رب أنعمت فزد تولاك الله بحفظه، وأعانك على شكره، ووفقك لطاعته، وجعلك من الفائزين برحمته ذكرت - حفظك الله أنك قرأت كتابي في تصنيف حيل لصوص النهار، وفي تفصيل حيل سراق الليل، وأنك سددت به كل خلل ،وحصنت به كل عورة،وتقدمت بما أفادك من لطائف الخدع ،ونبهك عليه من غرائب الحيل، فيما عسى ألا يبلغه كيد، ولا يحوزه مكر وذكرت أن موقع نفعه عظيم، وأن التقدم في درسه واجب وقلت: اذكر لي نوادر البخلاء، واحتجاج الأشحاء، وما يجوز من ذلك في باب الهزل، وما يجوز منه في باب الجد،لأجعل الهزل مستراحا،والراحة جماما؛ فإن للجد كدا يمنع من معاودته، ولا بد لمن التمس نفعه من مراجعته. وذكرت ملح الحزامي، واحتجاج الكندي، ورسالة سهل بن هارون،وكلام ابن غزوان، وخطبة الحارثي، وكل ما حضرني من أعاجيبهم، ولم سموا البخل صلاحاً، والشح اقتصاداً، ولم حاموا على المنع، ونسبوه إلى الحزم، ولم نصبوا للمواساة، وقرنوها بالتضييع، ولم جعلوا الجود سرفاً، والأثرة جهلاً، ولم زهدوا في الحمد، وقل احتفالهم بالذم، ولم استضعفوا من هش للذكر، وارتاح للبذل، ولم حكموا بالقوة لمن لا يميل إلى ثناء، ولا ينحرف عن هجاء؛ ولم احتجوا بظلف العيش على لينه، وبحلوه على مره؛ ولم لم يستحيوا من رفض الطيبات في رحالهم، مع استهتارهم بها في رحال غيرهم، ولم تتايعوا في البخل؛ ولم اختاروا ما يوجب ذلك الاسم، مع أنفتهم من ذلك الاسم؛ ولم رغبوا في الكسب، مع زهدهم في الإنفاق؛ ولم عملوا في الغنى، عمل الخائف من زوال الغنى، ولم يفعلوا في الغنى، عمل الراجي لدوام الغنى، ولم وفروا نصيب الخوف، وبخسوا نصيب الرجاء، مع طول السلامة وشمول العافية، والمعافى أكثر من المبتلى، وليست الحوائج أقل من الفوائد. فكيف يدعوا إلى السعادة من خص نفسه بالشقوة، بل كيف ينتحل نصيحة العامة من بدأ بغش الخاصة؟ ولم احتجوا مع شدة عقولهم بما أجمعت الأمة على تقبيحه، ولم فخروا مع اتساع معرفتهم بما أطبقوا على تهجينه؟ وكيف يفطن عند الاعتلال له، ويتغلغل عند الاحتجاج عنه إلى الغابات البعيدة، والمعاني اللطيفة، ولا يفطن لظاهر قبحه، وشناعة اسمه، وخمول ذكره، وسوء أثره على أهله؟ وكيف وهو الذي يجمع له بين الكد وقلة المرفق، وبين السهر وخشونة المضجع، وبين طول الاغتراب وطول قلة الانتفاع، ومع علمه لأن وارثه أعدى له من عدوه، وأنه أحق بما له من وليه؟ أو ليس لو أظهر الجهل والغباوة، وانتحل الغفلة والحماقة، ثم احتج بتلك المعاني الشداد، وبالألفاظ الحسان، وجودة الاختصار، وبتقريب المعنى، وبسهولة المخرج، وإصابة الموضع، لكان ما ظهر من معانيه وبيانه، مكذباً لما ظهر من جهله ونقصانه؟ ولم جاز أن يبصر بعقله البعيد الغامض، ويعيا عن القريب الجليل؟ وقلت: فبين لي ما الشيء الذي خبل عقولهم، وأفسد أذهانهم، وأغشى تلك الأبصار، ونقض ذلك الاعتدال؟ وما الشيء الذي له عاندوا الحق، وخالفوا الأمم؟ وما هذا التركيب المتضاد، والمزاج المتنافي؟ وما هذا الغباء الشديد الذي إلى جنبه فطنة عجيبة؟ وما هذا السبب الذي خفي به الجليل الواضح، وأدرك به الدقيق الغامض؟ وقلت: وليس عجبي ممن خلع عذاره في البخل، وأبدى صفحته للذم، ولم يرض من القول إلا بمقارعة الخصم، ولا من الاحتجاج إلا بما رسم في الكتب؛ ولا عجبي من مغلوب على عقله، مسخر لإظهار عيبه، كعجبي ممن قد فطن لبخله، وعرف إفراط شحه، وهو في ذلك يجاهد نفسه، ويغلب طبعه. ولربما ظن أن قد فطن له، وعرف ما عنده، فموه شيئاً لا يقبل التمويه، ورقع خرقاً لا يقبل الرقع. فلوا أنه كما فطن لعيبه، وفطن لمن فطن لعيبه، فطن لضعفه عن علاج نفسه، وعن تقويم أخلاطه، وعن استرجاع ما سلف من عاداته، وعن قلبه أخلاقه المدخولة إلى أن تعود سليمة، لترك تكلف ما لا يستطيعه، ولربح الإنفاق على من يذمه، ولما وضع على نفسه الرقباء، ولا أحضر مائدته الشعراء، ولا خالط برد الآفاق، ولا لابس الموكلين بالأخبار، ولا استراح من كد الكلفة، ودخل في غمار الأمة. وبعد فما باله يفطن لعيوب الناس إذا أطعموه، ولا يفطن لعيب نفسه إذا أطعمهم، وإن كان عيبه مكشوفاً، وعيب من أطعمه مستوراً؟