بين السنة والشيعة.. هل تنجح الفتنة الطائفية؟
الاستعمار هو الاستعمار أ.د. رجب البنا
رئيستحرير مجلة اكتوبر المصرية
في كل زمان وفي كل مكان يسعى الى تطبيق مبدأ (فرق تسد) .
وقد حاول الاستعمار البريطـاني أن يطبق هذا المبدأ في مصر بإثارة الفتنةبين المسلمين والأقباط وفشل.. وما زال يحاول ويفشل، لأن وحدة شعب مصر أقوى من المؤامرة.
وحاول في العراق إثارة الفتنة بين الشيعة والسُنّة وفشل، وما زال يحاولويفشل، لأن شعب العراق الحر يرفض الاحتلال، كما يرفض الانشغال بالخلافات الطـائفية، ويترك الاحتلال ليوطد قواعده ويستقر آمناً لعشرات السنين، ويتساقط العراقيون ضحايافي الحرب الأهلية.
والاحتـلال الأجنبـي لم يفهم-ولن يفهم- أن الاختلافات بين المذاهب موجودة منذ مئات السنين.. بين طوائف السُنّة وبين طوائف الشيعة. وهذهالاختلافات تدور داخل اتفاق يجمع المسلمين جميعا على أركان ومبادئ لا يختلف أحد عليها. فالإسلام مظلة تنطوي تحتها الفرق والمذاهب الإسلامية.
وبعضالكتاب - مع الأسف - يستغلون جهل كثير من المسلمين بحقيقة الاختلاف والاتفاق بين السُنّة والشيعة، فيعملون على زيادة الفجوة بين الطائفتين، ويرددون أفكار وكتابات غلاةالشيعة من جانب والمتشددين القدامي والمحدثين على الجانب الآخر لغرس بذور الفتنة.. وعلى امتداد التاريخ هناك كتابات مدسوسة، وكتابات مسمومة، وكتابات نابعة من سوء الفهمأو سوء القصد أو المصالح الشخصية أو الدوافع السياسية.
وكان من حسن حظي أن تعرفت في السبعينات على واحد من أئمة الشيعة هو الإمام محمد القمي، وهو إيراني، يجيداللغة العربية وعاش في مصر سنوات طويلة، وكان المؤسس لجماعة التقريب بين المذاهب، ومقرها في الزمالك في القاهرة، وعندما استقر في إيران كان يزور القاهرة كل سنة لقضاءعدة أسابيع يلتقي فيها بشيخ الأزهر ووزير الأوقاف، ويدلي بأحاديث صحفية عن ضرورة تقريب الفجوة المصطنعة بين السُنّة والشيعة. ولأني كنت قريبا من وزير الأوقاف في ذلكالوقت، الدكتور عبد العزيز كامل يرحمه الله، وكان أستاذا كبيرا ومفكرا عظيما، ووطنيا مخلصا شديد الإخلاص لدينه ووطنه، فقد عرفني على الإمام القمي، وأجريت معه عدةأحاديث صحفية للأهرام، كما حضرت لقاءاته مع شيوخ الأزهر ووزراء الأوقاف المتعاقبين بعد ذلك وكان من بينهم الإمام الشيخ متولي الشعراوي حين كان وزيرا للأوقاف والشيخ عبدالعزيز عيسي حين كان أيضا وزيرا للأوقاف.
وكان لجماعة التقريب بين المذاهب نشاط ملحوظ في مصر وإيران وقد أسس الإمام القمي فرعا لها في طهران جذب عددا من القياداتالدينية الشيعية هناك.
كان الامام القمي يؤمن بدعوته وبأنه يقوم بمهمة مقدسة تلبية لدعوة
إلهية، وأنه يساهم بها في حركة الإصلاح الإسلامي،وكان يردد دائما الآية الكريمة: (إنما المؤمنون أخوة، فأصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله، لعلكم ترحمون) (الحجرات -10-). ويقول في تفسيرها: إن الجملة الأولى تقرر حقيقة هي أنالمؤمنين أخـوة، ويجب أن يكونــوا كـــذلك دائمــا ما داموا مؤمنين، وهذا أمر ربهم، فإن لم يفعلوا فإنهم يخالفون بذلك أمر الله ويخرجون على طاعته. وليس لمسلم أن يكون لههدف يخالف هذا الهدف، أو أن يأتي بفكرة أو عمل يخرج بها عن مقتضيات هذه الأخوة لأي سبب من الأسباب.. والجملة الثانية من الآية تأمر بإصلاح ذات البين، أي أن يبعد المسلمونأنفسهم عن كل ما يمكن أن يفسد علاقة الأخوة التي قررها وقدرها الله بينهم، وفي ذلك تحذير الرسول (ص): (إن فساد ذات البين هي الحالقة).. والجملة الثالثة من الآية تأمر بأنيكون الإصلاح بين المسلمين في ظل تقـوى الله، فتحذر بذلك من اتباع الأهواء، أو تغليب المصالح والمكاسب الدنيوية الزائلة، أو التمسك بالخطأ وادعاء من يسعى بالخلاف بينالأخوة بأنه على الصواب، وأنه لا يريد إلا الإصلاح بينما هو يريد الإيقاع بين المؤمنين، وتفريق صفوفهم، وإثارة النزاعات فيما بينهم.. أما الجملة الرابعة فإن الله يوجهفيها الى الثمرة التي يفوز بها من اتبع أوامره السابقة، والثمرة هي رحمة ربنا (لعلكم ترحمون) والرحمة هي أعظم جائزة في الدنيا وفي الآخرة (كلكم هالك إلا من رحمته). أما دار التقريب بين المذاهب الإسلامية فقد تأسست سنة 1951 ، وكان سكرتيرها العام ثم رئيسها هو الإمام محمد القمي، وقد كتب عنه الشيخ محمد المدني أستاذ الشريعة الكبير أنهرجل عاش للتقريب، وإنه كان أول من دعا الى هذه الفكرة وهاجر وجاهد في سبيلها، واشترك معه، وعاونه عدد من كبار أئمة السُنّة والشيعة.
يقول الإمام القمي: إنه عندمابدأ نشاطه في الدعوة الى التقريب بين
السُنّة والشيعة وجد هجوما من الذين يريدون إثارة العداء والبغضاء بين المسلمين، ووجهوا إليه أغرب التهم.. قالبعضهم إن دار التقريب من صنع الاستعمار البريطاني (!) وقال بعضهم الآخر إنها من صنع الاتحاد السوفيتي لتكون منفذا لنشر الشيوعية (!) وقال آخرون إنها من صنع المخابراتالأمريكية (!) بل قال البعض: إن هذه الدعوة في عهد الملك فاروق كانت لنشر مذهب الطائفة الإسماعيلية وهدفها إعادة الحكم الفاطمي الى مصر(!).. ويقول: كانت (الموضة) السائدة فيذلك الوقت الإساءة في تفسير أي عمل باتهامه بأن الاستعمار الإنجليزي وراءه، ويقول ردا على هذه التهمة: إن الإنجليز يعملون على التفرقة بين أبناء الدين الواحد وأبناءالوطن الواحد، ولو أنهم فكروا حقيقة في العمل على التقريب بين المسلمين فكيف نرفض نحن هذه الدعوة؟
وخرجت فكرة التقريب من محيط العلماء الى محيط أوسع هو المجتمعالعام، وتحدثت عنها الإذاعات، والصحف، والمجلات..
