توحيد العبادة والاستعانة في سورة الفاتحة
أ. الشيخ محمد مهدي الآصفي عضو المجلس الاعلىللمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
النتيجة الحاصلة من فقه العبودية وتعميق حالة العبودية في النفس هي : توحيد الله تعالى في العبادةوالاستعانة ، وهو قولـه تعالى (إياك نعبد واياك نستعين) فلا يخضع الانسان، عندئذٍ، لغير الله، ولا يطيع غير الله الا بأمر الله ، ولا يحب ولايذكر، غير الله، الا بإذن اللهوأمره، فيكون كل الذكر، وكل الشكر، وكل التسبيح، وكل الخوف، وكل الحمد، وكل الطاعة، وكل الحب، وكل التقوى... لله تعالى، وليس لغير الله من الحب، والذكر والشكر والطاعة الابإذن الله،وبقدر مايأذن الله تعالى، وفي امتداد حب الله وشكره وذكره وطاعته ومخافته...وهذا هو معنى توحيد (العبادة): والعبادة معنى واسع يشمل كل هذه النقاط. وكذلك الامر فيالاستعانة ، فلا يستعين العبد بغير الله اذا وعى معنى العبودية،كما لا يعبد غير الله، فلا يلجأ في شؤونه الى غير الله، ولا يستعين بأحد في حياته غير الله، الا بإذن الله،.وليعلم ان الله تعالى هو وحده الذي يكفي عباده عن كل شيء ، ولايكفي عنه شيء، وهو وحده، النافع، الضار، الباسط، القابض، المحيي، المميت، المعطي، المانع، الشافي، المعين،... فلا يستعين في حياته بغير الله، ولا يأخذ من غير الله، ولا يرجو غير الله، ولا يطلب
(20)
الشفاء من غير الله ولا يطلب الرزق، ولا النصر،والعافية، ولاالسلامة، ولا العلم، ولا المعرفة، .. من غير الله، إلآ بأمر الله واذنه.. وهذا هو معنى (التوحيد في الاستعانة).
واما ما يستعين به الانسان من الآليات والاسبابالمادية في شؤونه فهو مالابد منه، ولا ينافي التوحيد في الاستعانة، اذا كان عن ايمان وبصيرة بأن هذه الاسباب والاليات تأتي في امتداد ارادة الله ومشيئته، وهي من خلق اللهتعالى سخرها الله للإنسان . فتكون الاستعانة بها من الاستعانة بالله تعالى وهذه الاستعانة تتم بأمر الله وإذنه، وفي امتداد وارادة الله ومشيئته.
وتوحيد العبادة.وتوحيد الاستعانة من اهم ابواب التوحيد، و لا يتيسر للإنسان هذا الوعي التوحيدي الكامل في العبادة والاستعانة الا من يعي العبودية.
والى هذا الوعي التوحيديالمتكامل في العبادة والاستعانة تشير آية الفاتحة (اياك نعبد واياك نستعين) التي يكررها المسلمون، كل يوم، عشر مرات، على اقل التقادير.
فهي تصرح بتوحيد اللهتعالى في العبادة (اياك نعبد) وتصرح بتوحيد الله تعالى في الاستعانة (واياك نستعين) ودليل التوحيد من هذا او ذاك هو تقديم المفعول على الفعل في الجملتين. فانه يدل في اللغةالعربية على الحصر، ومعنى ما تقدم حصر العبودية وحصر الاستعانة بالله تعالى. وهذا هو معنى التوحيد في العبادة والتوحيد في الاستعانة.
وهذه الآية الكريمة من سورةالفاتحة من غرر كتاب الله ومعاجزه وبيناته في (المعرفة) و(البيان).
