تأملات في خط التقريب والوحدة
سماحة السيد محمّد حسين فضل الله هدف التقريب في حركة التقريب :
لماذا التقريب في حركة التقريب بين المذاهب الإسلاميّة؟ هل هو عنوان ثقافي للوصول من خلاله إلى التبادل الفكري العلمي بين المسلمين ليعرف كلّ فريق فكرالفريق الآخر ولتتحقق بذلك النتائج النفسية في نظر كلّ واحد منهما إلى الآخر في الحكم بإسلامه من خلال ارتكاز النظرية الكلامية والفقهية على قاعدة إسلامية قد تخطئ أوتصيب ، ولكنها لا تبتعد عن المنهج الإسلامي في الاجتهاد مما يجعل المجتهد المسلم معذوراً فيما أخطأ فيه في حيال حسن الظن به من قبل الآخر على أساس حركة الحجة في كلامه ممايوحي بأنه لا ينطلق من خلال هوى النفس أو التعصب للمذهب ، بل ينطلق من الإخلاص في الوصول إلى الحقيقة.
وهذا هو كلّ شيءٍ في المسألة ، باعتبار : أنّ المشكلة التيكانت مطروحة هي : جهل المسلمين ببعضهم فيما يملكون من الرأي ، أو يأخذون به من المذهب ، وفقدان الوضوح في الرؤية في القاعدة الاجتهادية التي ينطلق منها هذا أو ذاك ؛ ليكونالحكم
المتبادل بينهم هو التكفير والتفسيق ونحو ذلك ، الأمر الذي يجعل الاختلاف المذهبي في الوعي الإسلامي العام يساوي الاختلاف الديني ، بل قد يكون أخطرتأثيراً على الواقع الإسلامي ؛ لأنه يدخل ـ في الوجدان العام ـ في دائرة تخريب الإسلام من الداخل تماماً كما هو 'السم في الدسم' مما يشكل خطورة على صفاء الإسلام ونقائه ،وتكون النتيجة هي : المزيد من التمزق والانحلال والانطلاق في متاهات الجهل والتخلف الفكري والاجتماعي والسياسي.
أو أنّ التقريب حركة فكرية تنطلق من العنوانالثقافي من أجل إثارة علامات الاستفهام التي يطرحها فكر المسلم الآخر لدى صاحبه ؛ ليجد فيها وجهة نظر تثير التفكير في الجانب الآخر من الفكرة ؛ لتدفع إلى الحوار الذييوضح الموقف ويبلور الرأي ويتجه بالرسالة المختلف عليها إلى المزيد من الوضوح لدى كلّ واحد من المذهبين في أسلوب علمي من التفاهم الفكري والانفتاح العلمي؛ لتكونالنتيجة : التحرك من خلال المنطق الفكري نحو تقريب الأفكار بالتنازل عن الكثير من الهوامش المحيطة بالموقف والزوائد البعيدة عن الموضوع ؛ ليقف الجميع وجهاًُ لوجهٍ أمامالعناصر الأساسية للعقيدة أو للشريعة أو الخط الفكري أو الفقهي الممتد في خطوط الكتاب والسنة ، فتضيق بذلك مساحة الخلاف ، وتنفتح عناصر الوحدة الفكرية العقيديةوالفقهية في ساحة الحوار ، فيأخذ بها الجميع ؛ ليكون الرأي واحداً فيما يختلفون فيه ما دامت الحقيقة هي رائد الجميع؟
وبذلك يكون الهدف الأسمى من التقريب هو :الوصول إلى قاعدة الوحدة ؛ لأن استمرار الخلاف بين المسلمين يحرك التعقيدات الذاتية والموضوعية في عملية إثارةٍ دائمةٍ تقود الجميع إلى الموقف الحاد الملتهب بالمزيد منالحساسيات الحادة والمشاعر المتوترة التي تجعل الوجدان في حالة دخانية تمتد إلى أكثر من موقع في الساحة؛ لتثير أكثر من مشكلة ، وتحرك أكثر من فتنة على مستوى الواقعالإسلامي كله.
حركة الفكر وعقلانية التحرك:
إننا نتصور القيمة الإسلاميّة في حركة التقريب هي : في اعتبارها الطريق العقلاني القويم في الوصولإلى الوحدة بين المسلمين في تركيزها الخلاف على قاعدة من التفكير المنفتح على أكثر من موقع للمذهبية ، وتحويل المذهبية الطائفية التي تختنق في داخل مشاعرها المتوترةوأفكارها الضيقة إلى مذهبية فكرية واعية تنفتح على الفكر الآخر في المذهب الآخر ؛ ليقف أصحاب المذاهب المتنوعة في إخلاصهم لمذاهبهم في خط الالتزام الذي يحول الفكرة إلىحالة وعي في الموقف ، بدلا من أنّ تكون حالة عقدة في الذات ، لا في خط العصب الذي يختنق فيه الانتماء في الداخل فلا يتنفس أجواء الفكر. إننا لا نزال في مواقفناالجامدة التي يتعقد فيها كلّ مجتمع مذهبي من أي شخص يحاول تفسير مذهب فرد من أفراده للانتقال إلى المذهب الآخر كما لو كان مماثلاً لتغيير دينه .. وهكذا تكون النتيجة :المزيد من القسوة في الموقف السلبي للشخص الذي يخضع لهذا التغيير في ذاته . فنلاحظ في هذا الجو : أنّ المسلمين السنة يواجهون الناشطين في خط الوحدة الإسلاميّة من الشيعةبأنهم يريدون إدخال السنة في التشيع ، كما أنّ المسلمين الشيعة يتخذون الموقف نفسه من السائرين في هذا الاتجاه ـ الوحدة ـ من أهل السنة بأنهم يريدون إدخال الشيعة فيدائرة التسنن ، مما يعني : أنّ التشيع والتسنن قد تحولا إلى حالتين في التنظيم الاجتماعي الطائفي ، بدلاً من أنّ تكون حالتين فكريتين في فهم الإسلام .
وربما نجدالنظرة السلبية ذاتها ، فما يمكن أنّ يلتزمه العالم الشيعي لبعض الآراء الشيعية في الفقه أو الكلام في المجتمع العلمي الشيعي ، فيما يمكن أنّ يلتزمه عالم سني لبعضالآراء الشيعية في المجتمع العلمي السني كما لو كان ذلك يمثل حالة انحرافية في المذهب ؛ لأنه تحول إلى حالة محنطة لا حركية فيها ولا حيوية في عالم التغيير الفكري ، فلاينظر إلى ما يملكه من الحجة على رأيه الجديد ؛ لأن الجميع
يختزنون في داخلهم معية المذهب في اجتهاده ، مع العلم أنّ أية حالة اجتهادية في أي مضمون فكريفي أي جانب من جوانب الخلاف الكلامي والفقهي لابد أنّ تكون خاضعة للجدل الدائم ؛ باعتبار أنها قابلة لاحتمالات الخطأ والصواب بحسب طبيعتها الذاتية أو الموضوعية . وفيضوء ذلك فإن حركة التقريب لم تنجح في تغيير ملامح الشخصية المذهبية المتحجرة في الأسوار التي يضعها المجتمع في الدائرة الخاصة في داخل هذا المذهب أو ذاك ، في الوقت الذياستطاعت أنّ تنجح في تحطيم الجمود النفسي في انفتاح البحث على المذهب الآخر في الأسلوب المتعارف في الكلام والأصول والفقه وفي تفسير القرآن ، فنحن نرى أنّ المنهجالعلمي الإسلامي بدأ يأخذ الاتجاه الموضوعي في دراسة المذاهب التنوعة ، بفعل أجواء التقريب التي أعطت الواقع الإسلامي الثقافي مناخاً جديداً في الواقع النفسيوالاجتهادي ، كما أنّ المناهج الحديثة للبحث قد ساعدت على ذلك ، فقد انطلقت المناهج السليمة المرتكزة على الطريقة الموضوعية في البحث في مختلف فنون العلم ، بحيث أصبحالمنهاج الذاتي يمثل عملاً غير علمي في حركة النقد العلمي.
