استلهام الثقافات في شعر محمد حمدان
د. راتب سكرتقدم تجربة الشاعر محمد حَمدان أنموذجاً مناسباً لاهتمام الشعر المعاصر باستلهام الثقافات العالمية، والموروثة، في سياق النصّ الأدبي، يسهم درسها وتحليلها في محاولة لاكتشاف مساحات جديدة، تسمح بخلق علاقات مختلفة بين المصادر الثقافية المتنوعة، التي يستقي الشاعر منها ثقافته.ضمن هذه الرؤية يمكن دراسة نماذج شعرية للشاعر محمد حمدان في مجموعاته، التي تنشغل بترتيب ما حملته من أعباء ذاتية أو جَماعية، في دفاتر القصيدة، مستمدة من الثقافات على اختلاف مشاربها مادة غنية تثري تجربة الشاعر وتعمق الرؤية التي عمل على تقديمها في قصائده. ويمكن قراءة استلهام الثقافات في شعر محمد حَمدان من خلال محورين رئيسين:ـ الاستلهام المحوري للمصدر الثقافي في القصيدة.ـ الاستلهام الجزئي للمصدر الثقافي في القصيدة.يتنوع التوظيف الفني للثقافات في قصائد الشاعر محمد حمدان تنويعاً متصلاً بالمصادر المعرفية والوجدانية لتلك الثقافات من جهة، وبالتجلي الفني لمؤثراتها في النص الشعري من جهة أخرى. وغالباً ما ترتبط تلك المصادر بينابيع دينية (إسلامية ومسيحية)، فضلاً عن ارتباطها في غير قصيدة من قصائده، بينابيع التاريخ العربي القومي وما يكتنز به من تراث ثقافي، وبما تمور به الثقافات العالمية الإنسانية من تراث وعطاء ثرّ متنوع.أما التجلي الفني لمؤثرات هذه الينابيع أو المصادر الدينية والقومية والإنسانية، فيغلب عليه فعل تناصي جزئي منسجم مع البناء الفني لكل قصيدة، وهذا التناول الجزئي يلبي حاجة العمل الفني للشاعر إلى جانب معرفي أو وجداني محدد من التكوين الثقافي الذي يتفاعل معه من جهة، وحاجة جانب محدد في النّص الشعري المنبثق عن ذلك التفاعل من جهة أخرى.بدأ محمد حمدان رحلته مع الشعر، بنشر قصائده منجمة في الصحف والمجلات منذ مطالع الستينات من القرن العشرين، ونشر مجموعته الشعرية الأولى في أواخر السبعينيات بعنوان "الفارس والعتمة"، ثمّ تتالت مجموعاته الشعرية معززة حضور اسمه في المشهد الشعري في سورية، مما يجعل دراسة أعماله إسهاماً مفيداً في دراسة هذا المشهد، وإذا اهتم الدارس بانكشاف الشاعر على الانتماء العربي العام، بإقامته غير القصيرة دارساً ومدرساً في الرباط وبيروت، وزياراته المتكررة إلى مدن عربية كثيرة مثل بغداد، وعمان، والقاهرة، من جهة، وبتعبيره عن قيم هذا الانكشاف ثقافياً ووجدانياً، في قصائده، من جهة أخرى، أضافت إلى دراسته فوائد مرتبطة بأبعاد العلاقات العميقة بين المشهد الشعري في سورية وآفاقه العربية.1 ـ مجموعة "الميناء الموبوء":في اعتمادنا المحورين المشار إليهما في دراسة تجربة الشاعر محمد حمدان في علاقتها بالمصادر الثقافية، نجد أن بعض قصائده في مجموعته "الميناء الموبوء" (1) تقدم أنموذجاً للحالة الأولى، مثل: "يا أمنا العذراء"، "واللات"، و"خطاب إلى نَمَتار"، بينما نجد في بعض قصائد هذه المجموعة مثل: "عصفورة الشاطئ الأزرق"، و"رسالة"، و"الشمس والمستنقع"، و"أمنية"، و"يا شعر"، و"مغارة الدراويش"، أنموذجاً للحالة الثانية.ويمكننا التوقف مع قصيدته "مغارة الدراويش"، التي تضمّ ثلاث قصائد قصيرة يعنون الأولى بـ "الدرب" والثانية بـ "المغارة" والثالثة بـ "نجمة الصبح"، فاتحين نافذة على أنموذج لاستلهام الثقافات في شعره.تقدم القصيدة رؤية مأسوية للواقع المتأزم، بكل ما يعتريه من خيبة وانكسار، فترسم مقطوعة "الدرب" الملامح الأولية لهذه اللوحة، محددة أبعادها بما يتناسب مع طبيعة الموقف الشعري الرافض لكل ما يطالعه من تعابير الواقع من علامات الضياع، يقول:الزواريب التي تنتعل الشوكَدروبٌ حالكات الخطوِلا فانوسَلا شمعَ يضيء الخوف للداخل في قبو السكونْفي كهوفٍ عمرُها عمرُ جراحِ النخلِفي الوادي الحزينْ. (2)تأتي صورة "النخل في الوادي الحزين" مرتبطة بمدلولات دينية، تؤكدها وتعمق أبعادها صورة "المغارة والمصلّى يسكن السدّة في حي الدموع"، التي تأتي في المقطوعة الثانية المعنونة بـ "المغارة"، لينتقل بعد ذلك إلى قوله:"باركَ الوجهُ النحاسيُّ/الحواريونَسكينَ افتتاحِ الحفلِ/سفّودَ الوليمهْوأعادوه إلى السيافِيحني رأسه شوقاً لليل المقصلهْ" (3)ويبقى الشاعر رهين المادة الثقافية المستلهمة، التي يربط بين معطياتها وما يراه ماثلاً أمامه من ضياع للقيم النبيلة، وسيطرة لسلطان المادة على المعاني الروحية السامية، يقول في مقطوعته الثالثة المعنونة بـ "نجمة الصبح":"قاتلوا عنا جيوش الردة/الغزوِفإنا قاعدون"دمتَ للشرق إلهاًأيها اللاتُ/الحجرْأنت صندوق الأعاجيب لكل التعساءْأنت يا تاجاً على رأس إمام الملة المعصومِفي كلّ قبيلةْ. (4)تحيل عبارة "إنا قاعدون" بشكل مباشر إلى النص القرآني في خطاب موسى المعروف لقومه، عندما امتنعوا عن مشاركته قتال أعدائهم، وعزموا على الانصراف والرجوع إلى مصر، في قوله تعالى:قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون (5) في إشارة يحاول الشاعر من خلالها إسقاط موقف قوم موسى ، على الصمت العربي حيال مشاهد القتال والدمار التي ضاقت بها ساحات فلسطين دون أن تجد من يصغي إلى نداءاتها المتكررة. فينتهي في المقطع التالي إلى قوله:"كم شكا مما نعانيه أذانُ الصبحِوالتكبيرُ في الواحاتِوالأقصىوزهرُ اللوز والليمون في حوز الجليلْ" (6)وليست الثقافة الدينية وحدها التي تبدو حاضرة في قصائد الشاعر محمد حمدان، فسرعان ما نجده ينتقل بين مصدر ثقافي وآخر معبراً عن ثراء تجربته وتنوع ثقافته.ففي قصيدته "رسالة" (7) يستلهم الشاعر محمد حمدان شخصية امرأة أوربية، يرسم صورتها على جسور اللقاء بين الذكورة العربية، والأنوثة الغربية، في حوار الثقافة العربية مع الغرب وحضارته، في القرن العشرين. وعلى الرغم من تدفق عناصر الذكورة الطالعة من مهاوي الحرمان والأوطان المسلوبة المنكسرة، فإن خطاب الشاعر يسيج بتوق إلى لقاء الشرق بالغرب على "قنطرة الآتي بالحب"، لعل ذلك يفيد الغرب