الحمد لله الذي من علينا أن جعلنا من هذه الأمة ، وأنزل على نبينا كتابا نهتدي به في معاشنا ومعادنا ، جمع في طياته العلم كله ، قال عز وجل " ما فرطنا في الكتاب من شيء " إنه القرآن ، اصل العلم الذي اشتقت منه العلوم كلها ، وخرجت من رحمه الفنون بشتى تخصصاتها ، ثم استقلت بعد ذلك مع الزمن استقلالا شكليا من غير أن تخرج عن دائرة الكتاب المكنون .والصلاة والسلام على معلم القرآن الأول ، وحافظ العلم المبجل ، الهادي إلى سبيل الخير والفضيلة ، أفصح عن الأحكام بفصاحة اللسان ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه وعمل بسلوكه إلى يوم الدين . أما بعد :فلما انتهيت بعون الله تعالى وتوفيقه قبل بضع سنين في تحقيق كتاب (الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي) للعلامة يوسف بن حسن بن عبد الهادي الشهير بابن المبرد ، والذي كان موضوعه في فن الغريب الفقهي ، جمع فيه صاحبه مادة علمية غنية بالمصطلحات التي استعملها الفقهاء في تصانيفهم ، وإذا كان حنبلي المصدر والانتساب ، فهو مورد سيال لأرباب الفقه عامة يدعمون به مادتهم اللغوية والاصطلاحية أثناء اجتهاداتهم وعرض آرائهم ، فهو معلمة فقهية دلت على فضل ابن عبد الهادي وسعة باعه في اللغة ، وقوة تحقيقه وهضمه للمسائل الفقهية . وقد نلت بتحقيق هذا الكتاب ودراسته شهادة الدكتوراة من جامعة أم القرى بمكة المكرمة .ولما أدركت أهمية هذه الشخصية العلمية من خلال هذا العمل ، ووقفت على فضله وحنكته في تحقيق ودراسة المسائل اللغوية الفهية ، وتذوقت ذلك كله من خلال أسلوبه السهل ، ومنهجه البين الواضح ، عزمت على متابعة الاعتناء بهذا العلم الجاد المتأخر في ظهوره ، والمتقدم في علمه وقوة تحقيقه ، شأنه في ذلك شأن الكبار ممن سبقه في هذا العباب ، ولا غرور في ذلك وهو من بيت علم وفضل من أبناء صالحية دمشق حاضرة العلم آنذاك .واعتنائي المتواضع خصصته في محاولة إخراج بعض نفائس ما كتب إلى حيز الوجود ، لاعتقادي أن المنفعة المرجوة منها جد كبيرة ، خاصة للجدية التي تتمتع بها ، والجديد الذي تحمله للباحث وطالب العلم بشكل خاص .من هنا بدأت العمل ـ وأرجو من الله عز وجل التوفيق لمزاولته وإتمامه ـ وذلك بتحقيق كتاب (زينة العرائس من الطرف والنفائس) وهو سفر مهم في بابه ، لندرة أمثاله وزينة مادته ، وكبير منفعته ، وجمع فيه مرة أخرى أبو المحاسن بين الفقه واللغة ، وبالأحرى فهو تخريج نبيه للمسائل والفروع الفقهية على القواعد والضوابط النحوية ، وليس من السهل بمكان الإحاطة بجزئيات الموضوع إلا من خلال تصور كامل يصعب حضوره ، ويندر جمعه وترتيبه ، إلا على الراسخين ، ففاز بهذا الشرف ابن عبد الهادي ، ويظهر هذا جليا لمن سبر غور هذا الفن واطلع على مكنونه .فالكتاب على العموم درس تطبيقي للتفاعل الحقيقي بين علوم الشريعة عامة والفقه بشكل خاص ، وبين علوم العربية ، فالعلاقة وطيدة وقديمة ، دلت على الترابط الوثيق بين وسائل التعبير في الحضارة الإسلامية ، فكأن المصنف رحمه الله تعالى وقف على أهمية الربط بين أفراد ومكونات هذه الحضارة وقوة التعبير عنها وهي مجتمعة فتكون بذلك أجدر بالانتفاع والتأثير في الإنسان والحياة والكون، هذا من جهة.والجانب الثاني الذي يمكن ملاحظته من خلال دراسة هذا النوع من التفاعل، هو إظهار الفقه الإسلامي بمظهره القوي يزيده توثيقا واعتبارا، وكذا تثمين جهود الفقهاء واجتهاداتهم ، فإن ركن اللغة وقواعدها شديد، وعلم النحو يشكل من مضمون الأصول والفروع الجانب الأعظم ، لذا اشترطه العلماء للمجتهد، ويكفي شاهدا على أن القرآن الكريم المنبع الرئيس والأساس للاجتهاد ومآخذ الفقهاء، نزل بلسان عربي مبين، بينه الرسول صلى الله عليه وسلم وعلمه الناس، ووضح مراميه بلسانه العربي، فكأنه لا بد للمجتهد من معرفة علوم العربية على الوجه الذي ذكرنا ليستطيع استنباط أحكام الشريعة من مصدريها الأساسين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .فمعرفة علم النحو فرض كفاية على هذا الوجه ، قال في " المحصول": ((اعلم أن معرفة اللغة والنحو والتصريف فرض كفاية، لأن معرفة الأحكام الشرعية واجبة بالإجماع، ومعرفة الأحكان بدون معرفة أدلتها مستحيل، فلا بد من معرفة أدلتها، والأدلة راجعة إلى الكتاب والسنة، وهما واردان بلغة العرب ونحوهم وتصريفهم، فإذن توقف العلم بالأحكام على الأدلة، ومعرفة الأدلة تتوقف على معرفة اللغة والنحو والتصريف، وما يتوقف على الواجب المطلق، وهو مقدور للمكلف فهو واجب، فإذن معرفة اللغة والنحو والتصريف واجبة)).وفن مدار الفروع الفقهية على الأصول النحوية شغل الفقهاء وأهل اللغة على السواء، وقد استفاد بعضهم من بعض من خلال المساجلات الفقهية والمناظرات العلمية، وكان من أبرزها المسائل التي أدارها الكسائي أثناء مناظرته مع القاضي أبا يوسف على الأصول العربية، وكذا الفراء أثناء مناظرته مع الفقيه البارع محمد بن الحسن الشيباني.ثم تتالت الجهود في هذا المضمار، خاصة في كتب الفروع الفقهية كالوجيز للإمام الغزالي، وشرحه الكبير للرافعي، والمهذب للشيرازي، والمغني والمقنع لابن قدامة، وغيرها من المصنفات الكبيرة والصغيرة داخل المذاهب، فظل هذا النوع من الجهود في هذا الميدان متناثرا ومبعثرا في ثنايا المصادر الفقهية واللغوية حينا من الزمن، حتى جاء الإمام الأسنوي من خلال كتابيه " التمهيد في تخريج الفروع على الأصول"، "الكوكب الدري فيما يتخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية"، فيكون بهذا العمل قد سجل لنفسه سبقا علميا يشكر عليه، وليس هذا بغريب على إمام له قدم راسخة في مجال اللغة بالإضافة للفقه والأصول، ناهيك عن فوزه بالتلمذة عن شيخ العربية والنحو أبي حيان الأندلسي رحمه الله. ولم تتوقف عقارب الساعة عند هذا الحد، بل تواصل العمل وتضافرت الجهود في استواء هذا الفن واستقلاله، فكان الدور بعد ذلك على أحد أئمة الفقه والأصول في المذهب الحنبلي وهو أبو الحسن علاء الدين بن اللحام البعلي المتوفي 803هـ، الذي صنف كتابه المشهور والمتداول " القواعد والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام الشرعية" جمع فيه صاحبه مادة علمية يغلب عليها الطابع الفقهي اللغوي، فهو ضرب من التخريج للفروع على الأصول النحوية، فكان بذلك أحد الرواد الذين دفعوا بعجلة استقلال هذا الفن بعد ميلاده، إلى أن جاء مصنفنا، والذي نسج على منوال ابن اللحام في كثير من المواقع، واستفاد من خطته وعمله، فزاد وأضاف وهو شأن المتأخر في التكميل والتتميم بعد الوضع والتأسيس، فكان كتاب "زينة العرائس" زينة فعلا وعروسا ظهر هذا الفن من خلاله بثوب جديد زاد ارتقاء ونقاء، ومن ثم قبولا وانتشارا بين أهل العلم وطلابه.وليس هذا مجال الحديث مفصلا عن الكتاب وما حوى، لكنه يأتي معنا في حينه، حيث نتعرض له بالدراسة والتحليل.هذه جمل جمعتها ولعلها أوضحت عن قيمة فن تخريج الفروع الفقهية على القواعد النحوية، وعن مدى اهتمام العلماء به والرعاية التي حظي بها نظرا لارتباطه الوثيق بأصول الشريعة وفروعها، فأحببت أن اسهم لو بجهد ضئيل في بعث هذا الفن، وذلك من خلال إخراج هذا السفر إلى الوجود وتسهيل الاستفادة منه.كل هذا بعد أن تأكد لي الخبر من أهل العلم والمختصين أن الكتاب لا زال في حيز المخطوطات، لم تناوله يد التحقيق بعد، وهو نسخة وحيدة بخط مصنفها رحمه الله، بقيت محفوظة إلى يومنا هذا دون استنساخ نظرا لصعوبة خطها وعسر قراءتها، كان أن استعنت بالله عز وجل إلى أن خرج الكتاب بثوبه الجديد، فإن وفقت إلى ذلك فهو فضل الله علي فله المنة والكرم، وإن كان غير ذلك فعذري أنه جهد مقل لم يدخر وسعا ولا جهدا ولا مكنة ...والله أسأل الثواب يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .