تجلیات الشخصیة العربیة الإسلامیة ومکونات قوتها قراءة فی شعر عمر أبی ریشة (1) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تجلیات الشخصیة العربیة الإسلامیة ومکونات قوتها قراءة فی شعر عمر أبی ریشة (1) - نسخه متنی

عیسی علی العاکوب

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

تجليات الشخصية العربية الإسلامية ومكونات قوتها - قراءة في شعر عمر أبيريشة 01

الاستاذ الدكتور عيسى علي العاكوب (1)

''ملخّص''

يرمي هذا البحث إلى الإجابة عن سؤالين مهمّين يتصل كلّ منهمابالمضمون الشعري عند عمر أبي ريشة:

- كيف تجلّت الشخصية العربية الإسلامية في شعر أبي ريشة؟

- ماهي مكوّنات القوة في هذه الشخصية؟

وقدجاء البحث في قسمين رئيسيين، يناقش كلّ منهما عدداً من القضايا:

أولا - تجلّيات الشخصية العربية الإسلامية في شعر أبي ريشة. وقد جرى الحديث هنا عن: 1- فرط إحساسالشاعر بهذه الشخصية. 2- قوة انتمائه إلى الأمة العربية الإسلامية. 3- إلتزامه تصوير ماضي الأمة الزاهر وحاضرها العاثر.

ثانياً - مكوّنات القوة في الشخصيةالعربية الإسلامية.وقد تمثّلت هذه في: 1- الصحراء العربية وما نمّت عند العربي من قيم. 2- النُّبوة والحقّ. 3-العبقرية الجهادية ورموزها. 4- العبقرية البيانية . والبحث يقدممن أبي ريشة نموذجا للشخصية الاسلامية القوية التي ينسجم فيها ''القومي'' و''الاسلامي'' بصورة رائدة .

تقديم

يمثل شعر عمر أبي ريشة ( 1910 - 1990م)خيطاً شعريّاً متميزاً في نسيج الشعر العربي الحديث. ولا يخيّل إلى الدراس أن قضايا الأمة العربية الإسلامية ظهرت في شعر شاعر عربي حديث على غرار ما ظهرت في شعرأبي ريشة.وقد اقترب أبو ريشة في تناوله هذه القضايا من حمى الفلسفة حين تأمّل طبيعة الشخصية العربية الإسلامية، وعرف نقاط القوة فيها، ومن رحاب التاريخ حين عرض لما أضاف الإسلاموالرسول الكريم عليه الصلاةوالسلام، إلى شخصيّة العربي البدوي من معاني الرحمة والإيثار والتضحية. وقد تناول أبو ريشة ذلك كلّه بريشة الفنان المبدع، الذي جنَّح الحرف،وفجَّر الكلمة، وسلسل الإيقاع أناشيد عذبة في مسمع الزمان.

ويدنو فهمنا للشخصية هنا من فهم أبرام كاردينر لما سماه ''الشخصية القاعدية''; إذ قال:

''هيبنية نفسية خاصّة بأعضاء جماعة معينة، وتظهر بأسلوب حياة ينسج عليه الأفراد فروقاتهم الفردية (الموسوعة الفلسفية العربية - المجلد الأول، ص509).

منهج البحث:

إعتمد البحث منهج الاستقراء والتصنيف والتحليل، وجعل من المادة الشعرية المنطلق الذي يصدر عنه في كلّ ما يأتي به من الاستنتاجات. وحكم المنهج رؤية تمثّلت في أبيريشة شاعراً فيلسوفاً تجاوزالقشور إلى اللُّباب، ومثقفاً عربياً مسلما استشعر جسامة الرسالة المنوطة به، وكان لديه هاجس قوي بأن صرخاته ستُلهب ضمير أمته، وستوضح لهاسبيل المجد التي سارت عليها زمناً غير قصير، ثم حادت عنها في العصور المتأخرة.

العرض والمناقشة

أولا - تجليّات الشخصية العربية الإسلامية فيشعر أبي ريشة:

تنبئ أشعار أبي ريشة عن إدراك بيّن القسمات لطبيعة الشخصية العربية الإسلامية، بوصفها كياناً إنسانيا ذا إمكانيات خاصة وتطلّعات محددة، جلّتنفسها في سيرة الحياة في صورة حضارية متميزة. وقد تجلّى هذا الإدراك في جملة مظاهر يشفُّ عنها شعر الشاعر وسلوكه ، وهي:

1- فرط إحساس الشاعر بهذه الشخصية:

توافرت في نشأة عمر أبي ريشة جملة عوامل جعلته شديد الإحساس بالشخصية العربية الإسلامية. وإذا كان المقام الذي نحن فيه لا يأذن بالإضافة في حديث هذه العوامل، ففيمقدور المرء أن يقول على الجملة إن البيئة التي شبّ فيها الشاعر وترعرع كانت عاملاً من العوامل التي أذكت في روعه كلّ مقومات الإحساس بشخصية أمته. وليس في مقدور المرء أنيغفل مجاورة الشاميّين للأتراك في عهد الإتحاديين بخاصة ، وما لذلك من أثر في بلورة الشعور العربي في بلاد الشام أكثر من غيرها. على أن لنشأة عمر في الوقت الذي كانت فيهسوريا تغالب المستعمر الفرنسي تأثيراً كبيراً في هذا التوجه(2). لكنه يظل في طليعة هذه العوامل جميعاً تلك الأرومة العربية الكريمة التي انتمى إليها الشاعر وما يمكن أنتكون قد تركته في نفسه ''فأبوه من العرب الأقحاح وأمه من الأرض المقدسة (فلسطين)''(3). ولا ينبغي التهوين من شأن إدراكه المبكر لما يحاك حول فلسطين منذ أواخر القرن الماضي منخطط ومؤامرات.

ويلمح متأمّل ماهو متوافر من سيرة الشاعر المبكرة أنه قويّ الإحساس بشخصيته العربية الإسلامية، شديد الحبّ لأمته وهو دون العشرين من سنيّحياته. وقد عبّر عن ذلك في كتابته مسرحية ''ذي قار'' ، وإهدائها إلى عالم العراق الكبير محمد حبيب العبيدي الذي دافع عن العرب والمسلمين فألّف كتابه الموسوم بـ ''جناياتالإنكليز على البشر عامة وعلى المسلمين خاصة'' فدلّل الشاعر بذلك على ''حبّ للعرب وتفان في العقيدة وكُره للاستعمار''(4). وقد جرى ذلك سنة 1929م عندما كان أبو ريشة طالباً فيالجامعة الأمريكية في بيروت.

ويبدو أنّ هذا الإحساس المسرف بالشخصية العربية الإسلامية جعل قلب الشاعر مضطرباً للشعور بمآسي العرب والمسلمين في كلّأوطانهم، وليس في بلده سوريا فحسب، فقد كان هذا القلب كما يقول الدكتور سامي الدهان: ''يخفق للعرب أجداده، فيرسمهم في كلّ قطر، ويتأسى لأحزانهم ، ويفرح لانتصاراتهم،ويناضل بلسانه في كل خلجة من خلجات الوطنية''(5).

وعند عمر أنّ العروبة والإسلام شيء واحد، خلافاً لما كانت عليه الحال عند غير قليل من شعراء المرحلة. فقد أدركالشاعر، كما سيتضح ، أنّ المجد العربي ليس في جوهره سوى مجد الإسلام، وكلّ من يفصل بين الاثنين يقع في خطأ خطير. ومن هذه الوجهة يقول عمر مخاطباً فلسطين:




  • أيفلسطين، ما العروبة لولا
    قبسٌ من سنا النبوّة هاد



  • قبسٌ من سنا النبوّة هاد
    قبسٌ من سنا النبوّة هاد



كلُّ حرف منها لهاة من العلـ *** ـياء سالت كريمة الإنشاد(6) ولعله من الوجهة نفسها أيضاً يفهم المرء مقالالشاعر الذي نشرته مجلّة الجهاد الحلبية في 6 مارس 1932م بعنوان ''التبشير الإسلامي وأثره في بلاد الغرب''، الذي يذكر فيه عمر أنه ''زار جامع لندن، ولقي الهنود المسلمين،وتحدّث إليهم، وعرف ما يصنع التبشير في آسيا وإفريقيا''(7).

ويستيقن القارئ هذا الربط بين العروبة والإسلام في تصور عمر بتأمل تلك الحرب التي ما انفك يشفّها علىالجاهلية في كلّ مظاهرها وعهودها . يقول في قصيدته ''خالد بن الوليد'':




  • أحد لاحَ حينَ لاحَ عليهِ
    زرعَ الحقَ في كتاب مبين
    كيف يُطوى الحُسامُ والجاهليّا
    تُ هيامُ الأوثانِ بالأوثانِ(8)



  • عالَم ضمنَ هيكل إنساني
    وحماهُبكلّ عَضب يمانِ
    تُ هيامُ الأوثانِ بالأوثانِ(8)
    تُ هيامُ الأوثانِ بالأوثانِ(8)



والحق أن مثل هذا الموقف يطالعنا في كل مرة يذكر فيها عمرانتصار الحق على الباطل في صدر الدعوة الإسلامية، وقد يفعل مثل هذا حين يعرض لحال العرب المسلمين اليوم.

وقد تجلّى إحساس عمر المسرف بالشخصية العربيةالإسلامية من خلال احتفائه الشديد بأمة العروبة والإسلام ماضياً مشرقاً، وحاضراً مفعماً بالآلام والنكبات. وقد استطاع أن يبلور في شعره كلّ صور المجد السالف لأمته،فاستحق بهذا أن يقول عنه رجل كالدكتور شاكر مصطفى: ''الشاعر الذي تخفق له حتى صخور بلادي، جبين يلتهب فيه العنفوان، وعين كأنّ وراء نظارتها ألف رؤيا بعيدة ، وشفتان منهماانهلّ تاريخ أمتي صورة صورة بكل مافيه من دموع وزغاريد ورعف جراح''(9).

2- قوة انتمائه إلى الأمة العربية الإسلامية:

أظهرت حياة أبي ريشة وفنّهانتماءً قوياً إلى أمته العربية الإسلامية، يجاوز قدرة الوصف، وقد تجلّى ذلك في سيرة نضالية حافلة، سخر فيها ذاته وفنّه لكل مامن شأنه أن يرفع الضيم عن أمته. وينسحب هذاعلى شطر حياته الأول الذي أمضاه في مدينة حلب إلى أن تحرّرت البلاد من ربقة المستعمر ونالت استقلالها سنة 1946م. وتقول سيرة حياته إن الشاعر ''ظل في حلب عشرين عاماً يرقب عبثالساسة ولهو المتنفذين ، ويرى أبطال العرب من المعاصرين يقضون واحداً بعد واحد، كما تنطفئ شموع المعبد. وهاله أن ينزل بعض الأحزاب إلى مستوى المساومة، وأن يخدعالشعب،وأمضّه الاستعمار وأحزن باله، فراح يردّد في نفثاته طلقاتِ المدفع الذي يملكه، فيخرج اللهب وحده ليشير إلى أن روحاً تتحرق في سبيل الحرية، حرية العرب، وقد وهبالشاعر لهم قلبه وحياته، ووقف على تمجيدهم كلّ مايملك من قول ونظم''(10).

ويلحّ عمر على هذا الانتماء القويّ إلى أمته العربية الإسلامية في مناسبات كثيرة، علىنحو يجعل المرء يلحظ أن الشاعر يقصد إلى ذلك قصداً، حتى كأن الأمر لديه يحتاج إلى مزيد تأكيد. ففي قصيدته التي خص بها ''خالد بن الوليد'' يقول عمر:




  • أنا من أمة أفاقتعلى العزِّ
    عرشُها الرثّ من حراب المغيريـ
    والأماني التي استماتت عليها
    واجمات تكلّمي ياأماني(11)



  • وأغفت مغموسة في الهوان
    ـنَ وأعلامُها من الأكفان
    واجمات تكلّمي ياأماني(11)
    واجمات تكلّمي ياأماني(11)



واللافت للنظر أن صورة ''العزّ الآفل'' أو ''المجد الضائع''، هي الصورة التي لازمت أبا ريشة، وظلّ يستعيدها في كلّ مناسبة، ويطابق بينه وبينها فيضرب من الهيام الصوفي بالمعشوق. والإفاقة على العز التي يتحدث عنها عمر هنا هي ذلك الفجر الإسلاميّ الذي حمل فيه محمد عليه الصلاة والسلام مشعل النبوة، فبدّد ظلماتالحياة التي جافى فيها الإنسان مراد مولاه سبحانه. لكن هذا الفجر لم يُقيَّض له أن يستمر، إذ تألبت كلُّ قوى البغي لإطفائه. ومثل هذا الانتماء نجده في موطن آخر من شعرالشاعر وعلى نحو أكثر جلاء:




  • أنا ياربِّ من بقايا سيوف
    أنا من أمة تجوسُ حماها
    أسقطت مِشعلالنبوّةِ في اللّيـ
    ـلِ، وأرخت للتِّيهِ كلَّ عِنانِ(12)



  • ثلمتها مضاربُ الحِدثانِ
    جاهليّاتُها بلا استئذان
    ـلِ، وأرخت للتِّيهِ كلَّ عِنانِ(12)
    ـلِ، وأرخت للتِّيهِ كلَّ عِنانِ(12)



وفلسفة الشاعر في الانتماء هنا واضحة تماماً، كما يبدو تصوره الشخصية العربية الإسلاميةأكثر وضوحا. وهو إذا كان هنا يشير إلى ثنائية ''العروبة والإسلام'' فإنه يشكو من ضعف إحدى الحَلقتين، مما عرّض السلسلة للوهن . فعمر يبتغي ''قوة عربية إسلامية معاً''، ويرى أنّهذا كان قائماً زمن النبوة وما بعد ، لكن التوازن اختل. ولكي تظل الشخصية محتفظة بتوازنها وقوتها من ثم، لابدّ من رتق الفتق الذي تعاني منه: تقوية عنصر الإسلام،أوالاستضاءة بمشعل النبوة; لكي لا يكون ثمة تيه. ويستيقن القلب هذا حين يتأمّل قول الشاعر:




  • نفحات النبيّ، والفتح والعلـ
    رعشات في أضلعي ماجت الصحـ
    ـراءُ فيها وماج فيها افتتاني(13)



  • ـياء والعزّ والنّدى والبيان
    ـراءُ فيها وماج فيها افتتاني(13)
    ـراءُ فيها وماج فيها افتتاني(13)



ذاك أنه في احتضان الصحراء هذه النفحات تتحوّل الصحراء إلى بحر متلاطم الأمواج; أي إنالإكسير الذي يحوِّل المعادن الرخيصة إلى ذهب، في لغة الكيمياء القديمة، هو هذه النفحات.

ولعلّ كبرى آيات الإحساس بقوة الانتماء إلى الأمة عند عمر أن الشاعرسخّر شعره كلّه للتغني بأمجادها وتصوير لحظات التحليق في تاريخها، وتقليد أبطالها أوسمة الفخار الذي لا يأتيه البلى. وقد استبان بعض دارسيه هذا الملحظ في شعره فقال:''الشعر عنده ليس صوراً فارغة، وإنما هو صور مليئة بالأفراح والأحزان، مع الإحساس الدافق بالعروبة والإسلام''(14).

وكلُّ من عرف الشاعر المعرفة الحقّة بدت له قوةانتمائه إلى هذه الأمة، إلى حدّ الهوس. ويخال الدارس أن الشاعر أراد أن يقدّم درساً في الوطنية الحقة التي يحبُّ صاحبها الأمة والوطن إلى حدّ التقديس. وتومئ إلى شيء منهذا القبيل نازك باسيلا التي أجرت مقابلات مع الشاعر حين تقول: ''لكنّه يثور، لابل يتطاير الشّرر من عينيه حين يتحدث عن محنة أصابت بلاده ، ينسى ما عانه من جرّاء تشبثهبالحرية والحقّ، ويتغاضى عن كلّ ضرر لحق به، ويسامح من تسبّبوا به، لكنه لا يغفر زلة إنسان أخطأ يوما بحق بلاده''(15). وإنّ القول ما قالت باسيلا، وإنك لتظفر بمؤيِّد لهذا فيسلوك الشاعر في مواقف مشهودة كثيرة، تختزنها ذاكرة مواطنيه وزملائه. ولسنا ندري إن كان الدارس على صواب حين يقول إن افتتان الشاعر منذ صغره بعظمة أمته العربية الإسلاميةولّد في نفسه دافعاً قويّاً إلى الارتباط بها إلى حدّ الهيام. ومن ثمّ نرى الشاعر لا يفتأ يذكر في أشعاره إحساسه بالخجل من ماضي أمته الزاهي. وقد كُتب عليه أن يحيا في زمنسقطت فيه آيات المجد من سِفر أمته. تجلّى هذا على أشدِّه في قصيدته المسمّاة أحياناً ''بعد النكبة''، تلك التي يقول في مطلعها:




  • أمتي، هل لك بين الأمم
    مِنبرللسَّيفِ أو للقلمِ



  • مِنبرللسَّيفِ أو للقلمِ
    مِنبرللسَّيفِ أو للقلمِ



إذ يطالعك الشاعر بقوله بعد ذلك:




  • أتلقّاكِ وطَرفي مطرق
    ويكاد الدّمعُ يهمي عابثاً
    ببقاياكبرياء الألمِ



  • خَجِلاً من أمسِك المنصرمِ
    ببقاياكبرياء الألمِ
    ببقاياكبرياء الألمِ



ويقف في صفّ واحد مع هذا قول أبي ريشة مخاطباً أمته:




  • أين دنياك التي أوحت إليّ
    كم تخطّيتُ على أصدائه
    وتهاديتُ كأنّي ساحب
    مئزري فوقَ جباهِ الأنجم(16)



  • وترى كلَّ يتيم النغم
    ملعب العزّ ومغنى الشَّمم
    مئزري فوقَ جباهِ الأنجم(16)
    مئزري فوقَ جباهِ الأنجم(16)



ولعلّه غير خاف بعد هذا أنّ شطراً من كبرياء عمر وأنفته أتاه منإحساسه بانتمائه إلى أمة راسخة القدمين في الحضارة، واضحة المكان في التاريخ الإنساني. بل يبدو أنه في مقدور الدارس أن يقول إن في تكوين عمر ميلاً إلى القوة والأنفةوالتعالي، وقد وجد في نسبه القريب وفي تاريخ أمته الزاهي ما يُضيف به لبنات إلى صرح مجده الشخصي، ليتطاول إلى ماشاء من التطاول ، وليكون للتاريخ الأدبي من ذلك كله هذاالتحليق المدهش في آفاق الفن الشعري. ويخيّل إلينا أيضاً أن إدراك عمر مبلغ مايُراد من ضيم لأمته، وما تسام به من خسف ضاعف إحساسه بذلك المجد القديم، لأن الوعي بالحاضرالقاتم ينقله سريعاً إلى ذلك الماضي الذي نقّاه التذكار من كلّ شائبة، فبدا أكثر ألقاً ورواءً.

3- التزامه تصوير ماضي الأمة الزاهر وحاضرها العاثر:

قدّم عمر أبو ريشة في مسلكه وفي فنّه صورة مثلى للشاعر الملتزم بقضايا أمته، الذي تؤرّقه همومها، وتستبد به آمال أبنائها وآلامهم، وتهزّه نجاحاتهم، وتؤزّه إخفاقاتهم.وقد أدرك الشاعر منذ وقت مبكر في حياته أنّ أعذب الشعر أصدقه. وليس أكذبه،وخير القريض ما أشعّ به الصدق وتلألأ. فكان عمر بذلك حادي الناس إلى حيث الحقُّ والجمال، ورائدهمالذي لا يكذب أهله. وعمر هو الذي يقول في تضاعيف رثائه أحمد شوقي:




  • أعذبُ الشعر مايشع به الصّد
    قُ وتمشي على خُطاهُ العقول(17)



  • قُ وتمشي على خُطاهُ العقول(17)
    قُ وتمشي على خُطاهُ العقول(17)



تصور أبو ريشةأن الشعر مصدر معرفي، يفيد منه الناس في تبصّر الحقيقة وتبين الصواب، وقد أثر هذا التصور كثيراً في مذهبه الفني، فلا تكاد تجد في شعره إلا مايفيد، فكأنّه يردّد مع نظيريالنيسابوري بيته الذي أعجب به العلامة محمد إقبال، وصدّر به أحد دواوينه:




  • ليس في أعوادِ غابي سَقَط
    هي للمنبرِ أو أعوادُ صلب(18)



  • هي للمنبرِ أو أعوادُ صلب(18)
    هي للمنبرِ أو أعوادُ صلب(18)



ومرجعالتزام عمر في جانب من جوانبه حبٌّ عميق استبد به إزاء بلاده، وتحقّق في مواقفه من الناس حاكمين ومحكومين. وهاهو ذا الشاعر يصرّح بذلك فيقول: ''يربطني بوطني حبّي للأرضورغبة جامحة في مبادلتها عطاء بعطاء، لم أشعر يوماً بأن أرض بلادي مجرّد تراب وحجارة، بل لطالما أحسست أنها كائن حيّ ينبض بالحياة''(19).

عرف عمر مكانة أمته فيالماضي ممّا حفظته ذاكرة التاريخ، ورأى بباصرته مأساتها الحاضرة بكلّ فصولها المعقّدة، وعرف إلى ذلك سلطان الكلمة في إيقاظ النفوس وبعث الهمم وتكوين الرأي العام. وقدمضى به إحساسه القوي بالمجد العربي الإسلامي إلى أن أضفى عليه هالة قدسية، ظلّت تتراءى في كلّ مايبدع من أشعار. ويلحظ متأمل شعره أنه تمثّل هذا المجد في شخصين اثنين: شخصههو، ذلك العربيّ المسلم النبيل المحتد والشاعر العبقري المجود، وشخص أمته العربية الاسلامية، التي تولّت صناعة التاريخ الإنساني في مرحلة زاهية من مراحله . ويلحظ هذاخاصة في قصيدته المسمّاة ''هذه أمتي''، التي ألقاها في حفلة افتتاح دار الكتب الوطنية في حلب بعد العدوان الفرنسي، وخروج الشاعر من السجن، إذ صوّر نفسه مجسداً إرادة المجدالعربي الإسلامي الذي أقسم أن يُلمّ شاعره بالأرض ونجوى الإباء تتدفق على لسانه. ونجوى الإباء هذه عنوان الالتزام عند عمر، والمدخل المفضي إلى عالمه الشعريّ الفتّان.يقول الشاعر:




  • ماصحا بَعدُ من خمار زمانِه
    ما وعى الأمنياتِ إلا طيوفاً
    غمزته عرائسالعيش إغرا
    شاعرٌ لو شكا الحياة لكانت
    أقسم المجد أن يمرَّ على الأر
    ضِ، ونجوى الإباءخلف لسانِه(20)



  • فليُرفِّه بالشّدو عن أشجانِه
    خفقت وانطوت على أجفانِه
    ءً، فلم تستبح حمى عُنفوانِه
    سَـرَواتُ الملوك من نُدمانه
    ضِ، ونجوى الإباءخلف لسانِه(20)
    ضِ، ونجوى الإباءخلف لسانِه(20)



ويعني هذا من وجهة أخرى أن عمر عرف قدر نفسه وقدر فنّه; بما ينطوي عليه هذا الفنّ من قدرة على الإثارة والحضّ والتبصير بمواطن الفضيلةوالخير. واستبان أنّ عقيدته التي حملها بين جنبيه هي عقيدة مجتمعه بكلّ فئاته. ووفاقاً لهذا كلّه تبيّن أنّ كلماته سحر حلال عند جمهوره. ومن ثم نراه يقول في القصيدةالسابقة منبِّهاً على تأثيره في ضمير جمهوره في مدينة حلب:




  • عادَ للدَّوحِ عندليبك يا شعـ
    وتغنّى حنانه فتمشّى
    فاشرأبّت وفي تساؤلها شو
    ق تضيف الأحناءُ عن كتمانِه(21)



  • ـرُ ومات النّعيبُ في غربانه
    في ضميرالشّهباء رجعُ حنانِه
    ق تضيف الأحناءُ عن كتمانِه(21)
    ق تضيف الأحناءُ عن كتمانِه(21)



وإذ وضع عمر هذا كلّه في الحسبان، لم يدع مناسبة تمرّ من دونأن يقول فيها شعراً يؤجِّج الحقد على المستعمرين والمتعاونين معهم ، وينفث في الأرواح عزيمة المؤمنين الصادقين، وينمّي في المجاهدين عقيدة الموت الكريم. وهكذا فقد ''رافقعمر أبو ريشة الأحداث التي عصفت بالأمة العربية منذ الثلاثينيات، فاتحد ضميره بضمير الشعب العربي، وتطلعاته إلى التحرر والوحدة واليقظة القومية، فكان من أبرز شعراءجيله في هذا المضمار، إن لم يكن أبرزهم إطلاقا.. ولا تكاد تخلو قصيدة ألقاها في مناسبة من التفاتات وطنية وقومية، نابعة من رؤيا صافية وحسّ مرهف وإيمان عميق''(22).

