (القومية) اليسارية حريصين على تماسك خطابنا، لابد أن تلمع في أحد جوانبه، ماركسية عروبية متجاوزة، لا نحاول أن نختال بها على الآخرين، بل نحاول إظهار سماتها المميزة تجاوزاً لخطابات تيّبست على مفرداتها ماركسية ميكانيكية جامدة. وعلى طرفٍ آخر، مهما حاولنا نشر المكان على زماننا بتأنٍّ وهدوء، تظهر العجلة والفوضى على مفرداتنا. وأكثر ما تظهر تلك السمات على المكان الطفولي البعيد حيث:

يطير بيَ الصباح إلى صباحكِ

يورق المشوار في عينيَّ أغنيتين،

عصفورين

ـ كيف الحالُ؟

تحتشد التفاصيل التي عبرت مرافئنا

كسيف النور عند رباكِ

توقظ جلنار البحر

تبتسمينَ....

لهذا نقول نحن الأطباء إنّ التقدم في سنّ الكهولة والشيخوخة يفتح خطوط الذاكرة على البعيد منها في الطفولة، حتى تصل بالفرد مع التقدم، إلى درجة تضيع معها الذاكرة القريبة تماماً، وتحضر بدلاً عنها ودائماً خطوط ذاكرة حَدْثيّةٍ ومعنوية مرتبطةٍ بواقع الطفولة البعيدة وأمكنتها. وفي بعضها، أو أكثرها، وفي مراحل لاحقة في جميعها، تحدث فجوات الذاكرة في الشخوص والأمكنة لتملأ لاحقاً بأمكنةٍ وشخوصٍ موغلين في قِدَم العمر والزمان. فيبدو المرء أو الشاعر وكأنه يقف على حدود الخرف أو "الايزنهامر" في اللغة التداولية. لكن يكون وفي حقيقة الأمر في محرق الحضور العظيم لذاكرةٍ غنيةٍ عظيمة، كنا نقول بأنها قد مضت ورحلت. وإذا كان العنوان يكثّف النص، لينتشر في نفس الوقت في نسيج متونه، فإنَّ بتغرامو تعنون قصيدةً واحدةً، لتنتشر في كل متونٍ نصوص محمد حمدان، تتلطى هنا، وتختفي هناك، لتظهر في حضورٍ حزينٍ أحياناً، تجمع ما بين البكاء الخجول والفرح المدسوس من طفولةٍ بعيدةٍ في ثنايا كلام الشعر.

فليست بتغرامو مكاناً محدّداً في جغرافيةٍ ضيقة اسمها قريةٌ ملقيةٌ على أردان "جبلة"، إنها الكريات الحمراء المحملة بالأوكسجين المعششة في شرايين الشاعر وهي تنقل الأنات والغبار من أم قصر في شرق جسد الخراب العربي إلى الرباط في غرب مواقع الهزيمة. وبالتالي لم تكن بتغرامو قصيدةً عابرةً على شرفة الأبجدية تماماً كما لم يكن محمد حمدان عابراً على تخوم العمل الوطني (القومي)، في يومياته التي مضت.

تبدأ القصيدة بصباح يطير بالشاعر إلى صباحات بتغرامو لينتهي مقطعها الأول بالسلام عليها. وما يكاد يلقيه حتى يبدأ المقطع الثاني باسمها، عائداً إليها من سفر الجسد والأحلام والآمال والحطام والخراب، مغلِّفاً موج حزنه بالذي يأتي....

محطاته قطارات تروح، في النقلة الثالثة، حيث يلّون لنا الشاعر واقعه التالي بياسمين الغيم يزهر في خلده، فلا ظلال الخيام البيض، ولا جنة المأوى أحاطت به حيث يمّم وجهه الجهات حين نأت وشدت خيوط لغته البلوى، فترنُّ في مسامعه (سكابا يا دموع العين)، فينهض إلى جهات الأرض/موسم رحلتي مدنٌ، ضبابٌ يستحمُّ جوىً، صعاليك، أباطرة، وعقيان وأقيان..../مفتشاً عن نفسه في نبىًّ يحمل سر نجيع أبنائه، وعن مطر يجدد عهده للبعل، فلقد ارتدى العطش الحبرات واستعرت حميّاه.

