بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الأعلى، معلنة بداية طقوس الباشا، وعاداته التي مارسها على مدى عقود من الزمن الألاّق. -هل يحتاج مولاي شيئاً آخر؟. -لا. قال جازماً، وأطبق أجفانه، واندفعت سورة الماء، تمتزج بسورة الروح، وارتعشت الدنادش بخفوت جنائزي، واندفع الدخان من أنفه خيوطاً من الحرير الرقيق، يعبث بها الهواء. -يظل الباشا صلباً وعصياً على الانكسار، والرهان على هزيمته خاسراً. قال كاتم سره وخازنه المخلص إسماعيل، وهو ينظم صناديقه، وأوراقه الخاصة، وينتظر الانتهاء من ذلك، ليأوي إلى فراشه، فالرحلة متعبة لرجل عجوز في مثل سنه، والطبيعة قاسية لا ترحم من عاشوا حياة الرخاء والترف في قصور الولايات الأخرى. وتابع الباشا نفث الدخان بلذة. وحين لمست أصابعه خشب الكرسي الجالس عليه، اهتزّ، هذا الكرسي أوصى بصناعته نجاراً رومياً في بيروت، ثم كفته بالفضة، والصدف، وزينه بشعار لا غالب إلا الله فكان كلما لمسه، سرت إلى جسده عزة السلطان، وسطوة الملك، فناس مخموراً، نشوان بمجد صنعه بزنده وخنجره الذي لا يخون، ولأول مرة اليوم، يدهمه شعور مترمّد وهو يجلس عليه، يفسد عليه لحظات راحته، فعاد إلى نفث الدخان، وكأنه يهرب من شبح خفي وتمتم:-وحده السنديان لا ينحني. وحمحم حصانه الأصيل، فضاع صوته في ذلك الحماد الممتد، وتحركت الأراول وبنات آوى وطيور الرخم اللابدة، والأرانب القلقة، تحركت الريح، وجاء الخادم بالجمر، فراقب الباشا أصابعه لأول مرة، وهي تعالج الجمر بالملقط، والرماد يتطاير عباءة للزهو العاري وأعراس الهباء. كل شيء راكد ركود بركة من الرمل الهاجع. وأنفاس الرجال تتصاعد، هذا القلق لا يعرفون من أين يأتي؟! أهو المكان أم شيء آخر خالط أرواحهم؟! لا جواب على ذلك، لكن الخلاص جاءهم:-الله أكبر الله أكبر علا صوت سهف المجذوب ندياً، عذباً، يقيم الصلاة، ففاءت نفوسهم إلى أمان مفترض، ولكنه حقيقي مثل العصب والدم، واصطف رجال الحاشية جميعاً وراءه لأداء الصلاة، والباشا يتابع التدخين، وكأن العالم لا يعنيه. -كان لا بدّ من الشيخ المجذوب. أقرّ بذلك، وكان زوج الماعز الشامي الأحمر، يتجول بين الخيام بحثاً عن العشب الرعوي والأغصان الطرية، برغم زحف الظلام، وعيون السماء التي تفتحت كعباد الشمس، في القبة الصافية. . ليلاً قاد الخادم الشموع. فضاء الصيوان، واتكأ الباشا على وسادة وثيرة متربصاً مثل أسد بابلي، وقد استبدل ثياب السفر بثياب جديدة للراحة، كي لا يبدو ضعيفاً أمام ثعالب الحاشية وداخل الصيوان، يزهو بأناقة ومهابة لائقة، بطنافسه الأرمنية، وسجاده العجمي، وأكوابه الذهبية، ومجامر البخور التي صاغها أعظم صاغة الأستانة، ولا مثيل لها إلا في قصور الخلفاء من آل عثمان. -هل يأذن مولاي بالعشاء والسماع؟ سأل الخادم بتهذيب فردّ:-لا بأس. ومُدّت المائدة للباشا. وجاء غلامه رشيقاً وسيماً يحمل عوده، ومن ورائه الجارية الفارسية الحسناء، تحمل الرقّ وتغني أشعار الخيام والشيرازي بلغتها، فتحرك الحجر القاسي، فلقد دفع ثمناً باهظاً للحصول عليهما من تاجر يهودي في حلب، مهمته تخريج القيان، ولحلب أذن في الموسيقا لا تخطئ. -مولاي وانحنى الاثنان أمامه. . خارج الصيوان انصرف رجال الحاشية إلى ترتيب ما تبقى من شؤونهم، وإعداد وسائل الراحة في مهاجعهم، بعد المشاق التي عانوها في الطريق، هذا الطريق الذي اختاره الباشا عن قصد، وما يختاره الباشا لا يناقش. -في هذه البرية لا صوت يعلو على صوت العدم والموت. قال إسماعيل الخازن، يخاطب كائناً غير موجود. ثم تابع:-هنا حيث الخلاء لا سلطان، لا شريعة، لا قانون، لا قوة إلا قوة الأرواح. واندس في فراشه، هو الرجل عاشر الباشا طويلاً، وعرف كثيراً من خفاياه وأسراره وطباعه، لذا فهو يقدّر مزاياه وقدراته في القضاء على أعدائه، والإجهاز على خصومه، أما حربه الجديدة، فهي من نوع لم يجربه أحد من قبله، حرب عبثية. وفي الخيمة المجاورة، جلس الشيخ المجذوب