يقول الإمام القمي: كان الإقدام على العمل للتقريب مجازفة خطيرة، وكانت أمامنا أسئلة كثيرة: هل يقدر المسلمونعلى أن يعالجوا مشاكلهم بأنفسهم؟.. وهل هناك مبادئ في صميم الإسلام تضمن للأمة الإسلامية وحدتها؟.. وهل يفهم المسلمون أن التقريب معناه نبذ كل خلاف أو أنهم لا يرون بأسا منوجود خلاف- لا يفسد الوحدة- قائم على دليل، ونابع من ذات الأصول التي يجمع عليها المسلمون والتي لا يحق لمسلم أن يختلف عليها؟.. وهل تتحكم المصلحة ويسيطر التعصب أو ينتصرالعقل وتسود الحكمة وسعة الأفق؟.. وأخيرا.. هل يريد المسلمون أن يعيشوا معا أو يقبلون أن يتركوا أمرهم لأعدائهم؟.. وهل يدرك المسلمون أن أعداءهم يعرفون كيف ينتهزونالفرصة، ويستفيدون بموقف المتزمتين والداعين الى جمود الفكر والفعل؟.
وكانت تجربة التقريب بين السُنّة والشيعة هي التجربة الأولى من نوعها في هذاالمجال، وكانت اختباراً لقدرة المسلمين على معالجة أمورهم، وحصار خلافاتهم بالوعي والرشد، ويكونون بذلك أهلا لحمل رسالة الإسلام.
ويقول: كنت أخشى أن تفشلالفكرة، وينتصر أنصار التفرقة وتوسيع الفجوة، فيلقي ذلك ظلا من التشكيك في مبادئ الإسلام ذاته، فنظلم الإسلام، ونعطي للمغرضين الفرصة للحكم على الإسلام بتصرفاتناوأخطائنا، وشتان بين الإسلام وواقع المسلمين.
ويقول: كان الوضع يثير الشجن.. الشيعي والسني كل منهما يبتعد عن الآخر، ويعيش على أوهام ولدتها الظنون أو الشائعاتأو السياسة ومصالح الحكام، أو روجت لها الدعاية المغرضة، وساعد على بقائها الجهل وقلة الرغبة في الاطلاع على الحقائق عند الفريقين، وكانت الكتب المشحونة بالطعنوالتجريح تتداول بين أبناء كل فريق، وتلقى القبول، خصوصا كتاب مثل كتاب الملل والنحل للشهرستاني الذي يتحدث عن طوائف وعقائد لا وجود لها على سطح الأرض، ويبدو كأنه يتكلمعن خلق آخرين في كواكب أخرى غير هذه الأرض! وإذا ألّف واحد من أبناء الفريقين كتابا، لا يعرض إلا آراء مذهبه، وإذا أشار الى مذاهب أخرى تكون إشارته طعنا واتهاما، وترديدالما سمعه أو قرأه أو ورثه عن آبائه يردده دون تحقق أو تمحيص، وبذلك ساهم مؤلفون في تضخيم الخلافات بين السُنّة والشيعة، حتى أصبحت كل دعوة لوحدة المسلمين تقابل بالشكوكوالاتهامات، وكل ما يدعو الى الفرقة يجد القبول.. ووصل الأمر الى التشكيك في أن مصحف الشيعة هل هو مصحف السُنّة؟ وشك كثير من أهل السُنّة في أن يكون مصحف الشيعة هو المصحفالذي في أيدي سائر المسلمين، ومع ذلك فلم يكلف أحدهم نفسه بالتقليب في نسخة من ملايين النسخ من المصحف التي يتداولها الشيعة ويتعبدون بها، ولو قرأوها لذهب الشك وانتهتالمشكلة، ولكنهم حكموا على
شيء موجود بالظنون وتناقل أقوال في كتاب مغرض مات صاحبه منذ قرون ولم يحقق أحد مدى الصدق والكذب فيه!
يقول الإمامالقمي: ظلت الفرقة بين المسلمين، لأنها كانت تناسب الحكام على مدى قرون، وكان الحكام يستغلونها لتثبيت سلطانهم، ثم جاءت السياسات الأجنبية، وجاء المستشرقون ليكملواالمهمة بدس السموم التي انخدع بها البسطاء، فكان بعضهم يحكم على البعض الآخر، بما كتبه هذا المستشرق أو ذاك.
هكذا وقع المسلمون في فخاخ المستشرقين من ناحية،والمؤرخين الدساسين ومروجي الأوهام من ناحية أخرى، وانخدع كثيرون بما في بعض الكتب القديمة من أكاذيب وسيطرت عليهم هيبة القديم والمألوف، فحرموا أنفسهم من واجب التفكيرفيما ردده هؤلاء وهؤلاء.. وفقدوا الحق في أن يكون لهم تفكير مستقل يقرأ ويرى ويحكم بما يلمسه في الواقع وليس بما قاله الآخرون.
يقول الإمام القمي: ليس لمسلم أنيبتكر اسما لله لم يرد عن الله، أو أن يبتدع عبادة لم يشرعها الله، أما البحث والتفكير، فقد فتح الله أمام المسلم أبوابهما ودعاه الى التفكير والنظر، وعدم الحكم علىالأمور بالظن أو بالسماع.. ودعانا ربنا الى نبذ التعصب الطائفي، وعلينا أن نتذكر أن الذين حكموا باسم الخلافة الإسلامية قرونا طويلة كانوا يرون أن آل علي رضي الله عنه همالمعارضون لهم، فكانوا يسيئون الى شيعة علي، ويستخدمون الأقلام والألسنة ضدهم، حتى أوجدوا حول الشيعة كثيرا من الخلط والتشويش.. وكان من الممكن لأي مصلح أن يمنع شرالتفرق، ولكن القوة التي كانت بيد الخلفاء، والقوة التي كانت لبعض الحكام الأجانب بعد ذلك.. حالت دون التقريب..