وإذا كنا نتحدث عن التحجر في الشخصية المذهبية لعلماء المذاهب ومثقفيهم فإننا نتحدث عن المسألة في حجمالظاهرة الاجتماعية العامة ، لكننا لا ننكر وجود أفراد هنا وهناك ممن يملكون حرية الفكر وعقلانية البحث ، ومسؤولية الموقف في الانتماء الذي لا يعيشه الإنسان كحالة ذاتيةجامدة ، بل يعيشه كحالة فكرية متحركة صالحة للتفسير ؛ لأن المناخ العلمي العام قد استطاع أنّ يلعب دوراً فاعلاً في هذا الاتجاه، بالإضافة إلى مناخ التقريب كما ألمحناإلى ذلك آنفاً .
توسيع حركة العلم وفق الأدلة الشرعية:
إننا نحاول ـ في هذه التأملات السريعة ـ أنّ نشير إلى نقطة حيوية جداً ، وهي : أنّ التقريب قداستطاع أنّ ينجح في إيجاد نوع من التفاهم على أساس عرض المذاهب المختلفة في الأبحاث الكلامية والفقهية ، ولكن الموقف لا يزال في غالب منهجه يتحرك في الدائرةالمذهبية الضيقة ، فهناك فقه سني متميز في أصوله وفروعه وأسلوبه ، وهناك فقه شيعي منفتح على القواعد الاجتهادية الشيعية في الأصول والفروع والمنهج ، الأمر الذي يؤكدالفواصل بين المذهبين في المضمون والشكل بحيث يؤدي إلى منهج نفسي يوحي بالانفصال الحاد في الذهنية المذهبية بالطريقة التي تمنع اللقاء .
إنّ رسالة التقريب فيخط الوحدة ـ فيما نتصور ـ هي : في إيجاد فقه مختلط يؤكد فيه الفقهاء من هنا وهناك بالبحث الأصولي الذي يرتكز عليه الاجتهاد على الأسس المشتركة التي يتفق عليها الجميع فيقواعد الأدلة ومصادر الشريعة بحيث ينطلق الحديث فيه بالأسلوب الإسلامي الذي يستنطق هذا المصدر أو ذاك المصدر من دون عقدة ذاتية أوصفة مذهبية.
فإذا انطلقنا منكتاب الله ـ كمصدر أساسي للتشريع ـ فإن علينا أنّ ندرسه في نصوصه وظواهره ، ومحكمه ومتشابهة ، وعمومه وخصوصه ، وإطلاقه وتقييده ، وناسخه ومنسوخه بالذهنية العلميةالمجردة الخاضعة للفهم العام الشامل الذي يستنطق كلّ المذاهب كوجهات نظر متنوعة في المسألة الأصولية بعيداً عن حساسية الخصوصية التي قد تثير التعصب لهذا الدليل أو ذاكباعتبار أنّه مرتبط بهذا المذهب أو ذاك ؛ لأن علماء المذهب يؤكدونه ، فلابد من الدفاع عنه بأي وجه كان ، أو لأن قواعد المذهب تتبناه ، فلابد من إتمامه بأية طريقة كانت ممايبعد البحث العلمي عن الموضوعية ويدفع بالنتائج بعيداً عن التوازن.
ولنقدم القياس كنموذج لهذا المنهج ، فإن الفقهاء الّذين قبلوه والذين رفضوه لم ينطلقوا فيهذا الرأي أو ذاك من منطق مذهبي حاد في المسألة الذاتية ، بل انطلقوا في الرفض في دائرة التنوع المذهبي ، فهناك الرافضون له من أهل السنة : كأتباع المذهب الظاهري إلى جانبالرافض له من جمهور الشيعة ، كما أنّ القبول به يلتقي
برأي بعض علماء الشيعة : كابن الجنيد مع جمهور أهل السنة ، مما يجعل المسألة بعيدة عن الحدّة في الخط الحاسمفي هذا الجانب أو ذاك.
فإذا وقفنا مع الأدلة التي يقدمها هذا الفريق أو ذاك على صحة مذهبه فإننا نجد حركة المنهج هنا وهناك تتجه نحو استنطاق المصادر العامةللتشريع من دون خصوصية ذاتية ، فيمكننا في هذا الجو من إثارة النقد العلمي للاستدلال بهذا المصدر على الإثبات أو النفي بطريقة عامة مجردة كما لو لم تكن المسألة في ذاتهامتصلة بالخلاف المذهبي الحاد ، فإن قضية دلالة هذه الآية أو تلك على حجية القياس أو عدم حجيته ليست مسألة ذات علاقة بالمذهب في أصوله الفكرية ، بل هي مسألة تفصيلية في فهمالقرآن في ظواهره اللفظية من خلال قواعد اللغة العربية في استفادة المعنى من اللفظ بعيداً عن أية خلفية ذهنية سابقة . وهكذا نلتقي بالسنة التي اعتمدها مثبتو القياس دليلا، فإن من الممكن الاتفاق على قاعدة النقد ؛ للنص الوارد في نطاق السنة في خط المنهج في محاكمة السند من أجل توثيق الحديث ليكون حجة على السنة ، واستنطاق المتن من أجلاستظهار المعنى منه ، الأمر الذي يقف فيه الجميع أمام الدليل المطروح في موقع واحد باعتبار توفر عناصر النفي والإثبات في مواجهة الفكرة لدى الطرفين . وإذا كان العقل هوالأساس في المسألة فإن الأسس العقلية لا تختلف بين مذهب وآخر في إدراكات الناس لها في مقاييس الصحة والفساد.
وقد لاحظنا أنّ المسألة التي أخذت البعد الواسع منالجدال في القياس هي في مدى حجية استنباط العلة الظنية التي هي الأساس في انتقال الحكم من الأصل إلى الفرع ؛ لأن العلة المنصوصة أو القطعية ناقلة للحكم بالاتفاق ، ولذلككانت الخلافات تتركز حول الدليل على حجية هذا الظن ؛ لأن الظن لا يملك في ذاته العنصر الذاتي للحجية ، مما يفرض على الباحث البحث عن حجته من دليل خارج ؛ لينقل الحديث عنطبيعة هذا الدليل ومدى قيمته في الدليلية الحاسمة .
حتّى أنّ الشيعة الّذين ينقلون الحديث السلبي حول القياس عن أئمة أهل
البيت ـ عليهم السلام ـ الّذينهم المعصومون عندهم في الكلمة المأثورة عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ قوله لأبان بن تغلب : يا أبان انك أخذتني بالقياس والسنة إذا قيست محق الدين (1) فإنهم ـ في الوقتالذي يرون فيه الحجية الحاسمة لما يرد عنهم ـ يفهمون من كلمات الأئمة القاعدة الأصولية التي تنطلق من عدم وجود أساس للقياس من خلال فقدان العنصر القطعي في اكتشاف العلةالمشتركة ، وذلك هو ما جاء في الحديث عنهم (إنّ دين الله لا يصاب بالمقاييس) (2) فلم يفهموا من أحاديثهم الجانب التعبدي ، بل الجانب التحليلي ، مما يترك مجالا للجدل المتحركفي الساحة العلمية.
المنهج الموضوعي في الحجية :
وقد تكون القضية الحاسمة في تقريب الأساس الأصولي الذي ترتكز عليه حركة الاجتهاد الفقهي هي : فيالتوافق على الوصول إلى رأي مشترك أو متقارب حول الكتاب والسنة من حيث الخطوط العامة لاستنباط الحكم الشرعي من القرآن ، وتوثيق النص الوارد في السنة على صعيد خبر الواحد، فإن ذلك يجعلنا نواجه القاعدة الاجتهادية من موقع واحد ، بحيث يكون الخلاف ـ لو حدث ـ على طريقة الخلاف بين أتباع المذهب الواحد عندما يختلفون في ظهور الآية في هذاالحكم أو عدم ظهورها ، أو في كونها منسوخة أو غير منسوخة ، أو في إمكانية الخروج عن الظاهر القرآني بالنص الحديثي في دائرة العموم والخصوص ، والإطلاق والتقييد ، والحقيقةوالمجاز ؛ لأن الجميع متفقون على البعد عن مخالفة كتاب الله ، فما خالف كتاب الله فهو زخرف ، ولكن المسألة هي : ما هي طبيعة هذه المخالفة للكتاب ؟ فهل الخاص الحديثي مخالفللعام القرآني أم لا ؟ ولم تكن السنة في أي حال من الأحوال موضع جدل في حجيتها ، ولكن الجدل كان في حجية الطريق إليها ، ويتركز البحث بينهم في خبر الواحد هل هو حجةام لا ؟ وما هي شروط حجيته ؟ فهل العدالة شرط فيه ليكون الفسق العلمي عنصراً سلبياً في الحجية ، أم أنّ الوثاقة كافية في المخبر ، أو أنها كافية في الخبر من حيث العناصرالداخلية والخارجية التي توحي بالوثاقة .
إنّ الإجابة عن هذه التساؤلات حول مسألة حجية خبر الواحد قد تحدد لنا الخط العريض للاجتهاد في نطاق السنة الشريفة ،فإذا عرفنا أنّ الأكثرية هنا وهناك تكتفي بالوثاقة في المخبر أو في الخبر ولا تجعل العدالة شرطاً فإن النتيجة هي : أنّ من الممكن للمجتهد الشيعي أنّ يأخذ بخبر الثقةالسني ، كما أنّ من الممكن للمجتهد السني أنّ يلتزم بخبر الثقة الشيعي ؛ لأن مسالة المذهبية لا ترتبط بالوثاقة ، بل ترتبط بالعدالة .
وتبقى المسألة في إيجادالأساس التوثيق هنا وهناك في شهادة العلماء بذلك ، أو في دراسة تاريخ هذا الراوي أو ذاك ، مما يمكن أنّ نتفق فيه على خطوط معينة في الجانب التطبيقي ، باعتبار أنّ الوثاقةأمر عقلاني لا تعبدي ، فيمكن الرجوع إلى السيرة العقلائية ، أو بناء العقلاء في تحديد الأسس الواقعية للوثاقة في الخبر أو المخبر مما يتعارف السير عليه في حياة الناسالعامة والخاصة ، وبذلك يمكن أنّ يدخل الباحث الشيعي في حوار مع الباحث السني حول أخذ رواة أهل السنة في ميزان الوثاقة . كما يمكن للباحث السني ممارسة ذلك في رواة الشيعةبحيث لا يتوقف هذا أو ذاك عند الخصوصية السنية أو الشيعية في حساسية الرأي ، بل ينطلقان مع المنهج الموضوعي في التوثيق ، وربما كان هذا النهج أقرب السبل للوصول إلى الخطالمشترك في الموضوع . وفي ضوء ذلك يمكن أنّ تكون المصادر الحديثية لأهل السنة أو الشيعة مصادر للشيعة أو السنة في عملية الاستنباط ولو بشكل جزئي من خلال الأخبار التييرويها الثقاة هنا وهناك.
المذهبية ليست الأساس في حركة المذهب:
وهناك نقطة مهمة أخرى وهي : أنّ المسألة المذهبية ليست شأناً داخلياً لأتباعهذا المذهب أو ذاك ، بحيث يختص أصحابه بالبحث في قضاياه الفكرية العقيدية ، أو القانونية الفقهية ، فلا تسمح للتابعين لمذهب آخر أنّ يبحثوها بطريقتهم الخاصة، باعتبارأنّ ذلك لا يدخل في اختصاصهم العلمي . إنّ المذهبية في الدائرة الإسلاميّة تمثل وجهة نظر خاصة في فهم الإسلام في دائرته العقيدية والعملية من خلال الاجتهاداتالخاضعة لأصول علمية مفتوحة مشتركة بين العلماء المتخصصين في الكلام والفقه.
وقد تكون قيمة البحث المذهبي المتبادل المفتوح : أنّه يحرر الباحثين من الاستغراقفي الذات المذهبية التي تخضع للرغبة الدائمة في تبرير مذهبها والتنديد بالمذهب الآخر من ناحية ذاتية من دون اعتبار للحياد العلمي ، بينما يتحرك المنهج المنفتح لمواجهةالقضية في البحث كقضية إسلامية موضوعية في عناصرها الحية التي تتجاوز الخصوصيات إلى الخط العام للحقيقة الحاسمة ، وبذلك نصل إلى الفقه الإسلامي الواسع الشامل الذي لايلتزم في أبحاثه إلاّ الخصوصية الإسلاميّة في طبيعتها ومصدرها ؛ لتكون المذهبية هنا وهناك قولاً من الأقوال ، وتفصيلاً من التفصيل ، ولتكون صفة العلماء في الدائرةالإسلاميّة من خلال عنوانهم الإسلامي كعلماء مسلمين ، لا في الدائرة المذهبية كعلماء سنة أو كعلماء شعية ، الأمر الذي يتجاوز روح التقريب إلى روح الوحدة من خلال الجانبالإيحائي الذي يتحول إلى جانب موضوعي شامل.
واقعية العالم في حركة التقريب:
وقد يكون من الضروري للعاملين في التقريب أنّ يتحركوا في إيجادواقع تقريبي على الصعيد الشعبي ، فلا تقتصر حركة التقريب على النخبة المثقفة من العلماء المسلمين الّذين يراد لهم الانفتاح على وجهات النظر المختلفة بينالمسلمين فكرة ومنهجاً ودليلاً ، بل يمتد إلى الواقع الإسلامي الاجتماعي العام في الخطاب التربوي والوعظي والتوجيهي ، بحيث تنطلق مفرداته في تحريك العناوين المشتركةبين المسلمين في العبادات والمعاملات والعلاقات ، وفي خطوط العقيدة وحركة المنهج إلى جانب العناوين المذهبية الخاصة ليتعرف الناس على عمق الصفة الإسلاميّة الجامعةبينهم في خطوطها العامة ، قبل أنّ يتعرفوا على ملامح الصفة المذهبية ؛ لأن فائدة هذا الأسلوب أنّه يثقف الناس بأن التنوع لا ينافي الوحدة ، وأن الوحدة في القاعدةالفكرية لا تتنكر للتنوع في التفاصيل ، وليتعلم هؤلاء كيف يتقبلون الموعظة العامة من الشخصية المنتمية إلى هذا المذهب ، ومن الشخصية الأخرى المنتمية إلى المذهب الآخر ،من دون تعقيد نفسي ، كما ينفتحون على إيجابيات هذا الفريق وذاك الفريق ، فإن الموقف الرافض للشرعية في موقع هذه الجهة لا يمنع من الانفتاح عليها بطريقة منفتحة بما يتصلبالمواعظ المشتركة ، والأخلاق القويمة العامة ن والمواقف الصحيحة ولو بشكل جزئي.
إننا نلاحظ أنّ هناك خطة تجهيلية في التربية المذهبية الإسلاميّة تخطط لإبعادالمسلمين عن بعضهم بالتأكيد على موقع الخلاف بدلاً من مواقع الوفاق ، وبالتركيز على السلبيات بشكل مطلق في تقديم صورة الفريق الآخر بطريقة مشوهة، مع التركيز علىالإيجابيات المطلقة في تقديم صورة الفريق الملائم بطريقة محببة ، وتمنع الأحاديث التي تفتح الوعي المتوازن على الآخر ، الأمر الذي أدى إلى أنّ لا يعرف المجتمع السنيإلاّ القليل عن الشيعة ، كما لا يعرف المجتمع الشيعي إلاّ القليل عن السنة ، مما يفتح المجال للخرافات التصورية أنّ تنفذ إلى الوجدان الشعبي في نظرته إلى خط التسنن أوالتشيع بطريقة منحرفة ، وتدفع باتهامات التكفير والضلال التي تحركها الاتجاهات المتعصبة أو المتخلفة ، أو الأجهزة المخابراتية الكافرة والمستكبرة والضالة ، من دون أنّ تجد أية ردة فعل ضد هذا الأسلوب العدواني .
إنّ الثقافة التقريبية الوحدوية لابد أنّ تتحول إلى ثقافة شعبية عامة فاعلة في الوجدان الوحدوي العام ، كما لابد منالاشتراك في الممارسات العبادية على مستوى صلاة الجمعة والجماعة ، وفي المعاملات والعلاقات على صعيد الواقع القانوني الشرعي ؛ لأن ذلك كفيل بتقريب المواقف وتعديلالاتجاهات.
وإننا نتصور أنّ المجتمعات المختلطة التي تتنوع فيها الأفكار والمذاهب سوف تفسح المجال للكثير من توضيح الصورة وتبديل الأوضاع ، وتحريك الكثير منعلامات الاستفهام في اتجاه الرغبة في الوصول إلى أجوبة محددة حاسمة ، مما يجعل القضية منفتحة على التعاون في الحصول على مواقع جديدة في ساحة التقرب والوحدة .