فهي تخزل (التوحيد) في كل ابواب علاقة الانسان بالله في هذه العبارة البيانية والوجيزة، فهي آيةفي المعرفة وآية في البيان، واليك توضيح ذلك:
(21)
الخـط الصاعد والنازل في علاقة العبد بالله:
علاقة الانسان بالله تعالى لا تتجاوز الحالتين
1ـ ما يقدمه العبد ويرفعه الى الله من الطاعة والانقياد والذكر والشكر والتقوى، والخوف، والحب، والولاء، والبراءة، والتسبيح، والسجود والركوع، والقيام والجهاد،والصلاة، والصوم، والزكاة ، والانابة، والاخلاص، واليقين، والخوف والخشية... وما الى ذلك فهي ما يرفعه الإنسان الى الله وكل ذلك من العبادة، والعبادة معنى واسع يشمل كلذلك. وهذه العلاقة بكل اطرافها الواسعة الكثيرة يجب ان تكون توحيدية خالصة من شوائب الشرك، فيذكر الانسان ربه وحده ويشكره وحده ويتقيه وحده ويخافه وحده (ويخشونهولا يخشون أحداً إلآ الله)، ويتولاه وحده، ويحبه وحده، ولا يشرك في ذلك غير الله، الا ماكان بأذن الله وأمره، فانه يؤكد التوحيد، ولا ينافيه.
وكل ذلك يتضمن (اياكنعبد)، وآية التوحيد في ذلك تقديم المفعول على الفعل، كما ذكرنا.
2- والنوع الثاني من علاقة العبد بالله تعالى ما يطلبه العبد من الله، ويسأله، من العون، والرزق،والعافية، والمغفرة، والنصر، والجنة، والشفاء، والتوبة، ودفع المكروه والسوء، والفرح والسعة وكل مايطلبه العبد من ربه وهو كثير. وقد امرنا ان نطلب كل ما عندنا من الله.
ويدخل في هذا الباب الدعاء والاضطرار الى الله والاستشعار والاستنصار والاستعاذة بالله من الشيطان والاستغفار، والاسترحام... هذا هو الطرف الثاني من العلاقة..وهو (الاستعانة بالله والتوحيد في الاستعانة يتضمن قوله تعالى (واياك نستعين).
فان المفردات المتقدمة وغيرها تدخل جميعاً في الاستعانة.. والفقرة
(22)
المقدمة في آية الفاتحة تدل على توحيد الاستعانة.
اذن، آية التوحيد في الفاتحة (اياك نعبد واياك نستعين) تدل على توحيد العبد لربه تعالى في كل علاقاته بالله.سواء كانت العلاقة من سنخ مايرفعه الانسان الى الله او ممّا يطلبه الانسان من الله، ولا ثالث في علاقة الانسان بالله.
والتوحيد فيهما يعنى تمام التوحيدوكماله في علاقة الانسان بالله.
وهاتان العلاقتان هما نحو من (الاخذ والعطاء) والمقايضة والتجارة والشراء مع الله.
فان التجارة هي مقايضة بين طرفين منالأخذ والعطاء.
يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم)، (ان الله اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بان لهم الجنة)*.
(منذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً، فيضاعفه له).
كل ذلك من التجارة والمقايضة والاخذ والعطاء.
وآية التوحيد في سورة الفاتحة تنظم علاقة الانسان بالله في هذهالتجارة والمقايضة على اساس التوحيد.
وللإنسان في حب الدنيا انواع من العلاقة:
1ـ العلاقة بالله تعالى. 2- العلاقة بالمجتمع والناس وبأهله.
3- العلاقة بالاشياء والافكار.
وهذه العلاقات ايجاباً أو سلباً تستوعب كل حركة الانسان ونشاطه وعمله وسعيه وكدحه في الحياة الدنيا. والتوحيد، في علاقة الانسانبالله، في العبادة والاستعانة يتضمن كل مساحة شبكة العلاقات التي يرتبط بها الانسان،
(23)
ويتحرك خلالها ، ويجعلها جميعاً في امتداد علاقة الانسان باللهفي العبادة والاستعانة.
فأن هذه العلائق جميعاً، في جوهرها نحو من الاخذ والعطاء والمقايضة.
