بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
لقد امتلك الكواكبي وعيا سابقا لعصره، فسعى إلى الحرية بأفضل معانيها، جنّد في سبيلها كل ما يملكه من مواهب أدبية وفكرية، وضحى من أجلها بكل ما يملك، حتى دفع حياته ثمنا لها. *** الحواشي: 1- جميع المعلومات التي في وردت في هذه المقدمة، أخذت من كتاب حفيد الكواكبي القاضي سعد زغلول الكواكبي، وهو بعنوان "عبد الرحمن الكواكبي: سيرة ذاتية" دار بيسان، بيروت، ط1، 1998، ص15_ 120 بتصرف. كتاب (أم القرى) محاولة في تقديم الفكر التنويري في قالب قصصي أعتقد أن الكواكبي جسّد لنا ظاهرة تستحق التأمل في الفكر العربي الحديث، إنها ظاهرة انسجام القول النظري بالمواجهة العملية، فقد بدت لنا حياته مرآة لأفكاره، إذ جسّد صورة المثقف النموذجي، الذي يقرن القول بالفعل، فيبدو لنا خطابه النظري في مقاومة الاستبداد وإصلاح الأمة نتيجة جهاد حقيقي في مواجهة الظلم، بالنفس والقلم والمال، لذلك نجده واجه سلطة الاستبداد العثماني فعلا وقولا، وبدأ يحاول النهوض بأمته عبر بث الوعي لدى أبناء أمته في الصحافة، وعبر الممارسة العملية، حين استلم رئاسة البلدية في حلب (1893) لذلك لم يبق فيها سوى شهر واحد، فقد عُزل نتيجة الإصلاحات التي أدخلها، كما رأيناه يحوّل مكتبه إلى مركز لرفع الشكاوي ضد الولاة الفاسدين، وكتابة مظالم الفقراء وإرسالها إلى السلطان، حتى إنه لقب بأبي الضعفاء. حاول بذل جهده في نصرة الحق و إقامة العدل الذي ضاعت أسسه، بعد أن ساد الفساد بين الولاة، لذلك جنّد نفسه لمواجهة المستبدين والحكام بكل ما يملك من وسائل فكرية وعملية. كان صلبا في مقارعة المستبد، ممن يؤمنون بأن "أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" ولاشك أن تربيته على أخلاق الدين الإسلامي ومبادئه السمحة، بالإضافة إلى تعرضه لظلم السلطة (صودرت أملاكه، سلبت منه نقابة الأشراف، وأعطيت إلى إنسان لا يستحقها، يدعى أبو الهدى الصيادي، سُجن وحكم عليه بالإعدام ظلما، أغلقت صحيفته، اضطراره للهجرة إلى مصر) أدى كل ذلك إلى شحذ عزيمته لمقاومة الاستبداد، فبدا لنا مرهف الإحساس لمعاناة غيره من المظلومين، يمتلك حسا بالمسؤولية حيال الضعفاء من قومه، الذين لا يملكون أدوات مواجهة الاستبداد. لذلك حاول أن يفضح أساليب الظالمين من الحكام بكل ما يملكه من وسائل، كما حاول أن يساند المظلومين بكل ما يملكه من إمكانات لعل أهمها القلم. كتاب "أم القرى" (1898) أتاحت لـه مقارعة سلطة الاستبداد والعمل في الصحافة فهم الواقع المتردي، مما جعله يدرك أن التخلف مرض يصيب جسد الأمة بأكمله، لهذا نجده في هذا الكتاب يحاول الوقوف عند الخلل الذي أصاب المسلمين وقفة متأملة موضوعية، تتجاوز المألوف في ذلك العصر، إنها وقفة تتجاوز النظرة القدرية المستسلمة، إذ حاول أن يجمع، عبر الخيال، علماء المسلمين، ليسمع آراءهم، لذلك كان كتابه "أم القرى"(1) تجسيدا لرغبة كامنة في أعماقه، هي وحدة المسلمين وقوتهم، فكان منهج عمل لدراسة حال الأمة الإسلامية، ومناقشة أسباب هذا التخلف بطريقة علمية، تنقب عن أفضل الوسائل التي تنهض بالأمة، لهذا نجده يحدد، بلسان علماء الأمة، موضع الداء أولا ثم أعراضه وجراثيمه، ليقترح هؤلاء العلماء بعد ذلك الدواء، مبيّنين كيفية استخدامه، معلنين ضرورة اتحاد المسلمين في جمعية تأسيسية، تستطيع تنظيم العلاج، تدعى "جمعية تعليم الموحدين" وبذلك يتوارى الكواكبي وراء آراء جماعة علماء المسلمين وفقهائهم، لينأى عن الرأي الفردي الذي لن يكون منقذا لعامة المسلمين باختلاف أقطارهم ومذاهبهم، وبذلك استطاع أن يقدم لنا أول مؤتمر إسلامي متخيل، يجسد رغبة حقيقية في وحدة المسلمين. وعلى هذا الأساس اختار لكتابه شكلا جديدا أقرب إلى فن الرواية، إذ تخيل فيه جمعية تضم أعلام المسلمين تعقد اجتماعا في "مكة المكرمة" قبل موسم الحج، وقد سمعنا في المقدمة صوت الرحالة الراوي، الذي هو صوت الكواكبي، يقول: "فعقدت العزيمة، متوكلا على الله تعالى، على إجراء سياحة مباركة بزيارة البلاد العربية، لاستطلاع الأفكار وتهيئة الاجتماع في موسم أداء فريضة الحج". نلاحظ أن الكواكبي حين تخيل عقد الاجتماع، لم يكتف بعلماء عرب، بل أضاف إليهم علماء مسلمين من كافة البلاد الإسلامية، بل من بلاد غير إسلامية، فالمهم لديه انتماء العالم إلى الفكر الإسلامي بغض النظر عن بلده (السعيد الإنكليزي).