وقد نحتاج إلى التأكيد على هذه النقطة عندما نلاحظ أنّ هناك خطة مدروسة للاستكبار والكفر العالميين من أجل المزيد من التعقيد في علاقات المسلمين ببعضهم البعض ، وإبعادالمواقف المشتركة عن واقعهم الفكري والسياسي والأمني والاجتماعي ، وتحويل الخصوصيات المذهبية ـ في صورتها المشوشة الضبابية ـ إلى حواجز نفسية واجتماعية مانعة مناللقاء على أساس الخط الإسلامي العام.
إننا نلاحظ أنّ الوحدة الإسلاميّة من الممنوعات السياسية لدى الاستكبار العالمي ، وأن التقارب بين المسلمين يمثل خطأأحمر في السياسة الدولية السائرة نحو إسقاط مصالح المسلمين لحساب مصالح الدول الكبرى المستكبرة ، الأمر الذي يجعل التقريب والوحدة عنوانين كبيرين في ساحة الصراعالسياسي في مواجهة الاستكبار العالمي الشيطاني .
وفي ضوء ذلك لابد لنا من العمل على أنّ يكون هناك تكامل في الصورة فيما يحمله كلّ مسلم من الصورة عن المسلم الآخر؛ لتجتمع لديه كلّ ملامحها السلبية والإيجابية ، فإن ذلك هو الذي يقرب الأفكار ، ويفتح القلوب ، ويوحّد المواقف ، ويدفع الجميع نحو اللقاء على الإسلام كله من موقع الوعيلك الخصوصيات الداخلية والخارجية ، ويوحي بالحوار الإيجابي من خلال علامات الاستفهام التي قد تثيرها بعض
المعلومات في بعض الملامح ، فيكون ذلك كله أساساًفكرياً وعملياً وروحياً لأصالة الانتماء الإسلامي في شخصية الإنسان المسلم بكل شموليةٍ وانفتاح.
إنّ مشكلتنا في الواقع الإسلامي ـ على مدى العصور ـ هي : في عدموضوح الصورة من جهة ، وتشويه بعض ملامحها من جهة أخرى ، مما قد يخيل فيه ان الكافر أقرب إلى هذا المسلم من المسلم الآخر ، على طريقة اليهود الّذين كانوا يتحدثون عنالمشركين فيقولون عنهم : (هؤلاء أهدى من الّذين آمنوا سبيلاً( (3) ، انطلاقاً من الحقد المتعصب ؛ لأن الجانب المشرق من الصورة لا يملك أية فرصة معقولة في حركة العلاقات ،بينما يملك الجانب المظلم كلّ الفرص في الحديث والإثارة والتأثير. وهذا ما يجب على العاملين أنّ يلاحظوه انطلاقاً من خط العدل الذي قرره الإسلام ؛ ليكون متوازناً لدىالأعداء والأصدقاء كما جاء في قوله تعالى : (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى((4).
(وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى( (5).
مشروعية الثورة:
وفي نهاية المطاف، ربما كنا بحاجة إلى البحث عن ضرورة الحوار السياسي المتحرك في التحديات الكبرى التي يواجهها المسلمون في خط الصراع في داخلمجتمعهم في المشاكل المتنوعة بين الأنظمة والحركات الإسلاميّة في قضايا النظام وعلاقته بحرية العمل الإسلامي السياسي من جهة ، وبالخط العام للأنظمة الحاكمة في البلدانالإسلاميّة بالاستكبار العالمي من جهة ، وبالصهيونية العالمية من جهةٍ أخرى ، وبالدور الفاعل للشريعة الإسلاميّة في حركة التشريع العامة ، حيث يطرح المسلمون الحركيونتطبيق الشريعة في الوقت الذي يرفض الحاكمون ذلك . أما القضية التي لابد من إثارتها فقهياً وفكرياً هي : مدى شرعية الثورة على الحاكم الجائر ، أو الحكم المنحرف عنخط الإسلام ، وهل يجوز استعمال العنف ابتداء في عملية التغيير ، أو كرد فعل للعنف المفروض على الناس من قبل النظام ، أو يكتفي المسلمون بالنصح والموعظة والإرشاد فيتركلنفسه أو للظروف الطبيعية الطارئة أو المحيطة بالموقف على أساس أنّ الإسلام هو دين الرفق واللين والحكمة والموعظة الحسنة ، لاسيما في العلاقات المتحركة بين المسلمين فيخلافاتهم الداخلية؟
وهكذا تتحرك مسألة التقريب في المواجهة الحادة بين المسلمين والمستكبرين الّذين يفرضون على الواقع الإسلامي سيطرتهم الظالمة الخانقة فيالجوانب السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ؛ ليكون هامشاً من هوامش الواقع الاستكباري ، فلا يكون للمسلمين دور فاعل في تقرير مصيرهم إلاّ بالطريقةالتي تتناسب مع مصالحهم الكبرى الضاغطة على مصالح المسلمين العامة.
