وثاني العوامل التي ألهمتها فكرة الاعتزال ما تركته في نفسها المآسي ((التي سببتها الحرب العالمية الثانية))^(^^) والدمار الذي ألحقته بالبشرية الأمر الذي سفَّه الحياة بنظر الشاعرة، في الوقت الذي جعلها فيه تخاف الموت.
وثالث هذه العوامل رفض الشاعرة التقاليد الاجتماعية الصارمة سيّما منها تلك التي تتعلق بحرية المرأة، وتجد لهذا الرفض أصداء عميقة في نفس نازك من المرارة والألم، والتوق إلى التغيير في آن،^(^^) ولا يخفى أنّ عجز الشاعرة عن التغيير سيترك آثاره السلبية من الآن، في موقفها من المجتمع، والوجود.
أما العامل الرابع، وإن كان ذا تأثير ثانوي، فهو ما ترسب في نفس الصبية نازك من مشاعر الرعب بإزاء حيوان حفلت به منطقة سكنى عائلتها يومئذ مثل حيوان (البزبز) الذي أسمته ((كابوس طفولتها))، ومثل بنات آوى التي هاجمت ذات ليلة جارهم بعنف.^(^^) تلك هي العوامل التي يرى الباحث أنها ربما أسهمت في تشكيل غربة الشاعرة الاجتماعية واضطرتها إلى الاعتزال، وصولاً إلى غربة نفسية قاسية. ولعل تلك الغربة هي التي كانت وراء تأصيل موقف نازك من الليل، والوجود، والموت، والإيمان، والحب، وهي الموضوعات التي وسمتْ غربتها في رحلتها الشعرية الأولى واستمرت بعد ذلك إلى حين، في البداية ترسمت نازك خطى بعض الشعراء الرومانسيين في الاحتماء بالليل، والهرب من النهار، مثل جبران، وأبي القاسم الشابي، وعلي محمود طه، هرباً ((من حياة الواقع الخشن التي يمثلها النهار، إلى حياة الحلم والمثال التي يمثلها الليل))^(^^) والذي أصبح تعبيراً دقيقاً عن ذات الشاعرة المغتربة، التي رأت في الليل مالا يراه فيه الآخرون من ضوء خفيٍ،وحب مستتر وهما، عندها، حقيقة الحياة الطاهرة التي تسعى إليها بعد أنْ تخلت عن حياة قائمة على الزيف، تقول نازك:
إنْ أكنْ عاشقة الليل فكأسي
مُشرقٌ بالضوء والحب الوريق
وجمال الليل قد طهّر نفسي
بالدجى والهمس والصمت العميق
أبداً يملأ أوهامي وحسي
بمعاني الروح والشعر الرقيق
فدعوا لي ليل أحلامي ويأسي
ولكم أنتم تباشير الشروق()
ولأن الوضوح المألوف اقترن بالنهار، وهو وضوح مزيف كما تراه، فهي تتشوف إلى وضوح حقيقي هو بمثابة المحال، فللمحال جمال^(^^)لا يدركه إلا الذي استكْنَهَ خفاياه.
أما الوجود فكان في نظرها لغزاً محيراً عجزت عن فهمه، وكانت موقنة أنّ السعي لفهمه عبث لا طائل وراءه فإذا كان ((سر الحياة)) لغزاً عند ((الحكماء)) فأولى بها أن تيأس فتستريح،^(^^) ولكن اغترابها عما حولها، يدفعها إلى التساؤل الملح لعلها تظفر بما يخفف من عزلتها.
أما الموت فقد كان ((واحدة من المشكلات التي قادت نازك إلى فكرة العدم في مرحلة الشباب)).^(^^)وذلك انعكاس لوعيها اليقظ ونتاج قراءتها الفلسفية، وتطلعها إلى ماهو أبعد من متناول البشر، ولذلك ظل الموت يقض مضجعها، لأنه ((اتجاه هذا العالم الذي لا يَفْهم، وهذه الحياة اليومية المضحكة، وتجاه هذا التشخيص الإيمائي الذي لن ينتهي إلا بالموت))، كما يقول روبير دوبليه، أقول اتجاه ذلك كله يحاول الوعي الحاد استنطاق مايخلقه من رؤى جديدة محاولاً حل مايتصوره فيها من ألغاز لعلها تشبع نهمه في ارتياد المجهول. ولذلك فقد وقفت نازك مستوفزة ليس أمام مافي الحياة وما وراءها فحسب، ولكن أيضاً أمام مافي الموت وما وراءه من أسرار.^(^^) وهي نفسها تعترف بأنه لم تكن ثمّة ((كارثة أقسى من الموت))^(^^) ولذلك أسمته ((مأساة الحياة الكبرى))،^(^^) فثمة إذن طقسان لهذا الوجود: الحياة وهي الطقس الحاضر،والموت وهو الطقس الغائب، تقول الشاعرة مخاطبةً الحياة: