وسطیة بین النظریة و التطبیق نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

وسطیة بین النظریة و التطبیق - نسخه متنی

وهبة الزحیلی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

الوسطية بين النظرية والتطبيق

أ.د. وهبة الزحيلي

أستاذ جامعة دمشق

الحمد لله الحكم العدل، والصلاة والسلام على نبي الرحمة والفضل، وعلى آله وصحبه أهل الحكمة والعقل، وبعد:

هذا بحث موجز عن منهجية الاسلام وعلاقته بالآخرين فيمظلة شريعة الله تبارك وتعالى المتميزة بالوسطية والاعتدال والتسامح في كل شؤون الحياة الخاصة والعامة، مع النفس، وفي مجال الاعتقاد، والاقتصاد، والتربية، وأحكامالتشريع، والحكم والإدارة، والولاء والطاعة، والسلم والحرب، بل وفي الزمان والمكان وممارسة الفعاليات، وفي المواقف والمبادئ، والتعامل مع الآخرين على النحو المعتدلمن غير إفراط في التمسك بالقيم والمبادئ، ولا تفريط في الحقوق والمكاسب، والحفاظ على الذات والوجود المعيشي والدولي وتلقين أصول المعرفة، وممارسة الحوار والالتزامبالضوابط والقيود التي تحقق التوازن والاعتدال بين المطامح والمصالح، وبين النظرية والتطبيق، وبين الوجود الفاعل والمنفعل، وفي ضوء شرع الله وهديه القائم على العدلوالرحمة والإحسان، والتعاون والتعايش الودي مع الآخرين، والتزام القيم والأخلاق والعمل

(42)

على تحقيق آفاق الإسلام ونزعته العالمية دون إساءة ولاإثارة، ولا طمع ولا عدوان.

وهذا يوجب علينا أن نتعايش على وفق ظروف العصر والإمكانات المتاحة أو الواقعية دون تحليق في الأحلام والأخيلة والآمال المسولة، ومعالتزام مقتضيات الحكمة والتأني والعقل والرشد والوعي والنضج.

ويتطلب هذا المنهج التعرف بتؤدة وموضوعية وحياد على ما يأتي:

- طبيعة الإسلام في هديهودستوره ومقاصده وشرائعه.

- مدى التزام المسلمين قادة وشعوباً عبر التاريخ القديم والحديث بأصول شرعهم.

- مفهوم الوسطية والاعتدال والتسامح وآفاقالإنسانية المعاصرة.

- الوسطية بين الإفراط والتفريط أو بين الخصائص الكامنة والممارسات الظاهرة، أو بين النظرية والتطبيق.

طبيعة الإسلام في هديهودستوره ومقاصده وشرائعه:

الإسلام الحنيف والدين العالمي خاتم الشرائع الإلهية دين خالد، وشرع دائم، وراسلة إصلاح وإنقاذ ونجاة للعالم كله، يدعو لخير البشريةفي الدنيا والآخرة، ويحرص على إشاعة قيم الحق والجمال، والتحضّر والبناء، وغرس العقيدة الحقة، والعمل على ضبط معايير الحياة بالنظام الأصلح، والمنهج الأحكم، ومعرفةالطريقة الأرشد.

فإن اعتقد به عقلاء الناس وفهموه، تحققت الغايات الكبرى، وإن عاداه أهل الأهواء والحظوظ النفسية، كان الخراب والدمار والانحراف عن الهدىالأقوم، قال الله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْأَجْراً كَبِيراً، وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ

(43)

عَذَاباً أَلِيماً)(1).

فليس الإسلام عبئاً علىالبشرية كما يتوهمون وإنما هو بلسم ناجع لجراحها وآلامها، وتزويدها بأفضل مقومات الحياة الإنسانية.

ويقتضي هذا أن يكون الإسلام عنوان الخير المحض، وسبيلالإصلاح والتقدم، وأساس العمران والتحضر، لذا تجد شرائعه كاملة تجمع بين أصول بناء العقيدة الحقة، والعبادة الصحيحة، والأخلاق القويمة، والمعاملة الشريفة النقية من كلألوان التعثر والانحراف والظلم، والقائمة على قواعد العدل والتوازن، ورعاية المصالح والحاجات، وتحقيق المقاصد والغايات من أيسر الطرق وأصح المناهج.

