ظواهر فنية لغوية في مجموعة
/بتغرامو.. وشرفة الأبجدية/للشاعر محمد حمداند. درغام سفانللشعر لغة لا تعبّر عن فكر مجرّد، وإنما عن وجدان مؤثر من خلال مجموعة من الأفكار المنسقة على نحو خاص، هذه اللغة، هي تلك التي وصف ابن سينا كلامها، بأنه الكلام الذي تذعن لـه النفس، فتنبسط عن أمور، وتنقبض عن أمور، من غير رويّة أو فكر، أو اختيار... وبالجملة: تنفعل لـه انفعالاً نفسياً غير فكري، فلغة الشعر تُعنى بالظلال النفسية والدلالات الوجدانية، كما تعني بتجسيد الأحاسيس والمشاعر النفسية والإنسانية (1). ومن هنا قسم ـ أبو النصر الفارابي ـ في كتابه (الحروف) اللغة إلى قسمين:الأول: اللغة النمطية، وهي لغة البرهان أو العلم.والثاني: اللغة التجاوزية، وهي لغة الخطابة والشعر.ومن خلال هذه اللغة التجاوزية، ينحت الشاعر تمثال اللغة، ويعيد خلقها، ويصادقها، مكتشفاً طاقاتها ومكنوناتها (2). وهذا يقودنا إلى واحد من تعريفات الشعر الممكنة أو المقبولة، بأنه مقاربة اللغة بكثير من حرية التصرف، أي أنه يزود الألفاظ بشحنات خيالية من شأنها أن تربطها بعضها ببعض، على نحو تغدو فيه اللغة، وكأنها شيء، لا يصلح للمياومة بالعلو وحده(3) ... وفي لغة الشعر يخضع التعبير لقوانين اللغة العامة، ولكنه يفيد مع ذلك من اعتماد على دلالات القرائن، وما يمكن أن تضيفه هذه الدلالات على التصوير (4)... ومن هذا المنطلق يمكن تقسيم بنية اللغة في الشعر إلى مجالين:أولآً: مجال الدوال، وهو مجالٌ يتصل بتقنية اللغة وقوانينها الخارجية، الصرفية والنحوية والنظمية، ومن مظاهرها الأسلوبية اللغوية، التكرار، والحذف والتقديم والتأخير.ثانياً: مجال المدلولات، ويتحكم فيه قانون العلاقات المنطقية بين الواقع والخيال، أو بين الحقيقة والمجاز. وهذا امتداد لقانون الانحراف اللغوي الذي يحكم العلاقة بين الخاص والعام...من الظواهر الأسلوبية التي عالجها البلاغيون والنقاد:التكرار:والمراد به إعادة ذكر كلمة أو عبارة بلفظها ومعناها في مواضع أخرى غير الموضع الذي ذكرت فيه أول مرة، ولعلَّ ـ ابن قتيبة ـ كان من أوائل مَن تناولوا هذه الظاهرة من العرب، حين تعرض لبيان أسلوب التكرار في بعض سور القرآن الكريم 05) وحذا حذوه ـ أبو هلال العسكري ـ حين ذكر أمثلة للتكرار كما في قول المهلهل (على أنْ ليس عدلاً من كليبٍ) وقد كررها في أكثر من عشرين بيتاً، وكذلك منه قول الحارث بن عباد (قرّبا مربط النعامة مني) وقد كررها نحو خمسين مرة، ومن المؤكد أن الاتجاه نحو هذا الأسلوب التعبيري ما زال في اطّراد. والقاعدة الأولية في التكرار، أن اللفظ المكرر ينبغي أن يكون وثيق الصلة بالمعنى العام، وإلا كان لفظية متكلفة (6)...من أنواع التكرار التي احتفى بها الشاعر ـ محمد حمدان ـ في مجموعته الشعرية (بتغرامو.. وشرفة الأبجدية) ما يدعى بتكرار المبنى والمعنى وهو تكرار الحرف، أو اللفظ، أو العبارة:لهفي على أَلِفٍ يموتُوعاشرٍ يذويوسجعِ حمامة ترنو إلى إِلْفِلهفي على نبعٍمضى أَلْفٌ عليهِوحين همَّ تعاورته الريح من كفٍّ إلى كفِّلهفي على ياء ـ بكت عتباتُها الصفصافَحين ارتدَّ ظلّ الروح من خوفٍ إلى خلفٍلهفي على لهفي (7)والشاعر كما رأينا يكرر لفظة ـ لهفي ـ في بداية كل مقطع، ليعبّر عن شدة حزنه وأسفه بالفقد والخسران، شأنه في ذلك شأن الباكين أو النادبين حين يكرّرون في نوحهم بادئةً أو لازمة تعبر عن شديد التياعهم، وهو لا يكتفي بتكرار المطلع، بل إنه يعمد إلى تكرار داخلي ضمن المقطع باللجوء إلى الجناس الناقص في ألفاظ مثل: ألف، إلف ـ ريح، روح ـ خوف، خلف...