وهذه الحالة من المقايضة والاخذ والعطاء واضحة في علاقةالانسان بالاخرين... ولكننا اذا امعنا النظر نجد ان علاقة الانسان بالاشياء والافكار، وعلاقته بنفسه لا تخرج عن حالة المقايضة والاخذ والعطاء أيضاً.
واذا كانالامر كذلك في كل مساحة هذه الشبكة الواسعة، فلابد ان تقع في امتداد العلاقة بالله في الاخذ والعطاء. لأن هذا الاخذ والعطاء من سنخ ذلك الاخذ والعطاء، فلابد ان تقع فيامتداد الاخذ والعطاء، من الله والى الله، لا في مقابلها، ولا في عرضها.
فإذا أحب الانسان احداً أحبه الله.
وإذارجى من أحد يرجو من الله.
وإذا غضب من أحد يغضب لله.
فإذا عادى أحداً عاداه في الله.
وإذا غضب من أحد يغضب لله.
وإذا غضب من أحد يغضب لله.
وعلى هذا السياقيكون معنى الآية الكريمة (اياك نعبد وأياك نستعين) ان يحكم الانسان علاقته بالله على كل علاقة اخرى، وان يجعل جميع علاقاته في امتداد علاقته بالله، فتدخل هذه الشبكةالواسعة من العلائق جميعاً في دائرة التوحيد.
الشرك في العبادة والاستعانة
ان الشرك في علاقة الانسان بالله تعالى على نحوين بما أن التوحيد فيعلاقة (24)
الانسان بالله على نحوين من العبادة والاستعانة... كذلك الشرك في العبادة وفي الاستعانة... وللشرك في هذه وتلك دور تخريبي واسع في علاقة الانسانبالله، رغم ان هذا الشرك، في الغالب من الشرك الخفي الذي يخفى على كثير من الناس، وهو من أخطر انواع الشرك، لأنه يزحف على الانسان زحفاً هادئاً لا يثيره، ولا ينهه، ويحجبهبالتدريج عن رؤية يد الله تعالى وفعله وتوعيته وهدايته ورعايته للإنسان في حياته.
وهذا النوع من الشرك، رغم خطورته الكبيرة، وكونه من اوسع انواع الشرك في حياةالناس، يمتد الى ساحة واسعة من اوساط المؤمنين.
يقول تعالى: (وما يؤمن اكثرهم بالله الا وهم مشركون).
ان هذا الشرك يتحرك في اخطر شيء وأهم شيء في حياةالانسان، وهو علاقته بالله.
وهذا النوع من الشرك يتسلل الى داخل العلاقة، ويفسد علاقة العبد بالله في تغطيسهما في علاقته بالله في العبادة والاستعانة، وهما كلعلاقة الانسان بالله، وتخريب هاتين التغطيسين من علاقة الانسان بالله بمعنى افساد كل علاقة الانسان بالله... وأخطر ما في هذا النوع من الشرك انه يتسلل الى علاقة الانسانبالله بصورة هادئة لا تنبّه صاحبها ولا تثيره وتحجبه عن الله حجباً تدريجياً من خلال هذا الزحف الهادئ، غير المثير.
ولذلك فقد ورد في الاحاديث التحذير الشديدالى خطر هذا الشرك في حياة الانسان.
عن أبي موسى قال: خطبنا رسول الله (ص) ذات يوم، فقال : يا أيها الناس اتقوا الشرك، فانه اخفى من دبيب النمل.
فقيل: وكيفنتقيه: وهو اخفى من دبيب النمل، يا رسول الله(ص).
قال: قولوا: (اللهم انــا نعـــوذ بك ان نشرك بك ونحن نعلمه، ونستغفرك لما
(25)
لا نعلمه) (1).
وسوف نتحدث فيما يلي عن الشرك في العبادة والشرك في الاستعانة، كما تحدثنا من قبل عن التوحيد في العبادة والتوحيد في الاستعانة.