ثم أن هذاالدين لا يبغي إلا الخير للإنسان، وإشاعة روح المحبة والتعاون والمودة بين الناس، وجعل معلم الحق والعدل والرحمة هو قاعدة الحياة الكريمة والسوية.

والإسلاميتحدى العالم في كل عصر وزمان ومكان أن يوجد بديل أفضل منه في الحياة العامة والخاصة، قال الله تعالى موضحاً المنهاج الإسلامي: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماًفَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (2).

ويقصر القرآن الكريم مهمةالنبي(ص) في دعوته العامة بقوله سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (3).

ويجعل الإسلام قانونه العالمي العام قائماً على التعاونوالتآلف، لا التناكر والاختلاف، ولا الصراع والخصام والتضاد، ولا التآمر والتقاتل والتدمير، وذلك في صريح بيانه الشامل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْمِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(4).والتقوى رمز لكل القيم الإيجابية والصلاح والعمل النافع والبناء

(44)

الشامخ وتعميم الخير، واستئصال كل نوازع الشر والانحراف.

ففي العقيدة:تتجلى الوسطية والاعتدال بين الخالق والمخلوق، والخالق هو الإله الواحد، فلا آلهة أخرى على الإطلاق، والمخلوقون هم على قدم السماواة عباد الله، وليس هنالك وسطاء بينالله وعباده، والعلاقة مباشرة وسهلة مع الله بطاعته ومحبته، قال تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (5).(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِيأَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)(6). والله هو الرازق، ولا رازق سواه، وهو وحده الذي يحاسبالخلائق يوم القيامة على أعمالهم الخيرة والشريرة، وهذا غاية العدل والإنصاف، والاعتدال والتسوية بين الناس دون تمكين أحد من المحاباة والميل أو الجور.

وفيالعبادة: تتجه كل النفوس صاغرة منقادة إلى ربها، شاؤوا أم أبوا، فلا معبود إلا الله، ولا تصح العبادة لغير الله، والناس ذكوراً وإناثاً متساوون في الطاعة والتكليف، دونتوسط أحد إلا لمن أذن له الرحمن بالشفاعة، قال تعالى: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاًوَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (7).

والعلم والتعلم وإدراك العقل: من الممكن لكل أحد، والملكات واحدة أو متقاربة، والتفاوت إنما هو في إعمال العقل وتفعيله وفي تفوق أوتوسع المعلومات، قال سبحانه: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (8).فلاتكتسب المعارف بألوان التقليد الأعمى والظنون والشكوك والأوهام، ولا بأدلة الحس والوجدان، والأخبار وحدها، وإنما بتزويد الله المعارف أيضاً: (وَاتَّقُوا اللَّهَوَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) (9)ثم تنميتها بالعقل والاختبار والتأمل والملاحظة والمشاهدة والإدراك، وهذه وسطية المعرفة الجامعة بين المنحة الإلهية والطاقة البشرية.

والإنسان: مكون من جسد وروح، ولكل إنسان حاجات ومطالب، فجمع

الإسلام بين مراعاة الماديات والروحانيات،وبين الدنيا والآخرة، لتحقيق التوازنوالاعتدال، والكفاية، دون لجوء إلى الكبت والقسر ومعاداة الفطرة، ومثال ذلك: عدم إباحة وتحريم الرهبنة، والإذن بتناول الطيبات والتزين المباح في الحياة، قال تعالى: (يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِالَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (10).

والأخلاق الإسلامية والقيم الكريمة والعليا تتضح فيها بحسب منهج القرآن المجيد معالم الوسطية والاعتدال، فلاشذوذ ولا إفراط ولا تفريط، ولا حرص على المنافع المادية فقط، وإنما لابد من الإحسان والتراحم، وإعمال القوة العاقلة والإشفاق، وتحقيق التوازن أو التعادل في المعاملاتبالتزام فضيلة العدل وإعطاء كل ذي حق حقه، والانضباط دون التهور باستخدام الجرأة الأدبية والشجاعة دون إلقاء الأنفس إلى التهلكة، وبالجود من غير إسراف ولا تقتير، قالتعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ) (11)، وقال سبحانه: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ... (12).) وقالسبحانه: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (13)، وقال نبي الاسلام: «إنمابعثت لأتمم مكارم الأخلاق» أو «صالح الأخلاق»(14).