يقول الإمام القمي: نعم كانت هناك أحداث صورت علىغير حقيقتها
فزادت من الفرقة.. وعلى سبيل المثال حدث أن ذهب شاب لأداء فريضة الحج، وكان قد قطع مراحل من سفره سيرا على قدميه، وعندما وصل الى البيتالحرام غلبه القيء فتلقاه في ملابس الإحرام حرصا على طهارة البيت، ولكن حظه السيئ جعل أحد الطائفين يخيل إليهم أنه يحمل ما يحمل يريد به تلويث البيت فصاح في الناس،فهاجوا وتجمعوا عليه، وشهدوا عليه بما كان بريئا منه، وقتلوه وهو في رحاب الحرم الشريف، ومن دخله كان آمنا، لكن ذلك كان بسبب سوء ظن طائفة بطائفة، وإثارة العصبيات هيالتي تقطع الصلات بين أبناء الدين الواحد.. ومع أن هذه حادثة فردية، وعلى غير أساس.. فإنها أثرت في كثير من المفكرين تأثيرا كانت له عاقبة محمودة، فقد أراد الله للمسلمينأن يلمسوا بأنفسهم موضع الداء.. داء التفرق المذهبي، فكانت هذه الواقعة- بعد أن تكشفت الحقيقة- حافزا للتفكير والعمل، وكثيرا ما يأتي الشر بالخير، فقد تساءل العقلاء: كيفتعيش أمة متفرقة تعادي بعضها بعضا في عالم الأقوياء؟.. وكيف يمكن أن نقدم للعالم مبادئ الإسلام، بينما الإسلام في حرب بين أبنائه وأنصاره داخل بلادهم؟.. وكيف نقنع العالمبأن الإسلام دين التسامح إذا كان التسامح مفقودا بين المسلمين أنفسهم؟.
يقول الإمام القمي: من هنا جاءت فكرة التقريب.. فقمنا بدراسة المشاكل الطائفية، والكتبالمعتمدة عند الشيعة والسُنّة لنحدد الطوائف التي تتفق في الأصول الإسلامية، ودرسنا أيضا الخلافات الفقهية في الفروع.. وتوصلنا الى أن الهدف هو توحيد صفوف المسلمين علىالأصول والمبادئ الجوهرية في الإسلام على أن يبقى الشيعي شيعيا، والسني سنيا وأن يسود الاحترام بينهما، وأن تتكون جماعة التقريب ممثلة للمذاهب الأربعة المعروفة عند أهلالسُنّة، وممثلي مذهب الشيعة الإمامية، ومذهب الشيعة الزيدية، وأن يمثل كل مذهب من المذاهب الستة علماء من ذوي الرأي
والمكانة فيه، وأن تكون هذهالجماعة مستقلة بعيدة عن السياسة، ويكون عملها محصورا في البحث العلمي ومحاربة الأفكار الخرافية التي لا تعيش إلا في ظل الجهل، والغموض، وقررنا أن تعمل الجماعة أيضا علىمقاومة الطوائف والنحل التي تخالف مبادئ الإسلام والتي يحسبها الشيعي سُنّة، ويحسبها السُني شيعة، بينما هي في حقيقتها مخالفة للإسلام.
ويقول الإمام القمي: هكذاتكونت جماعة التقريب، وقمت بالاتصال بالمراكز الدينية في كل بلد إسلامي بهدوء وبعيدا عن الدعاية، ولكن المتعصبين والمتزمتين وذوي النزعات والأغراض رأوا في نشاط هذهالجماعة بدعة لا يصح السكوت عليها، فبدأوا الهجوم على الفكرة وعلى الجماعة، وكان الهجوم ذاته دليلا على ضرورة فكرة التقريب كي يتخلص المجتمع الإسلامي من العناصر ذاتالتفكير الجامد الذي يصرف الأذهان عما ينفع الناس، وأذكر أن أحد هؤلاء المتعصبين ملأ كتابا بالطعن على الشيعة والهجوم على جماعة التقريب واعتبر عملها فعلة نكراء، وفينفس الوقت أعيد طبع كتاب من الطرف الآخر من الكتب المؤلفة في عهد الصفوية مليء بالهجوم على أهل السُنّة.. ولم يقف الأمر عند هذين الكتابين.. بل جاء من مثلهما الكثير.. ورأىالبعض أن ما نقوم به (محاولة مستحيلة)، ورأى آخرون أن هذه الدعوة وراؤها هدف سياسي.. ولم يؤثر ذلك في عزيمة أهل العزائم، فاستمروا في الدعوة وأصدروا مجلة رسالة الإسلام،وكان كل عدد منها يزيل الستار عن جزء من المحجوب، وتبين من أبحاث الفقهاء والعلماء الثقاة من السُنّة والشيعة أن المشاكل الطائفية بينهما، إنما كانت نتيجة تحركهم فيظلام الجهل، حيث لم يكن بعضهم يرى الآخر إلا أشباحا مخيفة.. وظهر أن المسلمين لا يختلفون في الكتاب، ولا في الصلاة، ولا في الصوم، ولا في الحج، ولا يختلفون قيد أنملة فيأصول العقائد وأصول الدين والتوحيد والنبوة، وليس يضيرهم أن يكون لبعضهم مذهب
يقول عن الشيعة بأن عليا رضي الله عنه وأولاده أحق بالولاية من غيرهم..وكان من نجاح جماعة التقريب أن تعرّف أهل السُنّة على أبحاث واجتهادات الشيعة في الفقه، وتعرّف الشيعة على فقه السُنّة، واكتشفوا إجماع الشيعة والسُنّة على حب أهل البيتوإكرامهم، وأن ما صدر عن بعض الظالمين لا يمثل رأي أهل السُنّة في أهل البيت، وعرف أهل السُنّة أن الشيعة يعتبرون الغلاة نجسا ويحكمون عليهم وعلى أهل الحلول بالخروج علىأصول الإسلام.
وإذن فشتان بين الشيعة على حقيقتها، والشيعة التي تصورها البعض متأثرين بالدعايات والأكاذيب.
بعد ذلك قامت وزارة الأوقاف بطبع بعض كتبالفقه في المذهب الشيعي، وجاء قرار الأزهر- في عهد الشيخ شلتوت- بتدريس مذهبي الشيعة الإمامية والزيدية في الأزهر، فقضى على آمال المتربصين والساعين الى إشعال الخلافاتبين المسلمين.
وفي أول اجتماع لجماعة التقريب التقى علماء من السُنّة والشيعة على مائدة واحدة، وحددوا هدفا واحدا لدعوتهم: علاج داء التفرق، وختموا لقاءهمبترديد الآية الكريمة (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها..) (آل عمران:103)..
