حول شهرة الراوي وعدم أثرها على قبول حديثه، وأن العبرة بالإتقان لا بغيره. الشهرة في أي فن من الفنون ، أو علمٍ من العلومِ ولا سيما علم رواية الحديث لا تكون سببًا في إتقان فن الرواية ؛ لأنه يقوم على المعرفة والممارسة بالدرجة الأولى ، فالذي لا يمارس فن الحديث ولا يعتني به لا يمكن أن يَمهَرَ فيه. فكيف إذا اشتغل بغيره ، وتصدر له ؟ لا شك أنه سيكون أقل مهارة ومعرفة بقوانين وأصول الرواية من المختص. فلو نظرنا هنا في حال حفص لوجدنا أنه تصدر للإقراء ولم يتصدر للرواية، ومن هنا وقع الوهم والغلط والتفرد في حديثه، والذي من أجله ترك المحدثون حديثه. إذا ظهر لك هذا فأنا لا أرى أن هناك تناقضًا بالمعنى الذي أثاره الأستاذ الفاضل بين إتقان القراءة وعدم إتقان الرواية. ومن هنا كان اعتذار المؤرخ العظيم الذهبي عن حفص وشيخه عاصم أبلغ ما يمكن أن تبرأ به ساحته، وهو قوله:((وما زال في كل وقت يكون العالم إمامًا في فن مقصرًا في فنون)). ثم هذا الإمام العلم سليمان بن مهران الأعمش كان ثبتًا في الحديث ضعيفًا في القراءة، فإن له قراءة لا ترتقي إلى رتبة القراءات السبع، ومع ذلك ما ضره هذا عند أهل الحديث، كما أن ضعف حفص في الحديث لم يضره عند أهل القراءات. ومما يحكى عنه أنه قال لأبى حنيفة:يا نعمان ما تقول في كذا كذا ؟ قال:كذا وكذا. قال:من أين قلت ؟ قال:أنت حدثتنا عن فلان بكذا، قال الأعمش:((أنتم يا معشر الفقهاء الأطباء ونحن الصيادلة)). وعن الشافعي مثله، قال الربيع:سمعت الشافعي قال لبعض أصحاب الحديث:((أنتم الصيادلة ونحن الاطباء)). وقال أبو سليمان ابن زبر الربعي:كان أبو جعفر الطحاوي قد نظر في أشياء كثيرة من تصانيفي وباتت عنده وتصفحها فاعجبته! وقال لي:((يا أبا سليمان أنتم الصيادلة ونحن الأطباء)). فالرَّاوية غير الفقيه، كما أن القارئ غير المحدث، فلا نشترط في القارئ أن يكون محدثًا إلا ما يخص أحرفه مما ثبت له روايته ونقله عن شيوخه. مع أنه قد يجمع بعض أهل العلم بين الحديث والفقه كحال الإمام أحمد (رحمه الله)، أو بين الحديث والمعرفة بالقراءات كحال الدارقطني، كل ذلك مع المعرفة والإتقان، ولكن هذا الضرب من الناس قلة. وكم رمي أهل الحديث بأنهم زوامل لا يفقهون ما يروون! لكنا لا نعده عيبًا في ميزان العلم الصحيح؛ فقد صح عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال:((نضَر الله امرأً سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه)). أخرجه أبو داود، وابن حبان، والحاكم. ولم يغضبنا هذا القصور كما أغضب غيرنا، فنحن نطالب بالإنصاف !؟ فكما أنا لا نشترط في المحدث أن يكون فقيهًا، لا نشترط في الفقيه أن يكون محدثًا ناقدًا عارفًا بالعلل والجرح والتعديل، أنما يكفي معرفته بالصحيح من الضعيف ولو بالتقليد. قال عبدالله بن أحمد:سمعت أبي يقول:قال الشافعي:((يا أبا عبد الله إذا صح عندكم الحديث فأخبرونا حتى نرجع إليه، أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلمني حتى أذهب إليه كوفيًا كان أو بصريًا أو شاميًا)). فهذا الشافعي على جلالته ومعرفته بحديث أهل الحجاز يطلب من الإمام أحمد تعليمه بما صح من أحاديث البلدان. ومن هنا ينبغي أن نسلم بالتخصص، وعدم تجاوز أهل الشأن، فكم بلينا بأراء شاردة من غير أهل الاختصاص، وممن يوسم بالمشاركة والتفنن حتى من كبار العلماء في تاريخنا الطويل. والخلاصة أن التسليم لأهل الفن سلامة كما سلم الشافعي لأحمد، وسلم الأعمش لأبي حنيفة. الوقفة الثالثة:حول أثر هذا الطعن على قراءة حفص. ((ولو أن الأمر توقف عند وصف حفص بعدم إتقان الحديث لكان مقبولاً، ولكنه تجاوز ذلك إلى الطعن في عدالته، واتهامه بالكذب عند بعض العلماء. وكيف يكون المرء مؤتمنًا على القرآن، متهمًا في الحديث؟ إنه أمر أشبه بالجمع بين النقيضين! وكنت أتتبع الروايات المتعلقة بهذه القضية وأقاويل العلماء فيها، في محاولة لتفسيرها على نحو يخفف من أثرها، حتى لا تكون وسيلة للطعن في قراءة القرآن الكريم)). اهـ. الحقيقة أن الأمر لا يعدو ما ذكر الأستاذ من أن حفصًا موصوف بعدم الإتقان في الحديث، وما حصل من بعض النقاد في تكذيبه، يعود إما بسبب تشدد الناقد فلا نقبل ذلك