وكما نعرف فالجناس ظاهرة من الأشكال الصوتية غير الوزنية التي تنجم عن تكرار الأصوات في الخطاب...ومن هذا القبيل ـ أي تكرار اللفظ بكماله أو من خلال الجناس ـ قوله:/تؤرقني الهواجس... وهي تكبر بين أعمدة السؤال:أ أنتِ بيتْ غرامهأم أنت: بُتَّ غرامُهأم أنت بات غرامه هيمان (8)/أو يلجأ الشاعر إلى تكرار اللفظ من خلال بنية نحوية متماثلة، ليبقي على حدة الإيقاع، ويربط خيط المعاني، مع تدرّج المعنى من مستوى إلى آخر.../قال الرصيفُ.. اصطفاه الشرودُوقال الشرودُ.. اصطفاه الغيابُوقال الغيابُ... اصطفاه الجنونْ (9)/أو كما في قوله:/أنتِ الدروب إليكِ ـ وأنت المسافةُ نحوكِ ـ أنت ابتهال العذاباتِ أنت فتوح البدايات ـ أنت المحطةُ ـ أنت طقوس الرحيل وأنت اكتمال النهاياتِ ـ أنت الوصولْ (10)/هنا أيضاً يقودنا التكرار على نحو جليّ من معنى إلى آخر، لينغلق قوس المعاني على شكل دائرة في نهاية المطاف بين المطلع:أنت الدروب إليك.. والخاتمة: أنت الوصول....وقد يعمد الشاعر إلى تكرار عبارة بعينها هي محرق مكثف لأطياف المعاني كما في قصيدته ـ عنقاء الخزن ـ ننقلها مع التصرف:/ضمّني يا عراق ـ ضمّني ـ قبل أن تتوطّن في مقلتيّ خلايا الردى... ضمَّ حزني إلى حزن نخل السوادِ... ضمّ أشلاء روحي... ضم وحشة دربي... ضمني يا عراق... ضمّني.../ (11)عند ـ ابن رشيق ـ الذي كان أكثر البلاغيين والنقاد العرب القدامى التفاتاً إلى ظاهرة التكرار لا ينحصر تكرار الاسم في دلالة واحدة، بل تتعدد، وتتنوع تبعاً لتعداد المواقف وتنوعها، كالتشوق والاستعذاب أو الإشادة أو التوبيخ أو التعظيم أو الحزن والتوجع، وبناء على هذا فهناك تكرار حسن وآخر قبيح، فالتكرار الحسن يعني إعادة دوال ثابتة لإنتاج دلالة جديدة (12)، كما أنه ليس من المقبول أن يكرر الشاعر لفظاً ضعيف الارتباط بما حوله، أو لفظاً ينفر منه السمع...فالتكرار يسلط الضوء على نقطة حساسة في العبارة، ويكشف عن اهتمام المتكلم بها، وهو بهذا المعنى ذو دلالة نفسية قيمة تفيد الناقد الأدبي الذي يدرس الأثر ويحلل نفسية كاتبه (13)...وهذا ما لمسناه جلياً في المقطع السابق، إذ المقصود بتكرار عبارة ـ ضمّني يا عراق ـ التوحد والتماهي بموضوعه تأصيلاً لفاجعة الشاعر بالمصاب، ومن هذا القبيل قصيدته ـ البصرة ـ 2 ـ (14) إذ يكرر الشاعر التركيب اللغوي المؤلف من حرف النداء القريب والمنادى المصغّر (أيْ أُخيّة) وهذا ما يثير في نفس المتلقي جملة من الدلالات الشعورية واللاشعورية/سألتْ نسمةٌ أختها في الصباحْأيْ أُخيّةُ!من بعد أن مرّ حقد الغزاةِعلى موسم الياسمين وزهر الأقاحْأيْ أُخيّةُ من بعد أن صودرت حمحمات الجياد الأصيلةِإبّان عقد الضحايا.. وفي كل نادٍ وساحْأيْ أُخيّةُ.../التناص:مصطلح معاصر لدلالات مفهومية نقدية وفلسفية، فهو عند (جوليا كريستيفا) أحد مميزات النص الأساسية التي تحيل إلى نصوص أخرى سابقة عليها أو معاصرة لها، أما (ميشال فوكو) فيرى أنه لا وجود لتعبير لا يفترض تعبيراً آخر (15)، وهذا ما يصدق عليه قول زهير ابن أبي سلمى:
ما أرنا نقول إلا مُعاراً
أو معاداً من قولنا مكرورا
أو معاداً من قولنا مكرورا
أو معاداً من قولنا مكرورا