بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الألفاظ التي تشارك في تراكيبها، إلاّ بعد تأمل هادئ عميق ومعاناة طويلة. ولعلّ بعضاً من دكاترة اللغة العربية من خريجي المعاهد الغربية قد استعظموا على الإنسان العربي، الضارب في مجاهل الأرض والتاريخ أن يبلغ ذلك المستوى الثقافي الرفيع في صناعة الأصوات للتعبير عن معانيه بهذه الطريقة الأسطورية ، خلافاً لما هو واقع الحال في اللغات الغربية الراقية وما استقر عليه آراء علمائها. فلقد أنكر محمد المبارك خريج معهد السربون في باريس على الحرف العربي خصائصه الإيحائية بضعة عشر عاماً أمضاها في تدريس اللغة العربية والتأليف فيها، قبل أن يعترف بذلك صراحة كما جاء في كتابه ( خصائص العربية (ص260-263). على أن أصحاب المدرسة اللغوية القديمة القائلين بفطرية اللغة العربية، وما يستتبع ذلك من أنّ أصوات الحروف في اللفظة العربية توحي بمعناها، لم يدعموا رأيهم هذا بالبراهين الإحصائية القاطعة على وجود علاقة إيحائية بين أصوات الحروف العربية ومختلف الأحاسيس والمشاعر الإنسانية. فإذا كانت معاني الألفاظ تتردد بداهة بين ما يدل على ملموسات وذوقيات وشميات وبصريات وسمعيات ومشاعر إنسانية ، فإنه لابد لأصوات الحروف أن توحي إذن بمختلف الأحاسيس الحسية والمشاعر الإنسانية. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإن صوت الحرف في اللفظة العربية يصبح رمزاً على معنى، لتتحوّل اللفظة العربية بذلك إلى مجرد مصطلح على معنى كما يدّعي أصحاب المدرسة اللغوية الاصطلاحية. أما إذا كانت أصوات الحروف العربية صالحة فعلا للإيحاء بمختلف الأحاسيس الحسية (لمس-ذوق- شم- بصريات-سمعيات)، وبمختلف المشاعر الإنسانية، فإن الأصوات نفسها لابد أن تكون صالحة أيضاً للإيحاء بالأحاسيس الحسية والمشاعر الإنسانية. فالحروف العربية قبل أن تنتمي إلى القطاع اللغوي تنتمي أصلاً إلى القطاع الصوتي. وإذن، لابد أن يكون ثمة نظام فطري معين يحكم العلاقات الكائنة بين الحواس الخمس لمسيّها وذوقيّها وشميها وبصَرَيّها وسمعيّها. ولقد جهدت طويلا في الكشف عن هذا النظام الذي يعتبر الحجر الأساس في وجهة نظري هذه حول خصائص أصوات الحروف العربية الإيحائية، فخصصت له هذا الفصل. وكيما يتابع القارئ بشيء من السهولة هذه الدراسة في الأبواب والفصول التالية، لابدّ له أن يستوعب أولا كل ما جاء في هذا الفصل من أسس يزوّد بها ذاكرته ومخيلته لمواجهة ماسيعترضه من مسائل جديدة غير مطروقة. حول خصائص الحواس: الحواس الخمس كما هو معروف عنها، إنما هي أجهزة توصيل فيزيائية وكيمائية تنقل إلى المراكز الحسية في الدماغ عبر خلاياها الحسية والعصبية، مختلف الأحاسيس التي تتلقاها من العالم الخارجي، فلكل حادثٍ إحساسٌ معين. ولكنّ هذه الأحاسيس التي تتلقاها الحواس، هل هي مغلقة على ذاتها ضمن خلاياها ومراكزها الحسية في القشرة الدماغية، فلا تتأثر حاسة من الحواس بأحاسيس حاسةٍ أخرى؟. أم إنَّ الأمر غير ذلك؟. إن الحواس الخمس في الحقيقة ليست مجرد أجهزة توصيل سلبية تقتصر وظائفها على تلقي التنبيهات الخارجية فحسب، وإنما هي أجهزة (تحويل) إيجابية أيضاً قد تؤثر الحاسة الواحدة منها وتتأثر بأحاسيس غيرها من الحواس. بمعنى أن الحاسة (آ) تستطيع أن تنبه حاسة ثانية (ب) فتثير في هذه الحاسة الأخيرة أحاسيسها الخاصة، دون أن تتلقى الحاسة(ب) عن العالم الخارجي أي إحساس آخر. فلو نظرنا مثلا بالعين (الحاسة أ) إلى ظهر قنفذ، لتملكتنا قشعريرة الإحساس بوخز إبره ولو لم تلمسها أناملنا (الحاسة.ب) وهكذا تستطيع حاسة العين أن تثير في حاسة اللمس مختلف الأحاسيس اللمسية، دون أن تتلقى حاسة اللمس من العالم الخارجي أي منبه محسوس سوى الصور المرئية التي تتلقاها العين (الحاسة آ) ولكن هذا التداخل في الآحاسيس هل هو عشوائي شخصي المزاج؟. أم إنه محكوم بنظام فطري خاص.؟. لقد اهتديت إلى هذا النظام بمعرض البحث عن العلاقات المتبادلة بين الفن والأخلاق في قطاع الحواس الخمس. وهذا النظام مبنيّ أصلاً على تدرج الحواس في الرقي بحسب تجردها عن المادة، أي تبعا لشفافيتها. فالحاسة الأرقى أي الأكثر شفافية، تستطيع أن تؤثر في الحواس الأدنى الأكثر كثافة والتصاقا بالمادة، فحاسة السمع التي هي في قمة الحواس رقيا وشفافية، تستطيع أن تؤثر فيما دونها من