ويطالعُك في مواطن كثيرة من ديوان عمر أنه قطع على نفسه عهدا بأن يظلّ لسان أمته المعبِّر عن كلّ هواجسها وهمومها. فكان على الحقيقة الشاعر ذا الرسالة النضالية الفاعلةفي موكب الحياة. وحسب المرء هنا أن يستعيد شيئاً من بيانات عمر التي يحدّد فيها وعيه الدقيق لمهمّة الشاعر في أمة تواجه القوى الغاشمة التي تنشد محوها من الوجود. وكانيدرك أنّ المجد العربي يهتزّ طرباً عندما يبعث شاعره حمماً جهادية لا تبقي ولا تذر:




  • يا عروسَ المجد، حسبي عزةً
    أنا لولاهلما طوّفت في
    ربَّ لحن سال عن قيثارتي
    لبلادي ولروّادِ السَّنا
    كلُّ ما ألهمتني من أدب(23)



  • أن أرى المجد انثنى يعتزُّ بي
    كلّ قفر مترام مُجدبِ
    هزَّ أعطاف الجهاد الأشيب
    كلُّ ما ألهمتني من أدب(23)
    كلُّ ما ألهمتني من أدب(23)



لقد كان دأبه تلك الصرخة العربية القديمة: ''المنيّة ولا الدنيّة''. وكان في غير موطن من ديوانه المطبوع، ومجموعاته الأخرى، يدعو على نفسه بأن لا يمتعه اللّهبنضارة الشباب إن هو استمرأ حياة الصَّغار ، وخفض جناح المذلّة لمن يُغيرون على مجد الأمة. وفي ذكرى المجاهد العربيّ السوري الكبير، إبراهيم هنانو، سنة 1937م، يخاطبهالشاعر قائلا:




  • عفوا أبا الأحرار، كم من زفرة
    فإذا وجمتُ فلستُ أول شاعر
    أنا عندعهدك لا تلين شكيمتي
    لا عشت في زهو الشّباب منعّماً
    إن نال من زهو الشباب العارُ(24)



  • مخنوقة، أخشى الغداةَ تُثارُ
    تَعبتْ وراءَ بنانهِ الأوتارُ
    كلاّ، ولا يُعزى إليَّ عِثارُ
    إن نال من زهو الشباب العارُ(24)
    إن نال من زهو الشباب العارُ(24)



ويلقاك هذا العهد مرةأخرى، عندما يخاطب الشاعر ذكرى ''خالد بن الوليد''، إذ نجده يقول:




  • يا مسجّى في قبّة الخلد ياخا
    لا رعاني الصِّبا إذا عصف البغـْ
    أقسم المجد أن أقطّع أوتا
    ري عليه بأكرم الألحان(25)



  • لِدُ، هل من تلفّت لبياني؟
    ـيُ، وألفى فمي ضريحَ لساني
    ري عليه بأكرم الألحان(25)
    ري عليه بأكرم الألحان(25)



وإذ يبدو عمر صادقاً مع نفسه، فإنه يتراءى صادقاً كلَّالصدق مع جمهوره، ذاك أننا ''حين نقول إن الشاعر صادق مع نفسه فإننا نعبّر بطريقة أخرى عن صدقه معنا. إنّه قد عبّر عمّا كنا نودّ التعبير عنه. وعلى هذا الأساس نقبل قصيدته أونرفضها، نحكم لها، أو نحكم عليها''(26).

وطبيعيّ أن يدرك عمر مغبّة هذا الالتزام ، وهو شاعر المحافل المدوية التي كان يقرأ فيها على وجوه الناس ابتسامات الرضى،وانتفاضات الكبرياء الجريح. وأيقن الشاعر أنّ الجماهير كما يقول الدكتور محمد حسنين هيكل ''ماتزال ترى ثمرات الأقلام منذ آلاف السنين الماضية هي التي تهزّ العالم حتىاليوم هزّاً، وتنشئ فيه إلى اليوم وإلى الأبد ألواناً من الخلق جديدة''(27)، فكان له من ذلك باعث على المضيّ في طريق الالتزام إلى غايته. بل لعلّ المرء لايجد غضاضة حين يقولإن عمر أسس مدرسة شعرية نضالية تخرّج منها الكثيرون. وقد يكون مفيداً في هذا الاتجاه أن نسوق ما يذكره الشاعر الشيخ صقر بن سلطان القاسمي، حاكم إمارة الشارقة السابق ، فيمقدمة ديوانه عن تأثير شعر عمر في اتجاهه الشعريّ: ''أما الشعر فقد بدأت بقوله في الرابعة عشرة من عمري بعد أن ضمّنا ناد لم أعد أذكر مناسبته ألقى فيه الأستاذ عبد الرحمنالباكر القصيدة الخالدة للشاعر الخالد عمر أبي ريشة، والتي مطلعها:




  • يا عيوناً تنامُ ملءَ المحاجر
    شيّعي الحُلم والطيوفَ السَّواحِر



  • شيّعي الحُلم والطيوفَ السَّواحِر
    شيّعي الحُلم والطيوفَ السَّواحِر



وفيهايقول:




  • يصفعُ الذئبُ جبهة اللّيثِ صفعاً
    إن تلاشت أنيابهُ والأظافر



  • إن تلاشت أنيابهُ والأظافر
    إن تلاشت أنيابهُ والأظافر



ورأيت الحقيقة البشعة تتمثّل فيها بأروع صورها، رأيت النقمة تنطلقصرخات مدوية تسكبها العبقرية الشعرية النادرة شعراً ينبض بالعاطفة الصادقة، بل هوالعاطفة بعينها. رأيت الذئب، بل ابن آوى (وليعذرني أستاذي أبو ريشة) يصفع تلك الجبهةالغراء السامقة للّيث بعد أن تخلّى عن أنيابه وأظافره. وسرت في طريق العودة إلى بيتي، والدّم يغلي في عروقي، واندفعت أردّد أبياتاً من عندي بوزن وقافية قصيدة أبي ريشةالخالدة عندما لم أكن أذكر أبياتها، وانطلق قلبي يخفق بأبيات عارضت فيها أنا ابن الرابعة عشرة أبا ريشة دون أن أخجل من محاولة، وإن كانت عفوية لكنها يائسة، لمجاراة شاعردوّى صيته عن جدارة في العالم، وانطلقت أردِّد:




  • يا ابنة الفكر هاتي مافي الضمائر
    أنا ساه في مهمة من خيال
    لا أرى لي فيقَطعِه أيّ ناصر(28)



  • فلقد آن أن تباح السَّرائر
    لا أرى لي فيقَطعِه أيّ ناصر(28)
    لا أرى لي فيقَطعِه أيّ ناصر(28)



وقد سُقنا لك النصّ على طوله، لتتبين أنّ التزام عمر ماكان له أن يكون صيحة في واد، لم يكتب لها البقاء ، بل كان شعره ذلك الغيثالذي أخصب في النفس العربية الإسلامية حبّ الوطن، ورغبة الاستشهاد ابتغاء الحياة الكريمة. ومن هنا كان مثله الأعلى المنشود مقاتلاً لا تلين قناته ولا تعرف المهادنةسبيلا إلى روحه الوثّاب. ومن ثم تراه يخاطب المغفور له الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود منبّهاً على ضرورة بقاء جذوة الجهاد متّقدة في قلوب المسلمين:




  • لم تهادنْولم تزل تتحدّى
    قل لمن شاء راحة في ضفاف النيل
    ليس عاراً إن في النضال عَثَرنا
    إنّما العار في اجتنابالنضال(29)



  • كلَّ باغ أو غادر ختّال
    من بعد وثبة استبسال
    إنّما العار في اجتنابالنضال(29)
    إنّما العار في اجتنابالنضال(29)



وقد سرى هذا الالتزام في تضاعيف شعر عمر،فكان جحيماً يصطلي بها الخونة والمتخاذلون والقاعدون، وسرى في مزاجه الشخصي ومواقفه فكان بأسهشديداً على كلّ من نال من الشخصية العربية الإسلامية، أو سعى إلى صرفها عن وجهتها الصحيحة، حتى لو كان ذلك قلماً مأجوراً أودعيّاً من أدعياء القريض ممن سعوا إلى تشويهصورته العربية المشرقة ابتغاء إفساد ذوق الأمة وتعطيل أداة الحكم الجماليّ لديها . وفي هذا المنحى يقول صديق الشاعر الأستاذ فؤاد الخشن عن صديقه عمر: ''وإنّ سهامه تصوَّبُنحو التافهين المأجورين، بنظره ، للصهيونية العالمية لإفساد الشعر وقتله، وبالتالي إفساد الشعوب وقتلها بتحييدها وتحويرها عن خطوط الصواب لتخلو السّاحة لمسوخِالتلمود''(30).

ثانياً - مكوّنات القوة في الشخصية العربية الإسلامية:

أحسن عقلُ أبي ريشة قراءة التاريخ العربي الإسلامي بوصفه المضطرب الذي جالت فيهالشخصية العربية الإسلامية،وحقّقت فيه حركتها في ميادين العقل والوجدان والفعل الحضاري الإنساني. وليس التاريخ عند عمر أحاديث تروى، بل هو مجلى القوة حين تتحول إلى فعل، والقصد حين يستحيل حركة، والدّين حين يغدو حياة في ظلّ مراد اللّه في الإنسان. أدرك عمر هذا كلّه، وأرهف سمعه لنسغ الحياة الساري في عروق هذه الأمة، فاستبان أن القيمةالحقيقية للفرد تتمثّل في مقدار إفادته لأمته، أما القيمة الحقيقية للجماعة فأن يكون لها موقع مرموق بين مجتمعات الأرض وفقاً لمنهج اللّه سبحانه. وفلسفة عمر في تصورالفرد والجماعة تتلخص في أنه أراد لهما ''الوجود''; فما قيمة ورد لا يُشمّ عبقه، وما وزن غصن لا يُقطف ثمره:




  • ما أحزن الوردَ لم يُعرف له عبقُ
    وأضيعَ الغصنلم يُقطف له ثمرُ(31)



  • وأضيعَ الغصنلم يُقطف له ثمرُ(31)
    وأضيعَ الغصنلم يُقطف له ثمرُ(31)



وفي نطاق الأمة خاصة يتراءى للشاعر منبران يستحقان أن تتبارى الأمم في ميدانيهما: السيفُ، والقلم; أي العبقرية الجهادية، والعبقريةالعلمية; ومن ثم يسائل أمته في مطلع رائعته ''بعد النكبة'':




  • أمتي، هل لك بين الأممِ
    مِنبر للسيّفِ أو للقلمِ



  • مِنبر للسيّفِ أو للقلمِ
    مِنبر للسيّفِ أو للقلمِ



لم يغب عن ذهن عمر أنّ الأمم التيكانت لها سيادة في التاريخ الإنساني حقّقت هذه السيادة بإحدى سبيلين أو بهما معاً: القوة القتالية والقوة العلمية. وقد رمز الشاعر لهاتين القوتين بـ ''السيف '' و''القلم''. ولانخال أنه يغيب عن ذاكرة عمر أنهما ''الرئاستان'' المعروفتان المقصودتان في كلّ من تلقّب بـ ''ذي الرِّياستين'' عند العرب القدماء.

وإذ أحسن عمر قراءة التاريخ، عرفأنه توافرت لأمته في ماضيها الزاهر هاتان القوتان مضافاً إليهما قوة ثالثة، هذّبتهما ووجّهتهما الوجهة الصحيحة ، وهي ''النبوة'' . وابتغاء إيفاء هذا الموضوع حقّه من الدرسنقول إنّ الشاعر تلمّس مكوناتِ القوة في الشخصية العربية الإسلامية في أربعة عناصر:

1- الصحراء وما تجسّده من قيم.