والاقتصاد أو المال في الإسلام قائم على مبدأ تحقيق الكفاية، والمنافسة الحرة، والتوازن بين مصلحة الفردوالجماعة، ورقابة الله في الأخذ والعطاء، وتلك هي الوسطية الراسخة التي تضمن للناس الاستقرار والاطئمنان، قال تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْقِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَعَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى

(46)

الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواوَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (15).

وفي التربية والتعليم والدعوة الى الحق، نحن امة الوسط، فلسنا نهمل أنفسنا المولودة وتركها على الطبيعة بمالها وما عليها،وإنما لابد من المجاهدة والتزكية والترويض وتعديل الغرائز، ومراعاة مؤثرات البيئة الاجتماعية النفسية والسلوكية، لقوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا،وَقَدْخَابَ مَنْ دَسَّاهَا)(16).أي قد فاز من نمى عوامل الخير والفضيلة في نفسه، وخسر من أهمل نفسه فلم يتعهدها بالرعاية والتربية. ودعوتنا الى الدين بالعقل والمنطق والأسلوبالحسن دون إجبار ولا إكراه، لقوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (17).(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (18)، وقوله سبحانه:(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ...) (19)، (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَىاللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (20).

ووسطيتنا في وفي نظام الحكم والادارة، وسطيتنا واضحة واضحة، فهي تقوم على منهج الشورى (وَأَمْرُهُمْشُورَى بَيْنَهُمْ) (21).

فلا دكتاتورية ولا استبداد، ولا ديمقراطية زائفة تحمي مصالح الرأسماليين وأعوانهم.

ولا احتكار أرباب الشركات الكبرى، وأصحابالنفوذ والطغيان، ولا نلغي وحي الله وشرائعه، أونحتكم إلى مجرد العقل البشري الذي قد يخطئ ويضل، بل قد يتأثر الواضعون للقوانين بالأهواء والمصالح ومراعاة حاجات فئاتمعينة.

والإدارة في الإسلام تجمع بين مزايا النظام المركزي واللامركزي كما هو معروف.

والعلاقات مع غير المسلمين في الداخل تعتمد على أصول التعايش الوديوالتحابب والتواصل والتعاون في كل المجالات، مع الاعتراف بالمواطنة التامة

(47)

لغير المسلمين والتعامل بمقتضى العدالة والمساواة، لقوله تعالى: (لايَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّاللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (22).

وفي الخارج تقوم علاقاتنا الخارجية أو الدولية على احترام مبدأ السلم والأمن الدوليين، وتبادل المصالح، وعدم اللجوء إلىالحرب أو القتال إلا لضرورة أو للدفاع عن النفس والبلاد ووجود الأمة ودفع الظلم، وحماية المستضعفين، لقوله تعالى معبراً عن المبدأ الشامل: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِاللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (23).

واحترام حقوق الإنسان أساس في شريعتنا، في مظلة المبدأالعام وهو تكريم الإنسان من الله ومن عباده، لقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَالطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)(24).

هذه هي نماذج الوسطية والاعتدال في ميزان الشريعة الإسلامية، لها مدلولهاوتغلغلها في كل أحكام الشريعة، ووجوب التزامها وتطبيقها.

مدى التزام المسلمين قادة وشعوباً بشريعتهم؟

المسلمون حكاماً ومحكومين أشد الناس وأكثرهمفي الجملة التزاماً بأحكام شريعتهم الإلهية، لانطلاقها من منهج العقيدة الراسخة والمهيمنة على النفس، والتعبير عن تفاعله المتميز في نفس الإنسان، أثناء عبادته لربه فيالصلاة الصيام والزكاة والحج، واستشعار هيبة الله وجلاله والخشوع له ورقابته في السر والعلن.