بروحانية الشرق المتمثلة بالشعر، والفتوة، والحب، والجموح، والأصالة، ويرفد الشرق المعذب المهموم بالغرب العارف، القادر، المتحرر، يقول الشاعر:"معذرةً شقراءَ الدانوبْفأنا من أول وهلهْأتعب بالوشم العربي جداركْأزرع جسرك نحو الشرق همومْ" (8)2 ـ ديوان "بتغرامو.. وشرفة الأبجدية":يتخذ التعالق النصي برموز الثقافة العربية في قصائد ديوان "بتغرامو.. وشرفة الأبجدية" ثلاثة مسارات رئيسية، يشتمل أولها على عناصر شعرية مادتها الأساسية نصوص تسربت إلى نتاج الشاعر عبر المخزون الثقافي الثر الذي مثل سمة بارزة في دواوينه، حيث اتخذت هذه العناصر لنفسها مسارات جديدة وامتزجت بعناصر التجربة لتغدو جزءاً لا ينتمي إلى التراث بقدر ما ينتمي إلى التجربة ذاتها.تقدم قصيدة الشاعر محمد حمدان "وردة الفاتحة" (9) لوحة غنائية منسجمة مع طبيعة شعره الغنائي الحريص على ترتيل الحزن العربي المعاصر، في انكساره المسيج بالخيبات والخذلان. وقد حملت القصيدة أمارة هذا الحرص منذ مطلعها:"تقول الحكايةُ:بين ركام النشيج، الضجيج، العجاجْوكان العشاء يرتل آياتهِ" (10)فالمحمول الذي يبشر به الخطاب الشعري، نابت في بيئة محكومة بما يدلّ على انكسار وخذلان، مسيجين بما يليق بهما من "ركام النشيج، الضجيج، العجاج".إنّ القصيدة المبنية من خمسة مقاطع شعرية تتأسس رؤية كلّ منها، على توصيف الخراب العربي، وندب الذات المغتربة في خرابها، لا تقطع علاقتها الفنية بثنائية الفكرة والصورة في حمل دلالات الخطاب وتأكيدها وتزيينها، منسجمة في وفائها لتلك الثنائية مع التقاليد الفنية لقصيدة الستينيات في سورية. ومن الراجح أن هذه الثنائية ـ على الرغم من احتفاء الشاعر حمدان بحدها الثاني ذي الطبيعة الاستعارية والرمزية ـ ظلت تمنح قصيدته وضوح الغاية والقصد، وتحكم على توظيفه الفني للثقافات بمنهج تجزيئي، يوفر لـه فرصة الانكشاف على جانب محدد من مكونات الحالة الثقافية المستلهمة، وفرصة التفاعل مع ذلك الجانب في تكوين جزئي من النص، بما ينسجم مع البناء المقطعي لقصيدة حريصة على الحدود الفكرية والتوصيفية الأولى من ثنائيات بنائها الفني، بمثل قول الشاعر في المقطع الثاني:"غريب أنا في بلادي وداري... أمام حراك المرايافهل كنتُ تلك الصحارى التي عبرتها الشعوبُ؟وهل أنا إلا سليل المتاهةِ" (11)إن شراع الشاعر الضارب بين أمواج الغربة والمتاهة والخيبة، في تعبيره عن تماهي ذاتي الفرد وأمته، يرسم في مقاطع القصيدة الصور الفنية التي تسهم في حمل هذا التعبير المؤسس على قول فكري صريح، وفي شرحه وتأكيده وتزيينه, بأساليب تتجاوز وظائف الصورة الفنية التقليدية، وتتخطاها ملبية حاجات النص الجديد الذي ضيق مساحات قوله الفكري الصريح, إلى معاضدة غاياته بالصور التي تتدفق من مقطع إلى آخر, متلونة بمكوناتها ومصادرها بألوان الرؤية المتنوعة نسيجاً وأفقاً في بنائها المقطعي للقصيدة.يأتي التوظيف الفني لنص امرئ القيس في وصف رحلته إلى قيصر, في المقطع الرابع من قصيدة الشاعر محمد حمدان, الذي يضمن جانباً محدداً من نص امرئ القيس بقوله:"لقد كان لي خيمة في عزيف البراري.........تداعتبكى صاحبيحين أيقن أن الهلاك محيق بناقلت: لا تبكِ يا صاحِإن أمامي فضاءمن الطير والعشب والبشر الطيبينْ"(12)يحيلنا هذا المقطع الشعري إلى أبيات امرئ القيس المعروفة التي يصف فيها رحلته إلى قيصر قائلاً:
"بكى صاحبي لما رأى الدربَ دونه
فقلت له: لا تبكِ عينك إنما
نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا"(13)
وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا"(13)
نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا"(13)
"فقلت لـه لما تكشّر ضاحكاً
تعشَّ فإن واثقتني لا تخونني
نكن مثلَ من يا ذئبُ يصطحبان"(15)
وقائم سيفي من يدي بمكانِ
نكن مثلَ من يا ذئبُ يصطحبان"(15)
نكن مثلَ من يا ذئبُ يصطحبان"(15)
(1) ـ حمدان، محمد, 1983 ـ الميناء الموبوء. دار الآفاق الجديدة، بيروت, (159 ص).(2) ـ المصدر نفسه، ص 143.(3) ـ المصدر نفسه, ص 150.(4) ـ المصدر نفسه، ص 155.(5) ـ القرآن الكريم، سورة المائدة، آية رقم 24.(6) ـ حمدان، محمد، 1983 ـ الميناء الموبوء, ص 155.(7) ـ المصدر نفسه، ص 56.(8) ـ المصدر نفسه، ص 58.(9) ـ حمدان، محمد، 2005 ـ بتغرامو... وشرفة الأبجدية. اتحاد الكتاب العرب، دمشق، (154 ص)، ص 47.(10) ـ المصدر نفسه، ص 47.(11) ـ المصدر نفسه، ص 49.(12) ـ المصدر نفسه، ص 53.(13) ـ امرؤ القيس، ديوان امرئ القيس.(14) ـ حمدان, محمد، 2005 ـ بتغرامو... وشرفة الأبجدية. ص 139.(15) ـ الفرزدق، ديوان الفرزدق.(16) ـ حمدان، محمد، 2005 ـ بتغرامو... وشرفة الأبجدية. ص 141 ـ 142.(17) ـ المصدر نفسه، ص 121.(18) ـ المصدر نفسه، ص 122.(19) ـ المصدر نفسه، ص 115.(20) ـ المصدر نفسه، ص 47.(21) ـ المصدر نفسه، ص 115.(22) ـ المصدر نفسه، ص 139.(23) ـ المصدر نفسه، ص 129.(24) ـ المصدر نفسه، ص 129.(25) ـ الشموخ، مجلة إلكترونية شهرية ثقافية، جاءت المادة تحت عنوان "مكتبة بغداد".(26) ـ حمدان، محمد، 2005 ـ بتغرامو... وشرفة الأبجدية. ص 134.(27) ـ المصدر نفسه، ص 114.(28) ـ المصدر نفسه، ص 15.(29) ـ المصدر نفسه، ص 15.(30) ـ القرآن الكريم، سورة الملك، آية رقم 15.(31) ـ حمدان، محمد، 2005 ـ بتغرامو.. وشرفة الأبجدية. ص 86.(32) ـ المصدر نفسه, ص 86.(33) ـ المصدر نفسه, ص 73.(34) ـ المصدر نفسه، ص 81.(35) ـ المصدر نفسه، ص 99.(36) ـ المصدر نفسه، ص 99.(37) ـ المصدر نفسه، ص 106.(38) ـ القرآن الكريم، سورة الفلق، آية رقم 5.(39) ـ حمدان، محمد، 2005 ـ بتغرامو... وشرفة الأبجدية. ص 106.(40) ـ القرآن الكريم، سورة البقرة، آية رقم 179.(41) ـ حمدان، محمد، 2005 ـ بتغرامو.. وشرفة الأبجدية. ص 146.(42) ـ حمدان، محمد، 1992 ـ بين يدي المحيط. دار الحقائق, بيروت، (93 ص).(43) ـ المصدر نفسه، ص 33.(44) ـ المصدر نفسه، ص 33.(45) ـ المصدر نفسه، ص 38.