2- النبوّة والحقّ.

3-العبقرية الجهادية.

4- العبقرية البيانية.

وستكون لنا وقفة متأنية عند كل منها، منطلقين دائماً من شعر الشاعر.

1- الصحراء وماتجسّده من قيم

بدا لأبي ريشة أنّ الصحراء العربية، باحتضانها بيت اللّه الحرام وظهور الأنبياء فيها حتى اختتام سلسلتهم الطاهرة بمحمد عليه الصلاة والسلاموبكون أهلِها العرب مدَدَ النَّصرة لدين اللّه سبحانه، ذات أثر واضح المعالم في تكوين الشخصية العربية الإسلامية. ولا شك في أنّ حملَ العرب رسالة الإسلام، ثم نشرها فيأصقاع الأرض بكل ما اكتنف ذلك من عناء، لمدعاة إلى التأمل في إسهام البيئة الصحراوية في هذا الأمر. وقد يشكّ المرء في أشياء كثيرة، لكنه لا ينبغي أن يشك في قوة اعتناقالعرب لدينهم الحنيف، وبلائهم الشديد في نصرته وتوصيله الى أصقاع المعمورة. ويظل تعلق عمر بالصحراء وكثرة ترديد حديثها في شعره من الأمور اللافتة للنظر حقاً.

ويلاحظ المتأمّل أنه يربط دائماً بين الصحراء وبين الإسلام بوصفه أرقى منهج حضاريّ عرفته الأرض. وأياً كانت وجهة الحق، فالصحراء العربية دار النبوّات، ومنطلق الإسلامالذي عمّ أرجاء الأرض نوره من خلال العرب المسلمين الميامين. ويلحّ عمر على أن الصحراء التي حرمت وفرة النبات والخضرة أنبتت المجد المتمثل في العروبة والإسلام. يقول عمرفي مقدمة ملحمة ''محمد '' عليه الصلاة والسلام:




  • أيّ نجوى مخضلَّة النّعماء
    سمعتها قريشُ فانتفضت غضـ
    يا عروسَ الصحراءِ ما نبت المجـ
    كلَّما أغرقت لياليَها في الصّمتِ
    وروتها علىالوجودِ كتاباً
    فأعيدي مجد العروبة واسقي
    قد ترفَّ الحياةُ بعد ذبول
    ويلينُ الزمانُ بعدَجفاءِ(32)



  • ردَّدتها حناجر الصحراءِ
    ـبى وضجَّت مشبوبةَالأهواءِ
    ـدُ على غير راحةِ الصَّحراءِ
    قامت عن نَبأة زهراءِ
    ذا مضاء أو صارماً ذا مضاءِ
    من سناهُ محاجِرَ الغبراءِ
    ويلينُ الزمانُ بعدَجفاءِ(32)
    ويلينُ الزمانُ بعدَجفاءِ(32)



فالصحراء هنا موطن الرسالة الأول الذي ردّد نجوى الإسلام المخضلّة النعماء. وغير خاف أن الشاعر إنما يريد أنه في هذه الصحراء نزل كلامالسماء إلى الأرض، فردّدت أصداءه حناجر الصحراء ليبلغ كلّ مكان. وجليٌّ أنّ الشاعر لا يريد رسالة الإسلام وحدها، بل رسالات الأنبياء جميعاً، فالأنباء الطيبة تنبعث منالصحراء كلّما خيّل أنها غرقت في صمت مطبق . والصحراء عنده راوية النبأ العظيم على مسمع الوجود في صورة الكتاب أو الصارم الماضيين. ويتراءى لنا أنّ الكتاب والصارم رمزانللرأي والعزيمة، أو الحكمة والقوة،أو رأس الإنسان وجسد الأسد في صورة ''أبي الهول'' عند المصريين القدماء. ويرى عمر أنّ الكتاب والصارم،أو نفحات النبي عليه الصلاة والسلاموالفتح ، أحالا الصحراء الضئيلة الحظّ من الماء محيطاً مائجاً. ومثلما ماجت الصحراء بالنفحات النبوية والفتح ماج فيهما افتتان الشاعر; فكان من كل من الصحراء والشاعرغناءُ المجد الذي تردّدت أصداؤه في جنبات الوجود. فالإسلام أولاً وأخيراً منبع الإلهام لكل من الصحراء والشاعر. يقول عمر:




  • نفحات النبيّ والفتحِ والعلـ
    رعشات في أضلعي ماجتِ الصحـ
    صدقَ الحبُّ إنّ موطني الأجـ
    يُنبتُ المجدَ قبل أن ينبتَ الور
    دَ ويُعطي الثمارَ قبلَ الأوانِ(33)



  • ـياءِوالعزّ والندى والبيانِ
    ـراءُ فيها وماجَ فيها افتتاني
    ـردَ روضي وجدولي ودناني
    دَ ويُعطي الثمارَ قبلَ الأوانِ(33)
    دَ ويُعطي الثمارَ قبلَ الأوانِ(33)



وينطلق عمر هنا من الواقعة المعيشية إلى واقعة تخيلية ، عندما يرى أنّالصحراء أنبتت المجد قبل أن تنبت الورد. ويعني هذا بلغة العرفان أنّ الصحراء احتفت بالجلال قبل الجمال، وأنّ الحياة التي تستحق أن تعاش لا تكون إلا محتفية بالجلال قبلالجمال. وحين يتكلّم عمر وفاقاً لهذا المنطلق، لا نراه يجافي منطق القرآن الكريم الذي يربط بين العزة والحكمة في وصف البارئ سبحانه بأنه ''عزيز حكيم''. وينبّه الذكر الحكيمأيضاً على أنّ الإنسان نبات أرضه، إذ يقول سبحانه: (واللّه أنبتكم من الأرض نباتا)(34). وحين يكون البلد طيباً يخرج نباته بإذن ربه، وقد جاء في الذكر الحكيم قوله تعالى:(والبلدُ الطيّب يخرج نباته بإذن ربّه...)(35).