الشرك في العبادة
في مقابل التوحيد في العبادة الشرك في العبادة، والشرك في العبادة ليس بمعنى الشرك في خالقية الله او الشرك في الصلاة والصوم والحج وانما بمعنى الشرك في الطاعة، لغيرالله من دون اذن الله. يقول تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه واضلّه الله على علم) (الجاثية/ 23). والطاعة من العبادة.
وهذا نحو من الشرك بالله يتلخص في طاعة(الهوى) و(الطاغوت) وتعبير القرآن عن الشرك في الطاعة والعبادة تعبير عجيب يميز الإنسان. يقول تعالى: (أفرأيت من أتخذ إلهه هواه).
انهم اطاعوا اهواءهم، في مقابلطاعة الله، او في عرض طاعة الله ، فقال عنهم تعالى (من أتخذ الهه هواه). واعتبر القرآن اهواءهم آلهتهم.
ويقول تعالى: (الم أعهد اليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان،أنه لكم عدو مبين) (يس/ 60).
وعبادة الشيطان بمعنى طاعة الشيطان والانقياد له ولأغراءاته، ولذلك قلنا قبل قليل ان الطاعة من العبادة.
فمن لا يوحّد اللهتعالى في الطاعة، ولا يخلص له في الدين فهو على حد من الشرك، والاخلاص لله تعالى في الدين، بمعنى الاخلاص له في الطاعة.
يقول تعالى: (وما أمروا إلاّ ليعبدوا اللهمخلصين له الدين) (البينة/ 5 )ومعنى
(26)
(اياك نعبد) من سورة الفاتحة هو توحيد الله تعالى في الطاعة والولاء والدين والذكر والشكر والصلاة، والصوم والحج،والتقوى والحب... وما الى ذلك، وكل ذلك من العبادة التي يؤمرنا الله تعالى فيها بالتوحيد.
رُوي في التفسير عن ابي عبدالله الصادق(ع) في تفسير قوله تعالى: (اتخذوا مندون الله آلهة لكيونوا لهم عزاً* كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً).
قال(ع) : (ليس العبادة في السجود، ولا الركوع، انما هي طاعة الرجال، من اطاع المخلوق فيمعصية الخالق فقد عبده) (2).
روى الثعلبي باسناده عن عدي بن حاتم. قال: أتيت رسول الله(ص)، وفي عنقي صليب من ذهب. فقال لي: يا عدى إطرح هذا الوثن من عنقك، قال فطرحته. ثم أنتهيت اليه، وهو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم ارباباً) (التوبة/ 31)، حتى فرغ منها.
فقلت له انا لسنا نعبدهم ، فقال: أليسيحرمون ما أحلّ الله فتحرمونه، ويحلون ما حرّم الله فتحلونه؟
قال فقلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم(3).
ورُوي عن الإمام الصادق (ع) في تفسير قوله تعالى: (وما يؤمناكثرهم إلا وهم مشركون) (يوسف/ 106) قال : يطيع الشيطان(4).
إذن، إتباع الهوى، والطاغوت والشيطان وطاعتهم بمعصية الله من اكثر انواع الشرك شيوعاً بين الناس، ولا يسلممن هذا الشرك الاّ قلة نادرة من عباد الله الصالحين، حصّنوا انفسهم بالتقوى من هذا الشرك، الذي يتسلل الى نفوس الناس من دون إثارة أو تنبيه.