فلقد كان أغلب الحكام المسلمين إجمالاً في تاريخنا الماضي مٌثُلاًرائعة في تطبيق شرع الله، على تفاوت بينهم في القلة والكثرة، والضعف والقوة،

(48)

والاستخذاء أو الاستضعاف والجرأة والشجاعة، والتقوى، وما يزال المسلمونفي الجملة على الرغم من انفلات بعضهم وانغماسه في المعصية والانحراف هم عناوين مشرفة وواضحة للعمل بهدي الله تعالى، واتباع رسوله في مقاومة الأهواء، وجهاد النفس والعدوالخارجي، والشيطان، والحذر من وساوسه، كما أوضح القرآن: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلايَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ،إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)(25).ووعي الكثرة المسلمة واضح في اتباع الحق والبعد عن الضلال والفسق، وإن ضل أكثر غير المسلمين أو بعض المسلمين أو انغمسوا في المعاصي ووهاد الانحراف، فهذه هي السمةالغالبة التي تؤكد أننا على الحق، وإن تواطأ الأكثرون على مناصرة الباطل، واختراق أصول الشرع الإلهي، كما وصف القرآن الكريم هذه الظاهرة في قوله تعالى: (وَإِنْ تُطِعْأَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (26). أي يخمنون ويقدِّرون من غيربيِّنة وعلم، بل ويكذبون.

وظاهرة الالتزام الاسلامية تضفي على المسلمين في الغالب صفة الاطمئنان والثقة، وتحمي مصالح الآخرين، إذا كانوا يؤيدون الاحتكام إلىقواعد الحق والعدل والمنطق والموضوعية وتطبيق شرعية الوسطية، لا اللجوء إلى الأهواء وتحقيق المطامع والانزلاق في مغبة الاستكبار والاستعلاء.

فإن من نعمة اللهتعالى الوافية على المسلمين أنهم أيضا وسط في الزمان والمكان والفعالية.

أما وسطية الزمان: فالمسلمون لم يكونوا مثل الغابرين المتخلفين أو البدائيين، وليسوا فينهاية عمر الزمان، حيث يأفل نجم الحضارة، ويتقاصر مدى الانطلاق الحضاري، وكانت شريعتهم منسجمة مع تطور العقل البشري، وتقدم العلوم والمعارف، وهم الآن في الربع الأول منالقرن الخامس عشر

(49)

يشهدون قفزة الحضارة المعاصرة إلى القمة، ويستفيدون من نتاجها، ويتمتعون بخيرها وحصادها في أضيق نطاق ممكن، وتجدد محاربتهموإضعافهم في كل زمان، وإبقائهم في درجة كبيرة من التخلف والتفرق والجهل والضياع.

وأما وسطية المكان أو الموقع الجغرافي: فمكة المكرمة وفيها البيت الحرام والكعبةالمشرفة، التي هي قبلة المسلمين في المشارق والمغارب هي في منتصف مركز الكرة الأرضية، والعالم موزع من حولهم في الجهات الأربع. والشرق الأوسط الذي يعيش فيه أعداد كبيرةمن المسلمين محطة أنظار العالم، وهو أهم موقع في الصراع الدائر بين الشرق والغرب، ومزايا هذا الموقع كثيرة ومهمة جداً، ففيه المعادن المختلفة والثروات النفطية الهائلةالمعادلة لخمس مخزون النفط العالمي وهو موقع استراتيجي حساس، ومناخه معتدل.

ووسطية الفعالية: واضحة المعالم في الفكر الإسلامي المتجدد والمعطاء والقابل للنماءالسريع، إذا أزيلت السدود، وحطمت القيود المحيطة بالمسلمين وما أكثرها، لأن الحضارة الإسلامية حضارة قوية وشاملة وقابلة للانبعاث الجديد، ولأن المسلمين الأصحاء فكراًوعقيدة وسلوكاً لا يرضون بغير اعتلاء برج القمة في السبق الحضاري، وإن كانت الظروف المحيطة شائكة، كثيرة التعقيد، وهذا مايزرعه الأعداء من شرق وغرب في الوسط الإسلاميلمواجهة المسلمين، ومحاولة إبقائهم متخلفين ومجزّأين أو متفرقين شيعاً وأحزاباً وحكومات متنافرة.

وكفى تزكية وشرفا للأمة الإسلامية أنها مقبولة الشهادة عندالله في الآخرة، وقد منحها الله تعالى صفة التزكية، فصار المسلمون شهوداً عدولاً، كما قررت الآية الكريمة التي يستشهدون بها خطأ على وسطية الأمة وهي قوله تعالى:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ...) (27). والوسط هم الخيار والعدول، وليسمعناه

(50)

التوسط في الأمور أو الاعتدال في الأحكام، فهذا يفهم من آيات أخرى مثل قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَبِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ...) (28).

