الأندلس وجزر البحر الأبيض المتوسط كصقلية .. ولعل من الملاحظات التاريخية أن القرن الذي شاهد سقوط غرناطة - آخر مصارعنا في الأندلس ( 1492م ) كان نفسه الذي شاهد سنة 1453م - الفتح الإسلامي الخالد للقسطنطينية ، ذلك الفتح الذي كان من آثاره عند الإنصاف التاريخي حماية المسلمين لفترة تزيد على خمسة قرون .. لقد سقطت الأندلس .. كعضو اجتمعت فيه كل عناصر السقوط ، وكان لا بد من بتره .. فحقت عليه كلمة الله !! ولقد ظهرت قوة أخرى فتية زاحفة من أواسط آسيا كي تبني للإسلام تاريخا جديدا .. ولقد أرعبت هذه القوةُ الأحقادَ الأوربية الصليبية ثلاثة قرون على الأقل . إن درس الأندلس لا يجوز أن يغيب عن بالنا ، ولقد كانت عناصر السقوط فيه تتشكل من عدة نقاط بارزة :
أولا :
الصراع العنصري الجنسي
ثانيا :
ارتفاع رايات متعددة بعيدة عن راية الإسلام الواحدة المتصلة بالنفوس والعقول .
ثالثا :
استعانة مسلمي الأندلس بالأعداء ضد بعضهم البعض ... وكل العوامل الأخرى .. تدور حول هذه النقاط بطريقة أو بأخرى ! ! ولقد دفع مسلمو الأندلس جميعا ثمن أخطائهم :
دفع الحكام الثمن حين أذلهم الله وسلبهم ممالكهم ، وهل ننسى أشعار ابن عباد البائسة ، حين أذله الله على يد المرابطين في أغمات بالمغرب الأقصى ؟؟ وهل ننسى قولة ابن صمادح حاكم ألمرية وهو يموت :
نغص علينا كل شيء حتى الموت ؟ وهل ننسى دموع .. أبي عبد الله - آخر ملوك غرناطة .. حين رحلت به سفينة العار مودعة آخر وجود إسلامي في أوربا .. رحلت به على أنغام الأمواج الهائجة .. وكلمات أمه المسكينة تدوي في سمعه :
ابك مثل النساء ملكا لم تحفظه حفظ الرجال !! ولقد دفع الشعب الإسلامي الثمن حين استسلم لأمثال هؤلاء الملوك . ولم يأخذ على أيديهم ، فأحرقت دوره ، وسلبت أمواله ، وأرغم على تبديل دينه ، بل وتغيير اسمه ، وحرمته الصليبية الآثمة أبسط حقوق الإنسان !! على أن الأوراق الذابلة من حضارتنا كانت مجرد تغيير في هيئة الحكم بحثا عن طموح شخصي ، أو انطلاقا من دعوى عنصرية ، أو دفاعا عن نعرة مذهبية، أو فشلا من دولة كبيرة جامعة كالعباسيين والأمويين في السيطرة على كل ما تحت يدها .. مما يمنح الفرصة للمطامع أن تظهر ، وللنعرات أن تحكم . ونحن لا نستطيع القول :
بأن هذه الأوراق كانت كلها خيرا أو شرا ، ولعل بعضها كان لفتة قوية للدول الكبرى كي تسير في الطريق الإسلامي الصحيح .. كما أننا كذلك لا نميل إلى القول :
بأن هذه الصفحات التي أدت إلى تغيير دولة بدولة أو حكم بحكم كانت تسير بالأمة في طريق الهاوية .. فلا شك أن ثمة مزايا أخرى يمكن أن تكون قد تناثرت على الطريق . إنني لا أميل إلى ما يعتقده البعض من أن التاريخ يسير في طريق عمودي .. سواء إلى أعلى أو على أسفل .. عن تجربة تاريخنا الإسلامي تكشف لنا أن حركة التاريخ في دائرة الحضارات الكبرى الجامعة - كالحضارة الإسلامية - حركة لولبية - إن صح هذا التعبير - فثمة انحناءة إلى أسفل في جانب تقابلها انحناءات إلى أعلى في جوانب أخرى ، فهي حركة دورية تنتظمها مراحل الهبوط والصعود .. الهبوط بفعل التناحر والفساد الداخليين ، والصعود بفعل الاستجابة لتحديات خارجية قوية . ومن اللافت للنظر أن مراحل الهبوط - في التجربة التاريخية لهذه الأمة - قد ارتبطت بأوضاع داخلية ، فهذه الأمة لم تضرب من خارجها بقدر ما ضربت من داخلها ، بل إن الأعداء الخارجين لم ينفذوا إليها إلا من خلال السوس الذي ينخر فيها من الداخل .. ولقد أفادنا الأعداء بتدخلهم كثيرا ، وغالبا ما كان لتدخلهم فضل إيقاظ الضمير الإسلامي ، أو إعلان الجهاد العام ، أو إظهار صلاح دين أو سيف دين مما من شأنه أن يجمع المسلمين تحت راية واحدة . لقد كانت الأمة المسلمة قادرة بما فيها من عناصر القوة الكامنة على الاستجابة للتحديات الخارجية ، كأروع ما تكون الاستجابة للتحديات ، ولو لم ترهق هذه الأمة - في أغلب مراحل تاريخها - بحكام يشلون حركتها ، ويخنعون أمام أعدائها ، ويبددون من طاقتها حفاظا على أنفسهم .. لو لم تكن هذه الظاهرة مستشرية على هذا النحو ، ولو أن هذه الأمة قد تركت