(27)
الشرك فيالاستعانة
ليس معنى (التوحيد في الاستعانة) الاستغناء عن الاسباب والآليات التي خلقها الله تعالى وسخرها للناس في معاشهم وأنما معنى (التوحيد في الاستعانة)التصور والفهم التوحيدي الذي يحمله الانسان لدى استخدام هذه الآليات والأسباب في معيشته وشؤونه ، فليس في أستخدام الآليات والأسباب الطبيعية توحيد أو شرك، وانماالتوحيد والشرك في التنظر الفعلي والتصور الذي يحمله الناس لدى استخدام هذه الآليات الطبيعية. واليك توضيح ذلك:
ان الله تعالى جعل ارزاقنا في حركةالاسواق، والزراعة ، والصناعة ، وجعل حظنا من العلم في المدارس ولدى العلماء، وجعل أسباب الشفاء في العافية والادوية، وجعل علم ذلك لدى الاطباء، وجعل اسباب النصر فيالحروب في السلاح والتدريب وتحضير القوة والنظام العسكري والتهيؤ والتخطيط. فإذا قلنا بان النصر كله من الله يقول تعالى: (وما النصر الا من عندالله) (الانفال/ 10 )(آل عمران 126)، والنفي والاستثناء في هذه الآية بمعنى الحصر. أي لا تجدون النصر إلآ عند الله. ولكن ذلك لا يعني الامر بعدم التحضير للقتال والاستعانة بالمعدات العسكريةوالتحالف، ولا ينافي ذلك قوله تعالى (واعدوا لهم مااستطعتهم من قوة)... فان الله تعالى جعل هذه القوة سبباً للنصر، والله تعالى هو الذي يعطي النصر ويمنح القوة، ويأمربتحضير القوة.
واذا قلنا بان الله هو الرزاق، فحسب، وليس من رازق، غير الله، ولا يجوز ان يطلب الانسان رزقه من عند غير الله. يقول تعالى: (الله يبسط الرزق لمن يشاءويقدر) (الرعد/ 26)، (ان ربك يبسط الرزق لمــن يشاء ويقدر) (الاسراء/ 30)، (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) (هود/ 6).
وينفي الله تعالى ان يملك احد غير الله رزقالعباد. يقول تعالى: (ويعبدون من
(28)
دون الله مالا يملك لهم رزقاً من السماوات والارض شيئاً) (النحل/ 73).
(ان الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكمرزقاً ) (العنكبوت/ 17). واذا أمسك الله الرزق على عباده، فمن هو الذي يرزقهم من دون الله (أمّن هذا الذي يرزقكم ان امسك رزقه، بل لجّو في عتو ونفور) (الملك/ 21).
ولكنالله تعالى جعل اسباب رزقنا في الاسواق والمزارع وساحات العمل، (وجعل لنا معايش، ومن لستم له برازقين) (الحجر/ 20).
ويقول تعالى: (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه)(الملك/ 15)، ولا ينافي هذا السعي في الاسواق، والحركة، وفي مناكب الأرض، والتوجه الى ماجعل الله تعالى لنا من المعايش على وجه الأرض... لا ينافي هذا السعي وهذه الحركة توحيدالاستعانة بالله تعالى في الرزق، والايمان بان الرزق من الله تعالى فقط، ولا يجوز ابتغاء الرزق الا من عند الله، او ما جعله الله تعالى سبباً للرزق امتداداً لأمره واذنه .
وليس من الشرك ان يسعى الانسان الى الاسواق للرزق وهو يعلم ان هذا السعي باذن الله وامره، وان الله تعالى جعل الاسواق معايش للناس. وانما الشرك ان يتصور انه هوالذي كسب رزقه من دون اذن الله، وان الاسواق هي مصدر رزقه، وسبب رزقه في مقابل الله، وليس في امتداد ارادته واذنه.
وشتان بين هذا التصور وذاك: ان صاحب التصور الاوليطلب رزقه من الله تعالى في السوق والمزرعة وسائر ساحات العمل، وصاحب التصور الثاني يطلب رزقه من السوق والمزرعة ومن كفاءاته الشخصية.. وهذا الثاني هو الشرك فيالاستعانة، والاول من التوحيد في الاستعانة.
وقد ورد من الامام الصادق(ع) تعريف الشرك (هو قول الرجل : لولا فلان لهلك، ولو لا فلان لأصبت كذا وكذا، ولولا فلان لضاععيالي. الا ترى انه قد جعل لله شريكاً في ملكه يرزقه، ويدفع عنه؟
(29)
قال الراوي: قلت: فيقول: لولا ان الله منَّ عليَّ بفلان لهلكت . قال لا بأس.
وروىالصدوق في معاني الأخبار عن أبي عبد الله الصادق(ع): (ان الشرك أخفى من دبيب النمل) قال : ومن تحويل الخاتم، ليذكر الحاجة، وشبه هذا)(5)، وهو أمر عجيب، ملفت للنظر. فان الانساناذا اتكل في التذكر على تحويل الخاتم من الاصبع الذي يعتاده الى اصبع آخر، فهو من الشرك الخفي الذي لا يسلم منه أحد، الا عباد الله الخالصين، واما اذا كان أتكاله على الله،واتخذ ذلك وسيلة أراه الله تعالى اياه، وجعلها له سبباً للتذكر، فليس من الشرك.
اذن الشرك والتوحيد ليس في استخدام الاسباب والآليات المادية والصعبة وغيرها،وانما هي في طريقة استخدام الآليات والاسباب، فان كانت قائمة على تصور ان الاسباب والآليات تعمل مستقلة عن الله، وان الإنسان يعمل كما يريد، وكما يشاء، فهو من الشرك، وانكان استخدام الاسباب قائم على اساس ان هذه الاسباب مما سخره الله تعالى لعباده، وان التوفيق من الله والسبب من عند الله، والامداد من الله، والعون من الله، والاستعانةبالاسباب من الاستعانة بالله كان من التوحيد.
عن أبي بصير وأبي اسحاق في تعريف الشرك الخفي، قال هو قول الرجل: لولا الله وانت ما جرى عليَّ كذا وكذا واشباه ذلك(6).
وعن ابي عبدالله الصادق(ع) في قولـه تعالى: (وما يؤمن أكثر هم بالله الا وهم مشركون) هو قول الرجل: لولا فلان لهلكت، ولولا فلان لأصبت كذا وكذا، ولو لا فلان لضاععيالي. الا ترى انه قد جعل لله شريكاً في ملكه يرزقه ويدفع عنه؟ قال قلت: فيقول: لولا ان الله مَنَّ علي بفلان لهلكت؟ قال: نعم، لا بأس بهذا(7).
وعندما تتحقّق للإنسانهذه الدرجة الرفيعة من التوحيد في الاستعانة
(30) يكون في تعامل دائم مع الله تعالى، في حركته اليومية. ففي كل أخذ وعطاء وحركة وسكون وعمل في حياتهاليومية، انما يتعاطى مع الله، ويتعامل مع الله، ويجد يد الله معه في كل حال، فإذا ذهب الى السوق إتكل على الله، وطلب الرزق من الله، واتقى في السعي الى الرزق. واذا ذهبالى ساحة القتال ذهب متكلاً على الله، واثقاً بنصر الله، مستنصراً لله تعالى، مستغفراً من الله ذنوبه التي تحجب عنه النصر، لاجئاً الى الله في الشدة، عائذاً الى الله منكيد العدو وبأسه، شاكراً لله في النصر، راجياً من الله النصر عند النكسة، مطمئناً الى وعد الله.
وهكذا يجد نفسه في تعامل دائم مع الله، في السراء والضراء، وعندمايدخل على أصدقائه، ويتعامل معهم، وعندما يواجه اعداءه ويقاتلهم. (قل ان الامر كله لله) (آل عمران/ 154)، (واليه يرجع الامر كله) (هود/ 123).
يطلب وجه الله في كل شيء،ويستعين بالله في كل حال، ويرجو الله، ولا تحجبه الاسباب والآليات المتوفرة، والمال، والموقع، والاصدقاء، والامكانات، والاهل، والاقربون، والصحة، والعافية، والقوة عناضطراره وفقره الى الله وهذا هوالفارق الكبير بين الرؤيتين والتصورين ، فان الناس في الغالب تحجبهم الاسباب وتلهيهم عن الله تعالى، فإذا توفرت لديهم الاسباب لم يحسّوايد الله تعالى معها وخلفها، ولم يشعروا بالاضطرار الى الله.. الا اذا انقطعت عنهم الاسباب والآليات والامكانات الطبيعية المتوفرة للناس، عندئذ يشعرون بالاضطرار الىالله، ويلجأون الى الله مضطرين مقطوعين. فلا يشعرون بالاضطرار الى الله الا عندما تنقطع عنهم الاسباب.. وهذا هو الوهم الذي يحجبهم عن الله تعالى.