مفهوم الوسطية والاعتدال والتسامح وآفاقه الإنسانية المعاصرة:

الوسطية: تعني التوسط بين الطرفين كوسط الدابة والمكان والمرعى والحال المعيشية، وأقرب ما يعبر عنه لغة أنه الاقتصاد، أي الوقوف في موقف الوسط والاتزان، كما جاء فيالحديث النبوي: «خير الأمور أوساطها»(29). وكما وصف الحق تعالى أصناف الناس في مواجهة الشرائع والكتب الإلهية: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْعِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (30)،والمقتصد: المتوسط.

ويشير أو يرشد إليه قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (31). وقولهسبحانه: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (32).

ووصف الله شريعته بأنها علىالصراط السوي: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِلَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (33).

والاعتدال: معناه الاستواء والاستقامة، يقال: اعتدل من الركوع أي استقام، واعتدل المناخ: كان الجو لطيفاً، لا بارداً ولا حاراً.

والتسامح: صيغة مفاعلة بإظهار السماحة من الجانبين، والأدق أن يقال: سماحة الإسلام، أي المتجسدة في ذاته وتعاليمه وأحكامه، ولا يتوقف ذلك على سماحة خصومة من الآخرينغير المسلمين. ومعناه: الأيسر والسهولة، والابتعاد عن الشدة والقسوة، وهذا المبدأ وهو اليُسْر أو عدم الحرج من خصائص

(51)

التشريع الاسلامي المقرر فيآيات كثيرة، ومنها: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (34).

وتكون الكلمات الثلاث مؤدية معنى متقارباً يتمثل في أن تعاليمالإسلام ليس فيها غلو أو تطرف أو إرهاب، ولا تهاون أو تقصير، أو ذل أو استسلام، وإنما لابد من الحفاظ على حق المقاومة أو الدفاع أو جهاد المعتدي، للحفاظ على الوجود.

ومقتضى ذلك: أنه لا يجوز ولا يصح بحال تعطيل أو نقض أحكام الشريعة، ولا الزيادة عليها، أو الابتداع فيها، فالإسلام دين الحكمة والجرأة والأصالة وتسديد الحقوق والوفاءلها. وهذا يعني أنه لا يصح أن تفهم الوسطية وما في معناها أنها استسلام لأطماع الأعداء أو الرضا بالتسلط وممارسة الظلم وهضم الحقوق، وابتلاع الوجود الاسلامي أو العربي،أو المساس بالمقدسات، أو الإذعان والخضوع لهيمنة المحتل أو الغاصب أو الظالم، فإن الإسلام دين الحق والعدل والمنطق والعزة، قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَرَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (35). (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِوَلِلْمُؤْمِنِينَ) (36).

والإسلام أيضاً دين الرحمة والحضارة والمدنية، فلا يقر العدوان ولا الفساد أو الإفساد، ولا الضرر والإضرار، ولا يبيح لفئة شاذة أن تعيثفي الأرض فساداً دون إذن الحاكم العادل أو موافقة السلطة الشرعية، وإلا صار الأمر فوضى، قال الله تعالى: (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (37).وندد الله سبحانهبالمفسدين في الأرض في قوله: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (38).ووبخالله تعالى قادة الفساد الذين يورّطون غيرهم في الآية الشريفة:

(وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلايُصْلِحُونَ) (39).

وقال النبي المصطفى(ص): «لا يحل لمسلم أن يروِّع مسلماًً»(40). أي ولا غير

(52)

المسلم، وفي حديث آخر: «ملعون من ضارَّ مؤمناً أو مكربه»(41). وهو يشمل أيضاً غير المؤمن، لأن الله يحرم على الإطلاق الضرر بأي واحد.