ولا مفرَّ من العودة إلى ذاكرة الطفولة، حيث رسَّخ الشاعر أسطورته الخاصة في ميتولوجيا بتغرامو فيعود إلى ملامح تلك اليوميات لينقلها من البسيط المجرد في معناه التيولوجي لدلالة تصويل الحنطة، ليصّولَ حنطة الأيام ثم يفرشها تحت أشعة الذاكرة المتقدة الساخنة:

أصوِّلُ حنطة الأيامِ

أطحنها

و... (أسعى في مناكبها)

تصوّل حنطي الأيامُ

تعجنني

والعجين لا يأتي إلاَّ بعد التصويل والطحين، فهل تفعل الأيام بالشاعر ما يفعله هو بحنطة الزمن الراحل، حيث امتلأت حواكير تلك الأيام "عتابا وميجنا وليا" لتغطي صرخات الطفولة وضحكاتها وهي تلعب "الشركيك والقاموع والمشتك والقيا..."

ذاكرة المكان مبنيَّةٌ على هرم التواصل حيث تعترف بكل تلك الأشياء الجميلة وغير الجميلة من الطفولة، شريطة أن تعترف بك هي أيضاً. فهل تفصيلات تلك الأمكنة تحتفظ بملامح ذلك الطفل ـ الشاعر عندما كانت عتبات سيدة الزهور تستقبل وقوف قدمين مرتجفين تستند عليهما ساقان من قصب مدنف، وفوق ذلك الظل المشرش رأس حزين يتقدمه أنف يسبح في سيلان الماء والغبار "لمواطنٍ" قادمٍ سيكون اسمه محمد حمدان. وهاهو الآن يبحث عن مناديل تلوّح له، ليطير به الصباح إلى بتغرامو، حيث محطّاته قطارات تروح، وقد نهضت إلى جهات الأرض، لتصوّل حنطة الأيام صارخاً في المدى بتغرامو... بتغرامو... بتغرامو. فيقود خطاه في هذا الطين حيث بتغرامو خيولُ شوقٍ ترمح به، وقد حاصره الدم المهراق، مبتعداً نحو المكان الرافديني وهو يصرخ في ثلاثة بدايات المقاطع الثلاثة الأخيرة للنص بتغرامو، بتغرامو، بتغرامو.

تنفرد المواويل العراقية في ذاكرة محمد حمدان بقدرتها على الاختفاء في نسيج المكان، فيبدو حضورها متمايلاً مع رقصات النخيل متأرجحاً بين الدلالة والمعنى، وكأن الذاكرة الرافدينية تقوم بمسحٍ شعري لأحياء أم القصر وبغداد ومحافظة نينوى.

"فعندما ائتزرت" أم قصرٍ بجعبتها

في ليالي النزالْ

طار عكاز جدّيَ

نحو خليج العقيقِ

... لقد ركنته السنين العجاف زماناً

إلى حائط البيتِ

والآنَ..."

يفقد المكان تضاريسه الجغرافية المرسومة تاريخياً ويتسلّح بذاكرة مكان النهوض حيث زغرد منتورها عند ناصية المنحنى كي تجهجه حين أمسى العدو على بابها... ومضت للقتال ممتشقةً سيفها السومري، ليدور محرق الذاكرة إلى البصرة حيث يتحوّل الفضاء المكاني إلى جغرافية مقاومة: (النزال، العجاف، البطاح، النبال، عزيمة، المنيَّة، العدو، القتال، دوى، شظايا، الغضب، العزم، ثارات، امتشق، سيف الشهادة، حزام، الأجيج، رابط، أثخن، العدو، ملحمة، متاريس، أصفاد، جرح، أوار، اللظى، الحصار، الغضب، السهام، حقد، الغزاة، حمحمات، الجياد، الضحايا، مزقوا، حدود، تخوم) فينتشر الزمان على المكان، وينتشر المكان ممتداً على نسيج الزمن المقاتل، فلم تعد مواويل وحكايا نخيل وشاطئ حنين يمتد من الحزن إلى الحزن، بل أصبحت فارسة المضاء في مساء الحكايات بين حدود القتال الأجيل وبين تخوم القتال المباح، لتتوضّع الدلالات في عرين العشق البصري:

"من دخل البصرة غزواً

رجمته عقابيل الويلاتْ

مَنْ عاث فساداً فيها

مقتولاً...