ومن الناس، وهمقلة نادرة، آتاهم الله درجة عالية من الوعي والبصيرة، فلا تحجبهم الاسباب عن الله تعالى، مسبب الاسباب، ولا يسلبهم توفر الاسباب والامكانات الموفرة عن الاحساس بالفقروالاضطرار الى الله تعالى.
(31)
هاتان رؤيتان رؤية توحيدية تخترق الاسباب الى مسبب الاسباب ومبدأ الاسباب، ورؤية سطحية عاجزة تقف عند الاسباب، وتنشدّاليها، ولا تتمكن من تجاوزها واختراقها.
والرؤية الاولى من الرؤية التوحيدية التي تشهد حاجة الكون والإنسان، وفقر الكون والانسان الى الله في كل الاحوال، وتشهدامداد الله وافاضته المتصلة ورحمته على الكون والانسان من خلال هذه الاسباب.
العبودية من أعظم منازل رحمة الله
اذا تخلّق الإنسان باخلاق العبودية،فكانت عبادته كلها لله، واستعانته كلها لله فقد جعل نفسه في منزل من أعظم منازل الرحمة، تفيض عليه رحمة الله تعالى من غير حساب. وهذا ايجاز يحتاج الى ايضاح وشرحان رحمة الله تعالى هابطة، تفيض على الكون والانسان من غير انقطاع، ومن غير حدود. إلاّ ان لرحمة الله منازل
(من حيث المكان والزمان والاحوال) فمن وضع نفسه في هذهالمنازل عليه رحمة الله تعالى، على قدر المنزل.
ومن أعظم هذه المنازل منازل (الاحوال) مثل حالة الرقة، وقد رُوي أن الله في القلوب المنكسرة) ومثل حالة الذكروالتسبيح والجهر، وحالة الصيام فأن رحمة الله تنزل على هذه الأحوال بغزاره، على قدر حظ الانسان من هذه الاحوال.
وهذه الاحوال كثيرة، ولكل منها نصيب من رحمة الله،وأعظم هذه الاحوال العبودية في الخط الصاعد والخط النازل، وأقصد بذلك أحوال العبودية في العبادة والاستعانة معاً... فأن الخط الصاعد في العلاقة بالله هو خط العبادة
(32)
والخط النازل في العلاقة بالله هو الاستعانة.
والعبادة والاستعانة، يستجمعان أفضل حالات الإنسان مع الله ويجعلان الإنسان عند أفضل منازل الرحمةالألهية. تفيض الرحمة على هذه المنازل بلا حساب ولا حدود. ومن وفقه الله لينزل بعض هذه المنازل فاضت عليه الرحمة من لدن الله إفاضة غزيرة. فإذا انزل منزلةالعبودية بكل مافي العبودية من حالات على الخط الصاعد والنازل في العلاقة بالله، فاضت عليه رحمة الله من غير حدود ولا حساب.
فان العبودية، كما قلنا تستجمع علىالخط الصاعد والنازل أفضل حالات الانسان مع الله، وارفع المنازل واسماها في السلوك الى الله.
ومن منازل العبودية علـى الخـــط الصـــاعد (وأقصد بذلك خط العبادة)(اياك نعبد).