وكان من أعمدة دار التقريب بين السُنّة والشيعة الإمام الراحل الشيخ محمود شلتوت الفقيه الأكبر شيخ الأزهر الأسبق، وقد كتب بنفسه قصة هذه الدعوة فقال: إنه عاصر خلالهاأخوة أحبهم وأحبوه في الله، وكانت بينه وبينهم مناظرات بحثا عن الحقيقة، لأنه كان يؤمن بأن دعوة التقريب هي دعوة التوحيد والوحدة، وأن أسلوبها هو الأسلوب الذي أمر بهالله (ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين)النحل- 125..
ويقول: إن الذييتقي الله هو الذي لا تأخذه عصبية، ولا تسيطر عليه مذهبية.. وفكرة الحرية المذهبية فكرة صحيحة مستقيمة وهي نهج الإسلام، وكان عليها الأئمة الاعلام في تاريخ الفقه وكانوايترفعون عن العصبية الضيقة، فلا يزعم أحدهم أنه أتى بالحق، وأن على سائر الناس أن يتبعوه، ولكن كان العالم منهم يقول: هذا مذهبي وما وصل إليه جهدي وعلمي، ولست أبيح لأحدتقليدي أو اتبـاعي دون أن ينظر ويعلم من أين قلت ما قلت، فإن استقام الدليل في نظره وصح الحديث فهو مذهبي.
يتحدث الشيخ شلتوت عن الإمام القمي فيقول: إن أخي الإمامالمصلح محمد تقي القمي، ذلك العالم المجاهد، لا يتحدث عن نفسه، ولا عما لاقاه في سبيل دعوته، وهو أول من دعا الى هذه الدعوة، وهاجر من أجلها الى بلد الأزهر الشريف، فعاشمعها والى جوارها، وظل يتعهدها بما آتاه الله من عبقرية وإخلاص وعلم غزير، وشخصية قوية، وصبر، وثبات، حتى رآها شجرة يستظل بظلها أئمة وعلماء ومفكرون في هذا البلد وفيغيره.
وعن الدعوة يقول الشيخ شلتوت: لقد آمنت بفكرة التقريب كمنهج سليم، وأسهمت منذ اليوم الأول في هذه الجماعة وفي نشاط الدار، وكان من ذلك فصول في تفسير القرآنالكريم ظلت تنشرها مجلة (رسالة الإسلام) أربعة عشر عاما حتى اكتملت كتابا أعتقد أنه تضمن أعز أفكاري، وأخلد آثاري، وأعظم ما أرجو به ثواب ربي، وقد تهيأ لي بهذه النشاطالعلمي- في دار التقريب- أن أعرف كثيرا من الحقائق التي كانت تحول بين المسلمين واجتماع كلمتهم، وائتلاف قلوبهم على أخوة الإسلام، وأن أتعرف على كثير من ذوي الفكر والعلمفي العالم الإسلامي.
وعندما أصبح الشيخ شلتوت شيخا للأزهر أصدر فتوى شهيرة بجواز التعبد على المذاهب الإسلامية الثابتة الأصول، المعروفة المصادر، ومنها مذهبالشيعة الإمامية (الإثنا عشرية). وكان لهذه الفتوى صدى كبيراً
في مختلف البلاد الإسلامية، وظلت تتوارد عليه الأسئلة والمجادلات، وظل الشيخ شلتوت سنةبعد سنة يشرح الأساس العلمي والفقهي لفتواه، ويرد على شبهات المعترضين، في مقالات وأحاديث إذاعية وبيانات يصدرها ويدعو فيها الى وحدة المسلمين والتماسك والالتفاف حولأصول الإسلام، ونسيان الضغائن والأحقاد التي ظهرت في الماضي ولم تعد أسبابها قائمة.. وأخيرا انتصر الشيخ شلتوت على أعداء وحدة الصفوف الإسلامية فقال: (الحمد لله أن أصبحتدعوة التقريب بين السُنّة والشيعة تجري بين المسلمين مجرى القضايا المسلّمة، بعد أن كان المرجفون في عهود الضعف الفكري والخلاف الطائفي والنزاع السياسى، يثيرون فيموضوعها الشكوك والأوهام بالباطل).
بعد ذلك قرر الأزهر الأخذ بمبدأ التقريب بين المذاهب المختلفة، وقرر دراسة فقه المذاهب الإسلامية من السُنّة والشيعة دراسةتعتمد على الدليل والبرهان، وتخلو من التعصب لمذهب أو لواحد من الفقهاء على غيره، كما قرر الأزهر أن يضم مجمع البحوث الإسلامية أعضاء ممثلين لمختلف المذاهب الإسلاميةبما فيها مذاهب الشيعة المعتدلة.. ويعلق الشيخ شلتوت على ذلك بقوله: (وبهذا تكون الفكرة التي آمنّا بها، وعملنا جاهدين في سبيلها، قــد تركزت وأصبحت رســـالة دار التقريبمحل التقدير والتنفيذ).
ويتحدث الشيخ شلتوت عن الاجتماعات في دار التقريب حيث يجلس المصري مع الإيراني أو اللبناني أو العراقي أو الباكستاني أو غير هؤلاء منمختلف الشعوب الإسلامية، وحيث يجلس السني الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي بجانب الشيعي الإمامي والزيدي حول مائدة واحدة تدوي فيها أصوات العلم، ويسودها الأدب،وفيها تصوّف، وفقه، تجمع بينهم روح الأخوة.
كما يتحدث الشيخ شلتوت عن بعض المدافعين عن فكرة التقريب بين المذاهب فيقول: (أود لو أستطيع أن أبرز صورة الرجل السمحالذكي القلب،
العف اللسان، رجل العلم والخلق المغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق، أو صورة الرجل المؤمن القوي الضليع في مختلف علومالإسلام، المحيط بمذاهب الفقه أصولا وفروعا، الذي كان يمثل الطود الشامخ في ثباته، والذي أفاد منه التقريب في فترة ترسيخ مبادئه أكبر الفائدة، المغفور له أستاذناالأكبر الشيخ عبد المجيد سليم رضي الله عنه وأرضاه، أو صورة الرجل الذي حنكته التجارب، ومحافل العلم والرأى، المغفور له الأستاذ محمد علي علوبة (باشا) جزاه الله عن جهادهوسعيه خير الجزاء.. وكذلك رجال (من الشيعة) وهبوا أنفسهم هذه الدعوة الإسلامية، وآمنوا بالتقريب سبيلا الى دعم قوة المسلمين وفي مقدمتهم الإمام الأكبر الحاج أقا حسينالبروجردي أحسن الله في الجنة مثواه، والمغفور لهما الإمامان الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، والسيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي رضي الله عنهما.