... ماتْ

فالبصرةُ عاصمة الخلجانِ

وثغر الأزمانِ

وأم الثوراتْ"

التي تمسح بيديها نجمة الناصرية حين تكتب القصائد بمداد النبض وديمقراطية المسحوقين والفقراء الذين حولوها إلى قلعة تاريخية فيها من الأبيض البديع، والأسود الحالك والأحمر القاني والأخضر الزاهي من أعلام الثورة العربية التاريخية ما يتواشج مع مطارق العمال ومناجل الفلاحين وأغاني المهمّشين وهم يكتبون الأبجدية في دفتر الوقت، حيث كل الحروف تصدّت لأعدائها، ودافعت عن جذور مواويلها، ومضى الجذر ينقش في حومة النسغ... وجدانه. الناصرية تاريخ المكان، ومكان التاريخ، يتكثّف فيها الزمن حتى محرق المكان، وينتشر الأخير على كل نسيج المواويل التي تدافع بدم الفقراء عن عروبة العراق، فيُختزل التاريخ بالعراق أبي، ويتجسد الحاضر العروبي بالعراق أنا، وينتقل الزمان بنا إلى مستقبل المقاومة حيث العراق حفيدي الذي سيسطّر فوق جدار الحضارة ـ للمرة الألف ـ عنوانه:

حين مرَّ الغزاة على الجسرِ

أقسم أحمد أن يتعطّر بالدم

حتى تعود الحباري إلى دارها

وتعود اللآلئ تملأ جوف الصدفْ

مدَّ قامته نخلةً

ظللت هودج الخصب في عيدهِ

فانبرى سلفٌ من حمى "ذو الفقار"

يحيّي غريس الخلفْ

للتركيب في النص عند محمد حمدان نسيج اللفظ، وفي الأخير إشارات للدلالة الخجولة في معظم البناء، لا لأن المعنى عصيٌّ على دلالاته، بل لأن شاعرنا يحاول أن يشير من خلال علاقات الغياب في النص، إلاَّ إذا كانت قراءتنا مكتفيةً بالمستوى التركيبي، أكثر مما يحاول أن يقول في علاقاته الحضورية. لذلك ينتشر المكان الرافديني على وجوه المقاومين والناس والألوان، ويتمحرق بملامحهم، ليكثف علاقة المكان بزمان الغزاة والمقاومة والحزن، بزمكان خاص هو "الزمكان الرافديني":

لم تزل نينوى..

لم تزل سدرة البدء والمنتهى

رغم أنشوطة الغرباءِ

وأكذوبة العابرينَ

.... ورغم وجيع النوى

وذلك على عكس محارق المكان الطفولي الذي يكثف نسيج الزمان وعلائقه في بؤر محدّدة تتوضع في الحضور والغياب لأننا نتحدث أحياناً محاولين إخفاء ما نريد قوله، ونحضر الخطاب لنأتي بالغياب، ونضحك لنخفي الألم، ونتذكر وجوه أحبتنا لنقتل الموت، ونكتب الشعر محاولين المقاومة....

أليس محمد حمدان هو هذا؟ العربي المختلف بحضوره الباهي في ضبابية جمله، أليس هو عنقاء الحزن، ومسلَّة الألم، كم يكون الزمان جميلاً لو انتشر على حافة الحلم الذي نحاول أن نعيد بناء لبناته.

فهل سيأتي الزمن العربي القادم بأحلام أخرى وسط وقع أقدام أبنائنا وهم يغنون للعراق والمغرب وفلسطين على ردن وطن واحد اسمه التاريخ العربي العظيم:

ضمّني يا عراقْ

ضمني

قبل أن تتوطّن في مقلتيَّ

خلايا الردى

قبل أن ينحني قوسُ ظهري

ولما يمرّ ندامى البراقْ

عدّ إليّ

إلى قلقي

ضمّ حزني إلى حزن نخل السوادِ

حزينٌ

حزينٌ أنا يا عراقْ!

هل هناك من إضافات يمكن أن يقدمها النقد أكثر من خطاب الشعر لدى ذاك الستيني الذي اعتمر الشيب عظام جمجمته وترك دماغه شاباً على خيوط النكبة يحاول أن ينتصر.

/ 82