هذه هي واجهة الإسلام وحقيقته، وهي رسالة عامة للبشرية وخالدة، فلا يعقل أن يكونفيها ما يصادم العقل والحكمة والمصلحة، وإنما خيرها يعم الإنسانية، وهي تطمح أن يفيء الناس جميعاً إلى ظلها، ويدخلوا في لواء عقيدتها، وذلك يعني أن الإسلام دين لا يعرفالإرهاب؛ وهو الاعتداء غير المشروع، ولا يقر الفساد والإضرار، ولا يفرط في الحقوق المشروعة، ولا يرضى لأتباعه تحمُّل الضيم والأذى، وقد أذن القرآن الكريم بالقتال فيأول آية مع بيان أسباب مشروعية الجهاد لردّ الاعتداء والدفاع عن الحرمات: حرمة النفس (حق الحياة) والعرض (القيم العليا) والمال (حقوق الإنسان المادية)، فقال تعالى: (أُذِنَلِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْيَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ...) (42).فلا يكون الجهاد أداة صراع مع الآخرين، وإنما هو وسيلة لإشاعة السلام واستقرار الأوضاع.

وإذا وجد ظرف الاستضعاف أو الضعف، وجبالصبر، حتى تتوافر القوة المناسبة لاستخلاص الحقوق المغتصبة. وهذا الاتجاه هو ما تقره شرعة أو ميثاق الأمم المتحدة، فيجب على أهل هذه الشرعة وهم المجتمع الدولي أنيحافظوا عليها، وأن يعاملوا الآخرين بمكيال أو ميزان واحد، ويبتعدوا عن ازدواجية المعايير، والمعاملة لحساب طرف على حساب الطرف الآخر.

الوسطية بين الخصائصالكامنة والممارسات الظاهرة

الوسطية في الإسلام ظاهرة واضحة من خلال ما تقدم ومن صريح النصوص القرآنية التي تقرر مبادئ ثابتة، منها: دفع الحرج والأخذ باليسر،كما في قوله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا

(53)

تُؤَاخِذْنَا إِنْنَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَلَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (43).والإصر: التكليف الشاق والأمر الصعب، فهذامرفوع في شرعنا.

ومن مقتضيات الوسطية: إقرار الحرية للمؤمنين ولغير المسلمين في أن يختاروا ما يريدون، ثم يكون الحساب على ما اختاروا، فإن أساؤوا الاختيارعوقبوا، وإن أحسنوا الاختيار كوفئوا وجوزوا بالجزاء الأحسن، لاتضاح الأمور وظهور الحق وانكشاف زيف الباطل، وهذا معنى قول الله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْفَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوابِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً) (44).فالآية تعني الإنذار والتهديد لكل من أساء الاختيار فصار من الظالمين.

وتقرير الحرية للآخرين يعني تمكينهم من ممارسة الحرية بأنواعها، وهذا لا يتوافر إلا بنظرة السماحة أو التسامح بين أفراد المجتمع الإنساني، ثم يترك أمر الحساب على سوءالممارسة إلى الله(عزوجل) في الدار الآخرة، وليس على النبي الرسول (ص)ولا على العلماء وأمة الإسلام إلا البيان وتبليغ الدعوة، دون إحراج ولا تضييق ولا إكراه، كما أبانالحق تعالى بقوله: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَبِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (45).

وقوله(عزوجل): (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (46).وقد أراح الله البشرية قاطبةبهذا البيان العام الشامل القاطع لشمول الحرية وتعميقها في آية: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَحَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (47).

والتزم المسلمون في كل عصر بهذا التوجيه، فلم تقع حادثة منهم تتنافى

(54)

أو تتصادم مع هذا النداء الإلهي، ولمنجد في التاريخ أن أحداً من المسلمين أكره غيره على الدخول في الإسلام، لأن العقيدة تتطلب الاقتناع والاستقرار الذاتي في القلب، ولا ينفع الإكراه في إيجادها أو حملالناس على إعلانها، لأن ما ثبت بالإكراه سرعان ما يزول بعد زوال ظرف الإكراه.

ومن متطلبات الوسطية والتسامح: الاعتراف بالآخرين وبالتعددية الدينية والمذهبيةوالعرقية والفلسفية في العالم، فكل ما يعارض هذا التوجه يؤدي إلى الإخلال بالثقة، ويزرع التهمة وسوء الظن، ويحول دون ممارسة ظاهرة السماحة والتقارب والتعايش السلميوالودي الذي عامل به المسلمون غيرهم، فظاهرة الاختلاف وضع قائم، وعلى الرغم من الاختلاف، فلابد من التعارف والتعاون في عالم الدنيا وترك حصيلة الاختلاف للحساب فيالآخرة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْعِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (48).