والسؤال المطروح : هل العنف هو الأساس في خط المواجهة من خلال عنوان الجهاد الذي يحكم حركةالإسلام ضد التحديثات الكافرة والمستكبرة ، أو أنّ العنف ليس هو الأسلوب المطلوب تحريكه في خط المواجهة ؟ وهذا هو ما قد يختلف الرأي فيه بين الشيعة والسنة من جهةٍ ، كماقد يقع الخلاف فيه بين الشيعة أنفسهم ، أو السنة أنفسهم ، مما قد يؤدي إلى الكثير من التعقيدات الأمنية والسياسية بين المسلمين .
ويضعف الموقف الإسلامي في خطالمواجهة بينه وبين الانحراف في الداخل والخارج ، ويفسح المجال للنزاع المذهبي والحركي في المجتمع الإسلامي ؛ لأننا نلاحظ أنّ ظروف الصراع تثير المسألة الفقهية كمشكلةفي ساحات الحركيين والثائرين في حملة تشكيكية بشرعية موقفهم ؛ لاختلافه مع الخطوط الإسلاميّة المستقيمة.
قد تحرك الإعلام الاستكباري في توجيه الحملة بالطريقةالتي تؤدي إلى إرباك العملية التغييرية في حركة المجاهدين ، وتحريك المسألة المذهبية كما لو كانت
الثورة خطاً شيعياً ليكون الاعتدال خطاً سنياً في خطة إيجابيةمتنوعة ، وتوجيه المسألة في داخل كلّ مذهب إسلامي ـ في الجدل الداخلي ـ ليكون هناك خط تطرف وخط اعتدال ؛ ليكون هناك صراع بين المتطرفين والمعتدلين على أساس الخط الفقهي فيدائرة السلب والإيجاب.
إننا نعتقد : أنّ حركة التقريب بين المذاهب الإسلاميّة لابد أنّ تتطور لتواكب تطور الفكر الإسلامي في معالجة التحديات الجديدة ، مما قديدور الجدل فيه بين المسلمين على أساس الاختلاف الفقهي أو الفكري في المفاهيم العامة ؛ لأن ذلك هو الذي يمثل التحدي الحاد الحاسم للواقع الإسلامي كله ، الذي يراد له أنّ يسقط تحت تأثير الضغوط القاسية من قبل الكافرين والظالمين والمستكبرين في الداخل والخارج.
فإن الحرب الجديدة ضد الإسلام والمسلمين تحولت إلى حرب متعددةالأبعاد والمواقع والأهداف ، الأمر الذي يفرض على الجميع الاستعداد بكل الوسائل الفكرية والعملية على أكثر من صعيدٍ ؛ ليأخذ التقريب بين المسلمين دوره الحركي الفاعل فيساحة الواقع ، بدلاً من أنّ يكون مجرد حالة ثقافية تجريدية في دائرة الترف الفكري ، فذلك هو الذي يطور الحركة ؛ لتكون وسيلة من وسائل حركة القوة في الإسلام في خط الحريةوالعدالة والوحدة.
1 ـ الكافي 2 : 323.
2 ـ الوافي 1 : 57 ـ 58 الطبعة الحجرية.
3 ـ النساء 1 : 5 .
4 ـ المائدة : 8.
5 ـالأنعام : 152.