الذكر، الشكر، الحمد، التسبيح، الطاعة، التقوى، الاتكال على الله، الاعراض عن غيره، الرضا بأمر الله، الرضى لله، والغضب لله، المعرفة، اليقين،الولاء لله، البراءة من أعداء الله، الايمان، الاخلاص، التضرع، التواضع، التذلل بين يدي الله، الاسلام، التسليم، الخوف، الخشية، الصبر على طاعة الله، الحب، الشوق،الانس، الولـه، الحب لله، والغضب في الله، الاطمئنان ، التعظم، الحياء، الصدق، العزم والارادة.. وغير ذلك من منازل العبادة وهي كثيرة لسنا بصدد احصائها ولا نظمها فينظمها السلوكي، ولذلك وردت هذه المفردات في حديثنا مشتته.
ومن منازل العبودية، على الخط النازل من العلاقة بالله، وأقصد بذلك، خط الاستعانة بالله (اياك نستعين).
الأستغفار، الدعاء، المناجاة، الفقر، الأضطرار، الرجاء، الثقة، التوكل، التفويض، التوبة، الأنابة، الاخبات.. وغير ذلك من منازل الاستعانة بالله،
(33)
وهي كثيرة، لسنا بصدد استقصائها واحصائها.
وهذه الحالات، في الخط الصاعد والنازل من العلاقة بالله من أفضل منازل رحمة الله في سلوك العبد وحركته الى الله.فإذا رزق الله تعالى عبداً منزلة العبودية فقد رزقه الخير كله، وجعله عند منازل رحمته الواسعة، وأفاض عليه رحمته بلا حدود ولا حساب.
ان قيمة الانسان عندالله، على قدر ارتباطه وعلاقته بالله وقربه الى الله. والقرب هنا بمعنى الارتباط والعلاقة. ولا شيء يحقق للإنسان هذه العلاقة المتينة القوية المحكمة مثل العبودية لله،فإن العبودية تربط الانسان بالله بتقوى الأواصر والعلائق، وتشد العباد بالله تعالى، شداً دقيقاً محكماً.
وهذا الارتباط والانشداد والتعلق هو احد طرفيالمعادلة، والطرف الآخر هو التحرر والانعتاق عن اسر الهوى وعبودية الطاغوت والشيطان.
وبقدر ما يحقق الانسان تلك العلاقة ويشد نفسه بالله تعالى، ويذوب، ويقهر،ويتنكر للأنا، حتى لا يكاد يرى نفسه... بنفس المقدار يتحرر من قيود الهوى والطاغوت والشيطان ومن الدنيا ويشعر بالانعتاق الكامل من هذه القيود التي تشد الانسان الــىالدنيا شداً، وتسلبه حريته وحركة، وتعتقه عن العروج الى الله تعالى.
وهذه هي الغاية التي من اجلها خلق الله تعالى الانسان بهذه المجموعة الواسعة من المواهبوالكفاءات التي لم نجعلها لغيره من خلقه.
ولعل الى ذلك يُشير قوله تعالى: (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) (الذاريات/ 57).
والآية الكريمة ظاهرة في الحصر،ودلالة الحصر هنا على ان العبادة والعبودية في علاقة الانسان بالله، هي الغاية من خلق الانسان واضحة.
(34)
والى ذلك يشير ايضاً قوله تعالى: (قل ما يعبؤ بكمربي لولا دعاؤكم) (الفرقان/ 77).
فان (الدعاء) هو الإقبال على الله والاضطرار والتوجه الى الله تعالى، وهو من اقوى علائق الارتباط بالله... فلا يعبؤ الله بعبده، لولاهذا الأنشداد والارتباط والعلاقة القائمة على أساس الفقر، والاضطرار الى الله.
وها هنا منازل رحمة الله، فإذا حل الانسان في هذه المنزلة نزلت عليه الرحمة، غزيرةسابغة، تفيض عليه بلا حدود ولا حساب.
1- ميزان الحكمة 5/65 نقلا عن كنـز العمال ، ح 8849.
2- تفسير القمي 415.
3- مجمع البيان 5/46 ط 1390 - 1970، فيتفسير الآية 31 من سورة التوبة (البراءة).
4- بحار الانوار 72/103.
5- معاني الاخبار/ 379.
6- بحار الانوار 72/99.