ثم يشيرالشيخ شلتوت الى جانب آخر من الحرب والمعارضة لدعوة التقريب بين السُنّة والشيعة، ويقول إن ذلك شأن كل دعوة إصلاحية حين يتصدى لها الذين لم يألفوها، ولهذا لقيت دعوةالتقريب نصيبا كبيرا من المعارضة لها والهجوم عليها بقدر أهميتها وعظم هدفها، فكان الجو السائد عند بدء الدعوة مليئا بالطعون والتهم، مشحونا بالافتراءات وسوء الظن منكل فريق بالآخر، وهوجمت الدعوة لا من فريق واحد بل من المتعصبين أو المتزمتين من كلا الفريقين: السني الذي يرى أن التقريب يريد أن يجعل أهل السُنّة شيعة، والشيعي الذي يرىأننا نريد أن نجعل منهم سنيين، هؤلاء وغيرهم أساءوا فهم رسالة التقريب فقالوا: إنها تريد إلغاء المذاهب، أو إدماج بعضها في بعض.. وحارب فكرة التقريب ضيقو الأفق، كماحاربها صنف آخر من ذوي الأغراض الخاصة السيئة، ولا تخلو أية أمة من هذا الصنف من الناس.. حاربها الذين يجدون في التفرقة ضمانا لبقائهم وعيشهم، وحاربها
ذوو النفوس المريضة وأصحاب الأهواء والنزعات الخاصة، هؤلاء وأولئك ممن يؤجرون أقلامهم لسياسات تدعو الى التفرقة بأساليب مباشرة أو غير مباشرة وتحارب كل حركة إصلاحية،وتقف ضد كل عمل يجمع شمل المسلمين ويوحد كلمتهم.
ويقول الشيخ شلتوت: إن دار التقريب ظلت تصدر بانتظام مجلة باسم (رسالة الإسلام) تنشر أبحاثا لأئمة السُنّة والشيعةحول أوجه الاتفاق في الأصول والخلاف في الفروع.
وأخيرا يقول الشيخ شلتوت: أصبحت فكرة التقريب نقطة تحول في تاريخ الفكر الإصلاحي الإسلامي القديم والحديث، ويحقللمسلمين أن يفخروا بأنهم كانوا أسبق من غيرهم تفكيرا وعملا في تقريب مذاهبهم وجمع كلمتهم، وقد نجحوا في ذلك بفضل إخلاص القائمين على أمر هذه الدعوة، وسلامة تفكيرالمسلمين (قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) (يوسف-108 ) و(كنتم خير أمة أخرجت للناس. تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله).. (آل عمران-110). نستخلص من ذلك أن السُنّة والشيعة يجمعهما الإسلام، وما يجمعه الله لا يفرقه إنسان.. والخلافات بين المذاهب ترجع الى طبيعة التفكير الإنساني وليس مرجعها الدينالإسلامي ذاته.. ولذلك فهي خلافات في التفسير وليست خلافات حول النص المقدس في القرآن، أو حول أركان الإسلام، أو حول الإيمان بالله وبالرسول..
ولكن المشكلة أنهناك متشددين من أهل السُنّة، وهناك غلاة بين الشيعة، هم السبب في اشتداد الخلاف، وتبادل الاتهامات بالحق وبالباطل، وقد عمل كل جانب من المتشددين والمتزمتين على تشويهالجانب الآخر وإلصاق التهم به واختلاق الأكاذيب والأساطير حوله.
هناك اختلافات.. نعم.
ولكن هل في الجانبين من ينكر من هو معلوم من الدينبالضرورة؟.. لا.
إذن فهل يرضى الله أن يكون المسلمون متفرقين؟
هذا هو السؤال.
وجيش الاحتلال الأمريكي في العراق يتمني أن تكون الإجابة (نعم) لكييستقر له المقام في العراق لسنوات وسنوات وتمضي إسرائيل في مخططها، وينتقل الجيش الأمريكي الى المحطة التالية بعد العراق وهو آمن.
وجيوش الغزو جاهزة ومستعدة..ورئيس الحرب جاهز ومصمم ومزهو بقوة الجيوش والسلاح.. والثغرة في صفوف المسلمين تسهّل له المهمة.
ورحم الله الإمام العظيم الشيخ شلتوت والأئمة العظـام الذينأفسدوا المؤامرة في وقتهم.. أما نحن فإن واجبنا الآن أن نفسد المؤامرة في هذا الوقت.
والموضوع يحتاج الى بحث وتفكير لأنه يتعلق بالمستقبل.. مستقبل الأوطـانالإسلامية، ومستقبل الإسلام ذاته!
لماذا ولمصلحة من نهدم جسور التواصل بين السنة والشيعة؟
معظم أهل السنة لا يعرفون شيئا عن مذاهب وأفكار الشيعة،وبعضهم عرف قليلا عنها من أقوال أو عبارات أو أحكام إدانة وهجوم من هنا وهناك، وبعضهم أخذ معلوماته من كتب قديمة كان لأصحابها عداء شديد للشيعة، وكان هذا العداء في الأصللأسباب سياسية حول الخلافة والحكم وليس خلافا حول أصول الدين.. والنتيجة أن فكرة أهل السُنّة عن الشيعة مختلطـة بكثير من الأكاذيب والشائعات.. وهذا هو السبب في أن معظمأهل السُنّة ينظرون الى الشيعة جميعا على أنهم فرقة واحدة، مع أنهم فرق كثيرة.. منها فرق معتدلة لا تختلف كثيرا عن السُنّة، وفرق أخرى لها أفكار غريبة وبعيدة هي التييسمونها (غلاة الشيعة) ولابد أن نفرق بين
هؤلاء وهؤلاء، لأن الخلط بينهما واعتبارها شيئا واحدا هو الذي أدى الى استمرار الجفوة. بدون مبرر.
والمهم أن نفهم منزلة الإمام ومكانته عند الشيعة لنعرف كيف نتعامل مع الأئمة المعاصرين.
يقول محمد الحسين آل كاشف الغطاء وهو من كبار علماء الشيعةالذين شاركوا في تأسيس جماعة التقريب بين المذاهب: إنه من المستحيل إزالة الخلاف بين المذاهب الإسلامية وجعلها مذهبا واحدا لأن الخلاف واختلاف الرأي من طبيعة البشر،وخالق البشر يقول: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم). فلا يجدي التفكير في إزالة أصل الخلاف بين المذاهب، وأقصى ما يمكن الوصول إليه هو إزالة الأسباب التيتجعل هذا الخلاف سببا للعداء. وأن يكون الإخاء والتقارب بديلا عن التباعد والتضارب، لأن المسلمين مهما بلغ الخلاف بينهم فإنهم مجمعون على الشهادتين، ومن شهد الشهادتينفقد اتخذ الإسلام دينا وحُرّم دمه وماله وعرضه.. والمسلم أخو المسلم.. ومن صلى الى قبلتنا ولم يتدين بغير ديننا فإن له مالنا وعليه وما علينا.