ومهما يكن، فإنّ الصحراء عند عمر منبلج الهدى ومنطلقُ كتائبه في ربوع الأرض، ومربى الصِّيد الذين انطلقوا منصحرائهم يشقّون عن الأرض غياهب الذلّ والمهانة. الصحراء في هذا كله: الهدى والفتح والشجاعة والحرية ومنطلق النور:




  • مِن هنا شقَّ الهدى أكمامهُ
    وأتى الدنيا فرفّت طربا
    وتغنّت بالمروءاتِ التي
    أصيدٌ ضاقت به صحراؤُه
    هبَّ للفتحِ، فأدمى تحتهُ
    وأمانيه انتفاضُ الأرضِ من
    وانطلاقُ النّور حتىيرتوي
    كلُّ جفن بالثّرى مختضِبِ(36)



  • وتهادى موكباً فيموكبِ
    وانتشت من عَبقِه المنسكب
    عرفتها في فتاها العربي
    فأعدّتهُلأفق أرحبِ
    حافرُ المُهر جبين الكوكب
    غيهبِ الذلّ، وذلِّ الغيهبِ
    كلُّ جفن بالثّرى مختضِبِ(36)
    كلُّ جفن بالثّرى مختضِبِ(36)



هام عمر بالصّحراء ، واستيقن أنها مصنع الرّجال الذين لا تلين لهم قناة، وموئل المروءات التي استمد منهاالإنسان معنى وجوده الصحيح. ويحلو لشاعرنا أن يقابل بين الماضي الذي كانت فيه الصحراء مقفرة في عطائها المادّي، خصبة في عطائها المعنويّ، وبين الحاضر الذي استحالت فيهديار العروبة إلى جنان وارفة الظلال ، لكنها افتقرت إلى الرجولة الحقة التي كانت سلاحها الأمضى في مقارعة الأعداء، فيجأر إلى ربه بهذه ''الصلاة'' أن يردّ ديار العروبةالممرعة قفراً تموج فيه كثبان الرّمل إن كان لها أن تعطي ''الرجال'' الحقيقيين:




  • ربِّ طـــوّقتَ مغانينا
    ونثرتَ الخير فيهنَّ
    وتجلّيــت عليهــنّ
    ربِّ هذي جنةُ الدَّنْـ
    كيف نمشي في رباها الـ
    وجراحُ الذلّ نخفيـ
    رُدَّها قفراءَ إن شئـ
    نحن نهواها على الجدْ
    بِ إذاأعطت رجالا(37)



  • جمـــالاً وجـــلالا
    يمينـــاً وشمــــالاً
    صليبـــاً وهِــــلالا
    ـيا عبيراً وظلالا
    ـخضرِ، تيهاً واختيالاً
    ـها عن العزّ احتيالا
    ـتَ، وموّجها رمالا
    بِ إذاأعطت رجالا(37)
    بِ إذاأعطت رجالا(37)



وجملة القول هنا أنّ الصحراء عنت عند أبي ريشة ذلك المجد العربي بكل مجاليه: مهبط الوحي، ودار النبوات، ومربع الميامين الذين اختارواأن يكونوا سدنة الهدي الإلهيّ، وحملة النور إلى بني الإنسان أنّى كانت أوطانهم.



1- قسم اللغة العربية - جامعة الإمارات العربيةالمتحدة.

2- أنظرسامي الكيالي: الأدب العربي المعاصر في سوريا ، ص 370.

3- د. سامي الدهان: الشعراء الأعلام في سوريا، ص 350.

4- المصدر السابق، ص 308 .

5- المصدر نفسه، ص 348.

6- ديوان عمر أبو ريشة، ص 464.

7- الشعراء الأعلام في سوريا، ص 316.

8- ديوان عمر أبي ريشة، ص 541.

9- أنظر مقال الدكتور شاكرمصطفى بعنوان: ''الشعر في سوريا'' في مجلة الآداب البيروتية، ص 123، عدد كانون الثاني، 1955م.

10- الشعراء الأعلام في سوريا، ص 333 .

11- ديوان عمر أبي ريشة، ص 549.

12- عمر أبي ريشة: مجموعة شعرية بعنوان ''أمرك ياربّ''، ص 33 .

13- ديوان عمر أبي ريشة، ص 539.

14- هو الاستاذ الجليل الدكتور شوقي ضيف، انظر: دراسات في الشعرالعربي المعاصر ، ص 235.

15- د. جميل علوش: عمر أبي ريشة - حياته وشعره مع نصوص مختارة، ص 59، عن: مجلة الأسبوع العربي، العدد 1221 ، 7 / آذار، 1983م، ص 44.

16- ديوان عمرأبي ريشة، ص 7 - 8 .

17- أنظر بشأن أبيات الرثاء التي اقتطعنا منها هذا البيت: الشعراء الأعلام في سوريا، ص329.

18- محمد إقبال: ديوان الأسرار والرموز، ترجمة د.عبد الوهاب عزام، ص 5 .

19- مجلة الاسبوع العربي، العدد 1229، 2 / أيار، 1983م، ص 44 .

20- ديوان عمر أبي ريشة، ص 516 - 517.

21- المصدر السابق، ص 519 .

22- منمقال للأديب سليم نكد تحت عنوان ''عمر أبي ريشة صرح هوى وأمل انطفأ'' في مجلة الأسبوع العربي، العدد 1606، 23/ تموز 1990م، ص 44 - 45 .

23- ديوان عمر أبي ريشة، ص 448 .

24-المصدر السابق، ص 560 - 561 .

25- المصدر نفسه، ص 548.

26- د. عز الدين اسماعيل: الشعر العربي في إطار العصر الثوري، ص 23.

27- د. محمد حسنين هيكل: ثورة الأدب، ص18 .

28- مقدمة ديوان صقر بن سلطان القاسمي، ص 47 - 48 .

29- أمرك يارب ، ص 57.

30- انظر: مجلة المنتدى الإماراتية، ملفّ الشاعر عمر أبي ريشة، العدد 272، يوليو1989م، ص 29، من مقال للكاتب بعنوان ''أشياء من دفاتر الذكرى''.

31- ديوان عمر أبو ريشة، ص 227.

32- المصدر السابق، الصفحات 494 - 515.

33- المصدر نفسه، ص 539 - 540.

34- نوح / 17 .

35- الأعراف / 58 .

36- المصدر نفسه، 438 - 439 .

37- المصدر نفسه، ص 12 - 13 .


/ 1