بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
من المستبد قادرة على مواجهته والقضاء عليه في أي زمان وأي مكان. رحلات الكواكبي: ذاق الكواكبي صنوف المعاناة على يد الاستبداد العثماني وأعوانه، حتى لم يبق له مصدر رزق، وصار يستدين من أجل متطلبات حياته اليومية، لذلك حين عرض عليه السلطان منصب قضاء (راشيا) كي يبعده عن بلده (حلب) ويضعف تأثيره، تظاهر بقبوله، وسافر إلى الأستانة سرا، ليقوم بتحريات سرية عن أعمال السلطان وزبانيته، ويرى أنواع استبداده في عقر داره، لكن سرعان ما اكتشف أمره، ودعي للإقامة في قصر خاص بالضيافة، وقد التقى أثناء زيارته تلك بجمال الدين الأفغاني (1895) الذي جاء إلى الأستانة (1892) وبقي هناك (حتى وفاته أو بالأحرى قتله 1897) في منـزل للضيافة تحت الإقامة الجبرية، وقد أحس الكواكبي بعد لقائه بالمصير المشابه الذي ينتظره ، لذلك سارع بالعودة إلى حلب سرا. لقد كان ظاهرا للعيان رغبة السلطان في التخلص منه، خاصة بعد أن أدرك أن المناصب في حلب لم ولن تغيره، فرأى الكواكبي حين عرض عليه السلطان منصب القضاء في راشيا وسيلة جديدة لإبعاده، خاصة أن هذا المنصب قد جاء بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها والتضييق على حريته في الأستانة، لذلك قرر الهرب إلى مصر سرا (1900) بعد أن رهن البيت الذي كان مسجلا باسم زوجته، ليؤمن تكاليف سفره. ولو تأملنا أسباب اختيار الكواكبي مصر موطنا له، للاحظنا أنها تنحصر في الحرية: جوهر الوجود الذي عاش من أجله الكواكبي ومات في سبيل تحقيقه، وهذا ما تخيل وجوده في مصر زمن الخديوي عباس، فقد كانت ملاذا للكتاب، الذين هاجر إليها أغلبهم من بلاد الشام، رغبة في الحرية، (التي يلمسها المرء خاصة في الجرائد المصرية التي كانت تتمتع بحرية نقد السلطان عبد الحميد) وإلى جانب الحرية في التعبير، كانت هناك حرية في استخدام اللغة العربية في الكتابة التي كانت شبه ممنوعة في شرقي السلطنة، لذلك أسس المهاجرون إليها صحفا ومجلات، واستطاعوا أن يسهموا في إغناء الحياة الأدبية والفكرية في مصر، وقد شكّلوا صوتا واضحا في الصحافة عرف فيها، واشتهر باسم "الشوام" عاش الكواكبي في القاهرة حوالي سنتين حيث ذاع صيته، وتابع نشر مقالاته في الصحف المصرية، بل نجده قد أصدر فيها "صحيفة العرب" التي لم تلبث أن توقفت، دون أن نعرف السبب، ربما قد يكون بسبب تقارب الخديوي عباس والسلطان عبد الحميد!! وقد كان أحد أهم شروط هذا التقارب، ألا يساند الخديوي المناوئين للسلطة العثمانية!! كذلك استطاع أن ينشر فيها كتابيه "أم القرى" و"طبائع الاستبداد" اللذين كتبهما في حلب ولم يستطع نشرهما إلا بعد هربه منها، ويقول نديم الكواكبي (عبد المسيح الأنطاكي) إن الكواكبي ظل مختفيا في القاهرة حتى طبع كتاب "أم القرى" إذ أرسل منه نسختين إلى الخديوي في الإسكندرية، ونسخة إلى"الشيخ محمد عبده" والثالثة إلى"الشيخ علي يوسف" وقد سرّ الخديوي بالكتاب فطلب إلى الشيخين أن يسعيا للتعرف على صاحب الكتاب الذي لم يذكر اسمه عليه، ومنذ ذلك الوقت نشأت صداقة بين الخديوي والكواكبي التي يبدو أنها لم تعمّر طويلا، بسبب التقارب بين الخديوي والسلطان عبد الحميد، ورفض الكواكبي طلب الخديوي للسفر معه إلى الأستانة للتصالح مع السلطان. أثناء إقامته في القاهرة، قام برحلتين زار فيهما بلادا عربية وأخرى إسلامية، ليتفهم أحوال المسلمين وليدرس عن كثب مشروع رابطة أم القرى الذي تحدث عنه بشكل نظري في كتابه "أم القرى" فزار السودان والجزيرة العربية واليمن، والتقى القبائل العربية، ليعرف مدى مقدرتها على القتال، وليحرضها على الثورة ضد الأتراك، لكن اللافت للنظر اهتمامه بالشؤون الاقتصادية والجيولوجية لبلاد العرب، حيث ذكر ابنه (كاظم) الذي رافقه في رحلته الثانية، أنه كان يجمع نماذج من صخورها، ويجلبها معه إلى مصر لدراستها من قبل المتخصصين لمعرفة الثروات المعدنية التي تحتويها الجزيرة (وقد كان من بينها على ما يذكر ابنه زيت النفط الذي دلّه عليه الأعراب في الجزيرة) . إذاً لا تبدو الغاية من رحلاته دراسة أحوال الأمة العربية والإسلامية من الناحية السياسية والعسكرية فقط، بل دراسة أحوال البلاد الاجتماعية والاقتصادية، كي يؤسس لدولة عصرية، ترتكز على إمكاناتها الاقتصادية الذاتية، لذلك سعى إلى معرفة ما تملكه من ثروات باطنية بالإضافة إلى ما تملكه من استعداد حربي، فهو يدرك أن حرية الدول لا تكون بجلاء الغريب عنها، وإنما بامتلاك القدرة الاقتصادية التي تستطيع حماية الحرية، وتأسيس بنيان الدولة على أسس متينة، تمنحها استقلالا حقيقيا.