ويقول: إن الفرقالجوهري بين السُنّة والشيعة هو قضية الإمامة، فالشيعة ترى أن الإمامة أصل من أصول الدين، بعد التوحيد والنبوة، وأنها بالنص من الله ورسوله، وليس للأمة رأي فيها ولااختيار، كما أن الأمة ليس لها خيار في النبوة، وإخواننا من أهل السُنّة متفقون على أن الإمامة ليست من أصول الدين، ويرون أن الإمامة يجب أن تكون بإجماع الأمة واختيارهاوأنها قضية سياسية ليست من الدين، لا من أصوله، ولا من فروعه، ولكن مع هذا التباعد هل يرى الشيعة أن من لا يؤمن بالإمامة ليس مسلما؟ كلا ومعاذ الله. وهل تجد السُنّة تقولإن من يؤمن بالإمامة غير مسلم؟ كلا
ومعاذ الله. هل يقول السُنّة: إن القائل بالإمامة خارج عن الإسلام؟ لا.. وكلا. إذن فإن القول بالإمامة أو إنكارها لاعلاقة له بأحكام الإسلام الجامعة من حرمة دم المسلم ووجوب أخوته.
وبصراحة يقول الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء. لعل قائلاً يقول: إن سبب العداء بين الطائفتين أنالشيعة ترى جواز المس من كرامة الخلفاء أو الطعن فيهم، وقد يتجاوز البعض الى السب، مما يسيء الى الفريق الآخر ويهيج مشاعرهم فتشتد الخصومة بينهم. ولو تبصرنا قليلا ورجعناالى حكم الشرع والعقل لم نجد ذلك موجبا للعداء:
أولا: لأن هذا ليس رأي جميع الشيعة، وإنما هو رأي بعضهم، وربما لا يوافق عليه الأكثر، فلا يصح معاداة الشيعة جميعالإساءة بعض المتطرفين منهم.
ثانيا: إن هذا لا يكون موجبا للكفر والخروج على الإسلام، وأقصى ما هناك أن يكون معصية، وما أكثر العصاة من الطائفتين، ومعصية المسلملا تستوجب قطع رابطة الأخوة الإسلامية معه قطعا.
ثالثا: قد لا يدخل ذلك في المعصية، ولا يوجب الحكم بالفسق إذا كان ناشئا عن اجتهاد واعتقاد، وإن كان خطأ، فإن منالمسلّم به عند الجميع في باب الاجتهاد أن من اجتهد وأخطأ فله أجر وللمصيب أجران.
وهكذا مهما تعمقنا في البحث واعتمدنا على الأدلة العقلية والشرعية وتجردنا منالهوس والعصبيات فلن نجد أي سبب يبرر العداء بين طوائف المسلمين مهما اتسعت الخلافات بينهم في كثير من المسائل مادامت هذه المسائل الخلافية لا تنكر أصلا من أصول الإسلامأو ركنا من أركانه.
وكيف نقبل استمرار الخلافات بعد كل ما سببته من البلاء، مثل ضياع الأندلس والقوقاز وبخارى ونحوها؟ ولو أن المسلمين كانوا في تلك الأيام يداواحدة كما أمرهم الله لما انتزع منهم شبر واحد، ولننظر الآن الى ما يحدث
في فلسطين وهي الفردوس الثاني المفقود.
وفي هذا السياق كتب الفقيهالأكبر الشيخ حسنين مخلوف وهو مفتي الديار المصرية يقول: إنني من المؤمنين بفكرة التقريب بين المذاهب لأن الإسلام دين الوحدة كما هو دين التوحيد، يشرع أسباب التجمع،وينهي عن أسباب التفرق، وينهي عن الجدال فيما لا يجدي. (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات).. (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهمفي شيء) (الأنعام :159).. و(وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، ولولا كلمة سبقت من ربك الى أجل مسمّى لقضي بينهم، وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منهمريب، فلذلك فأدع، واستقم كما أمرت، ولا تتبع أهواءهم، وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب، وأمرت لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا حجة بينناوبينكم، الله يجمع بيننا وإليه المصير) (الشورى:14- 15.)
ويقول الشيخ مخلوف: إن المسلمين منذ عرفوا الاختلاف والطائفية، وصاروا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون، وهنتقواهم، وتمكن منهم أعداؤهم، وجعلوا ينحدرون من سيّء الى أسوأ.
وكتب الشيخ عبد المتعال الصعيدي وهو من كبار أساتذة الأزهر يقول: إن الخليفة المأمون رأىأن يعقد مجالس مناظرة بين الفرق الدينية، فأمر قاضي القضاة- وكان من أهل السُنّة- أن يجمع الفقهاء وأهل العلم في بغداد، فاختار أربعين رجلا من الأعلام، ولكنه- مع ذلك لميستطع أن يجمع المسلمين على مذهب واحد، فلجأ الى إكراه المخالفين على ترك مذهبهم فلم يحقق ذلك سوى التعصب والعناد، وحتى عندما لجأ المأمون الى سجن المخالفين لم يحقق ذلكشيئا ولكنه أدى الى زيادة الخلاف، وقد جعل
المأمون أهل السُنّة يقولون بالإكراه: إن القرآن مخلوق، فشغل الدولة بهذه القضية (هل القرآن قديم أومخلوق؟) وانصرف الناس عن الأمور النافعة وأدى ذلك الى ضياع سنوات في الخلافات والصراعات، والدرس المستفاد من ذلك أن يترك الناس أحراراً فيما يعتقدون، حتى الكافرالمعاند، فلا يصح أن يحمل بالإكراه على ترك الكفر تحت تهديد بالعقاب، لأن الله تعالى قال في الآية من سورة الكهف: (وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر،إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها، وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه، بئس الشراب وساءت مرتفقا) فلم يذكر عقابا للكافر في الدنيا، ولكن ذكر عقابه فيالآخرة، لأن عقاب الدنيا لا يؤدي الى الإيمان، ولكن يؤدي الى النفاق والتظاهر بالإيمان.. وهذا ما تؤيده الآية الكريمة في سورة البقرة : (لا إكراه في الدين..).
وكان من نتيجة تفهم علماء السُنّة لمذاهب الشيعة أن خرجوا عن دائرة مذاهب السُنّة الأربعة الى مذهب من مذاهب الشيعة، وذلك في قانوني الطلاق والوصية وغيرهما فقد أخذوابرأي ابن تيمية، وابن القيم، والشيعة الإمامية، وتم ذلك بهدوء ورضا، وفي الأخذ بمذاهب السُنّة والشيعة المعتدلة توسعة للمسلمين.
هل كانت دعوة التقريببين المذاهب دعوة الى تنازل أصحاب مذهب معين عن مذهبهم؟ وبمعني آخر، هل ترضى الشيعة أن تتنازل للسُنّة عن أفكارها، أو ترضى السُنّة باعتناق أفكار الشيعة بالكامل؟.
كانت هذه هي نقطة الهجوم الرئيسية على فكرة التقريب بين المذاهب، بالرغم من أنها دعوة الى التقريب وليس التوحيد، دعوة الى التفاهم والتعايش وليست دعوة الى الإلغاء أوالتنازل، وكان الإمام محمد القمي يجيب كلما واجهته هذه الاعتراضات بالقول بأن الفكرة أن يتحد أهل
الإسلام على أصول الإسلام التي لا يكون المسلممسلما إلا بها، أما نقاط الخلاف في الفروع فعليهم أن ينظروا فيها بالتسامح، ويعذر بعضهم بعضا فيها، فإذا استطاعوا أن يصلوا بالحجة والدليل الى اتفاق في شيء منها فهذاخير، وإذا بقي كل طرف على موقفه فليحتفظ بما يراه، على أساس أن الخلاف في أمر لا يدخل ضمن أصول الدين لا ينقص الإيمان، ولا يخرج المختلفين عن دائرة الإسلام. وليس في نقاطالخلاف بين السُنّة والشيعة ما يستحق الخصام، ولم يحدث أن قال أحد من علماء السُنّة بمذاهبها، والشيعة الإمامية والزيدية، بكفر طائفة منها، أو الخروج عن الإسلام، لأنالعلماء في مذاهب السُنّة والشيعة أجمعوا على أنه لا خلاف في المسائل الجوهرية، ومن يعرف أصلا من أصول الإسلام أنكرته إحدى هذه الطوائف، أو أنها زادت من أصول الإسلام ماليس منها على سبيل اليقين، فليدلنا عليه ويقدم برهانه على ذلك.
وكان أعضاء جماعة التقريب بين المذاهب متفقين على أن المسلمين كلهم شيعة لأنهم جميعا يحبون أهل بيتالرسول صلي الله عليه وسلم، وكلهم أهل سُنّة لأنهم جميعا ملتزمون بالأخذ بسُنّة الرسول المؤكدة، فنحن جميعا سُنّيون، شيعيون، قرآنيون، محمديون.
وكانوا يرون أنالخلافات بين أهل السُنّة موجودة بين مذهب الشافعية ومذهب الحنفية في بعض المسائل، مثل نواقض الوضوء مثلا، فهل نعتبر ذلك خلافا يوجب ابتعاد أحدهما عن الآخر؟.
وليس من أهداف التقريب بين المذاهب إدماج المذاهب الفقهية، لأن الخلاف أمر طبيعي، ما دام محدودا في الدائرة التي أباح الله الاجتهاد فيها، فلا ضرر منه في هذه الحالات،بل فيه خير وتيسير للمسلمين.. ومع ذلك فإن أصحاب المذاهب الفقهية أنفسهم أباحوا الخروج على مذاهبهم، وأباحوا الأخذ ببعض ما فيها والأخذ ببعض ما في غيرها في نفس الوقت،وكان الإمام الشافعي يقول: هذا هو الرأي الذي
رأيته، فإذا صح الحديث بما يخالف رأيي، فأضربوا بقولي عرض الحائط، فالمرجع هو قول الله والحديث المؤكدعن الرسول (ص) ، والقاعدة التي أوجبها الله علينا في كتابه: (فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول إن كنتــم تـؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسـن تـأويلا)(النساء: 59). وهكذا فإن كل مجتهد لابد أن يرى أن مذهبه الفقهي صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيره خطأ يحتمل الصواب.
ولماذا لا يدرس أهل السُنّة مذهب الشيعة الإماميةوالزيدية، ويدرس الشيعة مذاهب السُنّة الأربعة..؟ لماذا لا يعرف المسلمون بعضهم بعضا؟. ولقد كان الأزهر الشريف قلعة التسامح الفكري فقرر دراسة مقارنة للمذاهب منذ عهدالإمام الأكبر الشيخ المراغي، وتبعه الإمام محمود شلتوت، كما أن الأزهر حريص على دراسة مذاهب الفلاسفة أيضا، والمعتزلة، والجبرية وغيرهم، ليكون رجل الدين المسلم علىعلم بكل الأفكار والمواقف في المذاهب الإسلامية القديمة والحديثة..
ولا شك أن الخطوة الكبرى كانت عندما أخذ قانون الأحوال الشخصية في مصر في السبعينات بأحكام منفقه الشيعة، وكان الذين أعدوا هذا القانون من صفوة رجال الأزهر وكبار علمائه.
ومع ذلك فلا أحد يدعو، أو يفكر، في الاندماج أو التوحيد.. الفكر والدعوة الى التفهم..والتفاهم.. والتجمع في خيمة واحدة وتحت راية واحدة.. والتسامح فيما عليه خلاف.
عندما ذهب الخليفة المنصور الى الحج التقى بالإمام مالك ودرس مذهبه، وقالله: قد عزمت أن آمر بكتبك هذه فتنسخ، ثم أبعث بها في كل الأمصار، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوه الى غيره، فقال له الإمام مالك: يا أميــر المؤمنــين لا تفعل هذا..فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل،
وسمعوا أحاديث وروايات، وأخذ كل قوم بما وصل إليهم، وأتوا به من اختلاف الناس، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهملأنفسهم. هذا ما رواه التاريخ في ذلك الشأن الإسلامي الخطير كما ورد في كتاب (حجة الله البالغة للدهلوي- ص 45- الجزء الأول).
فالخليفة شهد اختلاف العلماء في عصره،وأراد أن يوحد المسلمين على مذهب واحد لينتهي الجدل والخلاف بين العلماء، وأراد أن يكون مذهب الإمام مالك هو المذهب الأوحد، لكن الإمام مالك نفسه هو الذي رفض فكرة إلغاءالمذاهب أو توحيدها، لأنه يرى أن الخلاف بين المذاهب ليس صادرا عن الهوى أو التعصب، ولكنه صادر عن اختلاف في الفهم والتفسير وهذا طبيعي بالنسبة للعقل البشري، وإن كانالجميع متفقون على الأصول إلا أن اعتماد الناس على روايات مختلفة عن أقوال وأفعال الرسول باختلاف الرواة جعلهم يؤسسون مذاهبهم عليها، وربما تكون الرواية قد بلغت أهل بلدولم تبلغ غيرهم، خصوصا أن الأحاديث النبوية لم تكن قد تم تدوينها وتمحيصها وكان الاعتماد على الذاكرة والحفظ.