والوسطية: تعني أيضاً ضرورة الانفتاح على الآخرين، ومواصلة الحوار معهم، والحوار الهادئ القائمعلى الاحترام المتبادل بين طرفيه يحقق آثاراً ونتائج طيبة ونافعة، لأن سماحة الإسلام تغرس في النفس الراحة والطمأنينة بعد أداء الواجب في البيان والتبليغ. وليس الهدف منالحوار كما يشيع الآن مجرد محاولة تهدئة الطباع وإزالة التوتر، وتخفيف حدة الصراع والنزاع، وانتزاع الغل والحقد والكراهية والبغضاء من النفوس، وإنما الهدف الأسمى هوإثراء الفكر، وإظهار السماحة، وتبيان الحق، وتحقيق مدلول التعاون المثمر بين المجتمعات الإنسانية والعائلة البشرية فيما يعود على الجميع بالخير وتبادل الود والمحبةوإظهار حسن النية، وزرع الثقة وحسن الظن، والبحث عن الجسور المشتركة بين أفراد النوع الإنساني التي هي اللبنة الاساسية للتعاون بين الأمم والشعوب، وحينئذ يكون الحوارضرورة وقيمة إنسانية ودينية في آن واحد، ومظهراً

(55)

حضارياً رفيعاً.

والوسطية أو السماحة: لا تعني اللجوء إلى التحريض وزج المجتمع الإنساني فيأتون المنازعات أو الاقتتال وإشعال نيران الحروب، فإن دعوة الاسلام في أصولها وممارساتها قائمة على إيثار السلم والسلام، وعدم الالتجاء لاستخدام القوة إلا عند الضرورةأو الدفاع، أو منع الظلم، أو إغاثة المستضعفين.

ولعل أفضل ما أذكِّر به في هذه المناسبة: ضرورة الاستظلال بلواء النداء الإلهي في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (49).وذلك سواء فسرت الدعوة إلى التزامظاهرة السلم بالإسلام فهو كله سلام، أم بالسلم والأمن ضد الحرب والقتال.

وبعد بيان هذه اللمحات الإيمانية الصافية يتبين لنا ما يأتي:

1ـ ضرورة وضع تعريفشامل وموضوعي نابع من منطق الحق والعدل لكلمة «إرهاب» التي اتخذتها قوى الاستكبار العالمي مظلة لشن الحروب الطاحنة واحتلال أراضي الدول الأخرى، وتدمير كل مظاهر العيشالكريم وإبادة الشعوب، وجعل البلاد والأوطان والديار مهدمة على رؤوس أهلها، وقتلهم، وتشريد الشيوخ والنساء والأطفال من ديارهم، وقصف المساجد ودور العبادة بأفتك آلاتالخراب والدمار، لتصريحهم بأنهم لا يؤمنون بقدسيتها، وجعل البلاد صحارى بعد عمرانها.

2- إن «المقاومة» أو الجهاد أو الدفاع ضد المحتل واجب مقدس ومشرّف، وذلك مايعترف به ميثاق الأمم المتحدة، بغض النظر عن أن جنود الشر من قوى التحالف الغربي يصرحون بكفرهم وضلالهم، وأنهم لا يؤمنون بالدين إسلاماً كان أو غيره، وإنما يعتمدون علىقوة الاقتصاد والسلاح وغطرسة القوة العسكرية وتفرد أمريكا بزعامة العالم أو الانفراد بالقطب الواحد.

3- إن هذا الإرهاب الدولي الذي تمارسه قوى التحالف الغربي فيالعراق

(56)

وأفغانستان وغيرهما من البلاد كان هو السبب في ظهور الإرهاب بالمعنى الذي يريدون، بل إنه هو السبب في تزايد ظاهرة الإرهاب وانتشارها، وتأجيجنيران الحقد والكراهية بين الناس. والظلم والاستماتة في الدفاع عن حرمة الأوطان.

