إن الموت الذي اخترم أمه سيكون كالطير الذي يحوم فوق رأسه، يلاحقه في كل مكان، وينغص عليه حياته في كل حين، والطفل الذي افتقد أمه قبل ثلاثين عاماً يستيقط الآن في صدر الشاعر حالماً، من فرط الوحدة والألم، بلقاء الوجه الذي غيبته السنون، متصوراً أن ذلك سيضع حداً لآلامه، فحين يشتد عليه المرض، وييأس من الشقاء يتوسل بقبر أمه أن يفتح ذراعيه لاستقباله^(^^) وحين ترتخي عنه قبضة المرض، تضيء له بارقة من أمل فيخاطب أمه قائلاً:
أماه ليتكِ ترجعينْ
شبحاً، وكيف أخاف منه وما امّحتْ رغم
السنينْ
قسماتُ وجهكِ من خيالي()
ومن عناصر غربته الاجتماعية موت جدته، وزواج أبيه، أما موت جدته فقد ((جعله... وحيداً مستوحشاً))، ^(^^)فهي الصدر الذي احتضنه بعد رحيل أمه، وقد فقد بغيابها آخرُ مُعين له، يقول:
جدتي من أبثّ بعدكِ شكواي
طواني الأسى وقل مُعيني
أنتِ يامَنْ فتحتِ قلبكِ بالأمسِ
لحبي أوصدْتِ قبركِ دوني^(^^)
ولنلاحظ المفارقة التي أحدثتها الصدمة في نفس الشاعر: الجَدَّة التي فتحت قلبها بالأمس له، توصد باب قبرها دونه اليوم، فبين انفتاح القلب (الامتلاء)، وانغلاق القبر (التلاشي) تمتد غربة الشاعر، وتسد عليه مسارب التنفس، أمَّا زواج أبيه بعد وفاة أمه، فقد حرمه من عطف بات أبعد من خيال أيّ امرأة يشتهيها: إنه التشبيه بالمستحيل، يقول الشاعر:
خيالك من أهلي الأقربين
ابرّ وإن كان لا يعقلُ
أبي... منه قد جردتني النساء
وأمي طواها الردى والمعجلُ()
إنها نجوى الوحيد الذي يتآكله الحرمان، وتغزوه الغربة من جميع الجهات.
-2-
وعانت نازك الملائكة من الغربة الاجتماعية التي كانت مدخلاً لغربتها النفسية فيما بعد. ففضلاً عن الإحساس الشاعري المرهف الذي جُبلت عليه منذ صباها وكان أحد أسباب عزلتها، كان ثمة عوامل ألهمتها فكرة الاعتزال.
أولى هذه العوامل نشأتها في محيط ثقافي أسري خاص أسسه الأبوان الشاعران، استمد جذوره الأولى من جدها لأمها الذي كان ((شاعر القرن التاسع عشر)).^(^^) وقد اتخذ تأثرها بهذا الجو منحنيين: تجسد الأول في قراءاتها الأدبية والشعرية، مقترنة بانعطافها نحو رموز المدرسة الرومانسية، وحين تكون الرومانسية((حالة نفسية أكثر منها مذهباً فنياً... تتدفق في إبداع الشاعر نغماً حزيناً وفكراً متشائماً نتيجة المرارة والخيبة، وفي أعقاب المحن والأزمات))؛^(^^)
أدركنا أن تعاطف نازك مع عاشقي الليل، وأصدقاء الحزن، لم يكن اعتباطياً، أما المنحى الثاني فقد تمثل في انكبابها على قراءة التراث الفلسفي الذي قرَّبها من الألماني المتشائم (شوبنهاور)، بل جعلها أكثر تشاؤماً منه.^(^^) وكانت حصيلة هذه الثقافة المتنوعة ولادة شاعرة إنسانة تميزت عن بنات جنسها. وقد كتبت نازك عن ذلك تقول إنه كان ((بسبب إحساسي الدائم بأنني اختلف عن سائر البنات اللواتي في سني، فأنا كثيرة المطالعة، محبة للشعر والغناء، جادة، قليلة الكلام، بينما هن لا يطالعن ولا يعبأن بالفن وليس لهن من الجد في الحياة إلا يسير))^(^^) وهكذا كان اعتزالها بنات جنسها خطوة أولى نحو