وفي هذا الاختلاف بين المذاهب حكمة، لأن المسلم حرفي أن يأخذ من كل مذهب ما يرتاح إليه قلبه ويقتنع به عقله، وكلها معبّرة عن جوهر الإسلام.. ومن مزايا الفقه الإسلامي أنه ترك باب الاجتهاد مفتوحا، لأن القضايا الجديدةالتي تطرح للبحث كل وقت لن تنتهي، ولن تتوقف عند حد، وكلما جاء جيل جاءت معه تصرفات وموضوعات وقضايا ومشكلات تحتاج الى الاجتهاد في الوصول الى الرأي الذي يتفق مع أصولالدين.
وليس الإمام مالك وحده هو الذي رفض توحيد أو إدماج المذاهب، ولكن الإمام أبو حنيفة أيضا رفض التعصب لمذهب وكان يقول: لا ينبغي لمن لم يعرف دليلي أن يفتيبكلامي، وكان يقول بعد كل فتوى: هذا رأيي، فمن جاء بأحسن منه فهو أولى بالصواب.
كذلك كان الإمام الشافعي يتحفظ في التمسك بمذهبه، ويقول: إذا صح الحديث(الذي يستند إليه في فتواه)، فهو مذهبي ويقصد أنه إذا كان هناك حديث صحيح عن الرسول يخالف فتواه. فإن هذا الحديث هو الذي يجب الأخذ به، وقال الشافعي لتلميذه إبراهيمالمزني: يا إبراهيم لا تقلدني في كل ما أقول، وانظر في ذلك لنفسك.
وكان الإمام أحمد بن حنبل يقول: ليس لأحد مع الله ورسوله كلام.
وكان يقول لكل تلميذ منتلاميذه: لا تقلدني ولا تقلد الإمام مالك ولا الأوزاعي ولا النخعي، ولا غيرهم، وخذ الأحكام من حيث أخذوا.. من الكتاب والسُنّة.
وكان الإمام أبو حنيفة وأصحابه،والإمام الشافعي وأصحابه، يصلون خلف من يختلفون معهم في المذهب، ويصلون خلف أئمة المدينة وكان مذهبهم ألا يقرأ الفاتحة إلا الإمام ولا يقرأها الآخرون، على أساس أن قراءةالإمام هي الواجبة وليس على الآخرين قراءة..
ولم يقل أحد إن باب الاجتهاد قد أغلق إلا في عصر انحطـاط المسلمين.
أما الشيعة الإمامية والزيدية فيرون بقاءباب الاجتهاد مفتوحا الى يوم الدين. والعقلاء من أهل السُنّة يرون ذلك أيضا..
تعقيب:
ان المجلة اذ تعتز بقيامها بنشر مقاطع قليلة مختارة من مقال مفصلللاستاذ الموقّر رجب البنا رئيس تحرير مجلة اكتوبر المصرية نشرته في اعدادها التي تبدأ بالرقم 1442 تود أن تطرح النقاط التالية:
المهم ان هذه المقالات كتبت بروحموضوعية واتجاه تقريبي سليم، نود ان يسود كل كتاباتنا عن الآخرين، فتسهم في توفير الجو الصحيح للحوار، وقد نختلف في بعض الجزئيات مع الاستاذ الكاتب الكبير وسيأتي
التنبيه الاجمالي على ذلك، ولكن ذلك لا يقلل من اهمية هذه المقالات.
ويدخل الخلاف في اطار الاجتهادات الفقهية او التاريخية او العقائدية وغيرهاونحن فيها متبعون لقاعدة (نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه). فنشكر الاستاذ الكبير على هذه الروح الطيبة.
وما نود ان ننبه عليه يمكنتلخيصه في نقاط هي:
1ـ ان ماذكر عن غلاة الشيعة امرٌ صحيح، والشيعة الاثنا عشرية انفسهم يتبرأون من الغلاة ، بل ان الأئمة من اهل البيت (عليهم السلام) شنوا حملةشعواء عليهم وطردوهم وحذروا اتباعهم منهم، فلا داعي لخلط ذكرهم بالبحوث الشيعية ولا نرى ضرورة عرض غسيلهم القذر من جديد.
2- وقد نبه الأئمة انفسهم أنهم عبادمطيعون لله تعالى، وان حبهم يتجلى في التقوى وعبادة الله تعالى، فلا معنى لتسريب امثال عقيدة الفداء والشعب الممتاز الى اتباعهم ، بل ان العاصي من اتباعهم قد يستحقالعقاب مرتين لانهم يتسببون بذلك في التشكيك بتعاليم اهل البيت الاصيلة.
3- نحن مع الاستاذ البنا في ضرورة تنقية التراث من افرازات عصور الظلام والاحن والكذبوالوضع والتزوير وربما تم ذلك بقصد القربة!!
4- ثبت بالدليل القاطع ان شخصية عبدالله بن سبأ اما هي شخصية اسطورية تؤثر بشكل خرا في على مجرى الاحداث دون ان تتركاثراً حسياً او هو وجود تافه مرفوض من قبل الجميع فلا داعي لترداد اسمه وتضييع الوقت فيه.
5- من الخطأ ان يقال: ان الشيعة يرفضون روايات اهل السنة ورواتهم، في حينان كتب الشيعة والسنة ملأى بروايات ورواة مشتركين .
وقد بدأ المجمع بطبع سلسلة روايات في هذا الشأن.
نعم قد يختلفون في توثيق هذا الراوي او ذاك، وتضعيفبعض الاسناد او العمل ببعض الروايات تبعاً لاجتهادهم في الأمر ولا ضير في ذلك.
6- نحن مع الاستاذ في التأكيد على ان اسباب الخلاف والتخوف والتشكيك قدفقدت موضوعيتها (ع 1447).
7- يجب اعادة النظر في اساليب تحامل بعض الكتاب على هذا المذهب او ذاك بدواعي كثيرة منها: الجهل او التعصب او السياسة ونشير هنا الى اساليباحسان الهي ظهير واحمد امين وعبدالمنعم النمر والتيجاني وكثير من المستشرقين من امثال جولد تسيهر وغير هؤلاء فإنها لا تثمر الا العداء والضياع.
8- والحقيقة انالتلخيصات التي تأتي في ختام كل حلقة تحفل بكثير من الحقائق.
9- ونحن نعتقد ان الكثير من موارد الخلاف.
أـ اما انه عاد تاريخياً قد لا يجد له موضوعاً اليوم.
ب - او أنه لم يفهم على حقيقته وعندما يوضح ربما يعود خلافاً لفظياً لا غير.
ج - او انه لا يترك أثراً عملياً وان كان له مضمون علمي.
10- ونحن نعتقد اناساليب الحوار القرآنية هي السبيل الاقوم للوصول الى الحقيقة، والتفكير بالاهداف العليا ومواجهة التحديات العاصفة التي تعمل على نفي ثقافتنا بل وجودنا الاسلامي.