4- إن تورط بعض الشباب المسلم في ارتكاب بعض الأعمال الإرهابية في داخل الدولالعربية والإسلامية وغيرها لا مسوغ له بحال، بل يتنافى مع خصائص الوسطية الاسلامية والتسامح الإسلامي، وهو إفساد وخراب وتدمير وتقتيل، ولا يقره شرع الله ودينه. وعلماءالمسلمين قاطبة متفقون على عدم مشروعيته والتنديد بمن يمارسه أيا كان مقصده ونيته، فهؤلاء فعلاً هم الإرهابيون الذين تجب مقاومتهم، ولكن هل تأديبهم يعني حصاد الشعوبواحتلال الأوطان من قبل المستعمرين الظالمين؟!

5- أما الرد على عدوان المعتدين في أي مكان والدفاع عن النفس والبلاد والممتلكات والمقدسات فهو دفاع مشروع،ومقاومة شريفة بل وواجبة، ولا يسمى ذلك إرهاباً بل الإرهاب هو ما تصنعه دول الظلم والعدوان.

6- على جميع المسلمين في العالم تأييد أبطال المقاومة ضد المحتلينوالغاصبين والمعتدين بالمال والنفس وكل أنواع المؤازرة والدعم والمشاركة والتعاون، وذلك يعد استشهاداً في سبيل الذود عن الحقوق، وليس انتحاراً كما أساء فهمه بعضالمفتين، بل وليس حراماً كما زعم بعض المفتين.

7- على أولئك الذين يتورطون في أعمال تخريبية أو غيرها في داخل الدول العربية والإسلامية ضد حكوماتهم أن يدركوا أنممارساتهم هذه مهما قيل في تأويلها وتسويغها هي خطأ محض، تتصادم مع خصائص شريعة الله، ومنها الوسطية وتحريم الفساد والتدمير بغير حق، فذلك هو عين الشر والباطل، واللهيقول الحق وهو يهدي السبيل.

8- إننا بأشد الحاجة لفهم شرائع الإسلام فهماً صحيحاً وعميقاً، وأن يكون

(57)

خطابنا للآخرين متسماً بالأسلوب الحسنوالخطاب الرفيق المعتدل، والحكمة والموعظة الحسنة، ومدروساً ونابعاً من مقتضيات الأصالة والمرونة، والعقل والوعي للحاضر والمستقبل، والأخذ بمنهج الاعتدال والوسطية،وبخاصة حال الضعف والتحديات الخطيرة، مع تقدير وضع توازن القوى والقدرات.


1 - الاسراء:9- 10.

2- الأنعام:153.

3-الانبياء:107.

4- الحجرات:13.

5- قّ:16.

6- غافر:60.

7- آل عمران:83.

8- المجادلة:11.

9- البقرة:282.

10- لأعراف:32.

11- النحل:90.

12- النساء:148.

13- . الشورى:40.

14- أخرجه البخاري في الأدب المفرد والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة.

15- البقرة:177.

16- الشمس:9- 10.

17- النحل:125.

18- البقرة:256.

19- الأنعام:153.

20- يوسف:108.

21- الشورى:38.

22- الممتحنة:8.

23- البقرة:190.

24- الاسراء:70.

25- فاطر:5- 6.

26- الأنعام:116.

27- البقرة:143.

28- آل عمران:110.

29- ذكره الديلمي بلا سند عن ابنعباس مرفوعاً، ولأبي يعلى بسند رجاله ثقات عن وهب بن منبِّه قال: «إن لكل شيء طرفين ووسطاً، فإذا أمسك بأحد الطرفين مال الآخر، وإذا أمسك بالوسط اعتدل الطرفان، فعليكمبالأوسط من الأشياء».

30- فاطر:32.

31- الفرقان:67.

32- الاسراء:29.

33- الأنعام:153.

34- البقرة:185.

35- الصف:9.

36- المنافقون:8.

37- البقرة:60.

38- البقرة:205.

39- الشعراء:151- 152.

40- أخرجه أحمد وأبو داود عن رجال، وهو صحيح.

41- أخرجه الترمذي عن أبي بكر، وهو حديث حسن.

42- الحج:39- 40.

43- البقرة:286.

44- الكهف:29.

45-البقرة:256.

46- الغاشية:22.

47- يونس:99.

48- الحجرات:13.

49- البقرة:208.


/ 1