خليل جاسم الحميديقـــصصالإهـــداءإلى زوجتي وأولادي. وإلى أمي آخر الملكات ، وأول الأحزان في قلبي .مــدخـل: لولا الموت والفراق لكانت الشمس أكثر إشراقاً. "أموّهان بيجاكلي" تقدمـــه: إن الفن لا يرينا ما هو منظور، بل يجعل ما لا نراه منظوراً. " بول كيلي " الظهيرة ورائحة الياسمين (( إنَّ الفن مع جذور الكائن العميقة، ويختلط بالمنبع الدفين للعواطف )) سيزان الظهيرة ورائحة الياسمين 1-قيامة الرائحة حدث كل شيء فجأة، وفي وضح النهار. داخل غرفة قرميدية على السطح، حدث الذي حدث. وصل السطح فانقلبت حاله، وتبدلت نواياه، وصار الذي خاطر من أجله طي النسيان، ولم يعد يفكر به، أو يتذكره وكأنه ما كان. وصل. فكان كل شيء بانتظاره الغرفة القرميدية، والمرأة الباسقة كالنخلة، ورائحة الياسمين، والجسد الذي اختمرت فيه كل الفصول وباحت بسره ثماره الوحشية. حين اندفع يصعد الدرج المؤدية إلى سطح العمارة بخطا ناعمة، وحذر شديد، مستغلاً وقت الظهيرة، وشمس آب الحارقة التي حوّلت الشوارع إلى تنانير تستعر كنار ضاربة، وتختنق بالصهد، لم يكن في ذهنه شيء مما حدث، فالغسيل المنشور على السطح أغواه وأغراه، واستولى على عقله وروحه، فاندفع يريد الوصول إليه، وسرقته، والهرب به، دون أن يحس به أحد، حتى لا يتحول إلى طريدة تُسَدُّ في وجهها الجهات، ثم لا تلبث أن تقع في يد الشرطة، وتودع السجن، مثلما حدث معه في المرة الأخيرة، يوم تحول الشارع إلى أقدام تركض خلفه، وأيادٍ تريد الإمساك به، وأفواه تصرخ: حرامي حرامي، أمسكوا الحرامي. وهو يركض ما بين الأرض والسماء، ويروغ منهم كما يروغ الثعلب، من يومها ازداد حذره، وبات يحسب لكل شيء حسابه، ولم يعد يتصرف بطيش أو حماقة. مهنة ملعونة، وبنت كلب. ليس فيها إلاّ المخاطر، والخوف الدائم، وتنشيف الريق، ولكنها مهنته، وقد تعوّد عليها، تغويه برغم مخاطرها، ولا يجد نفسه إلاّ بها، لكنّ روحه التي كانت تفر منه، وتركض أمامه على الدرج، وهي تثب مثل غزالة مطاردة، وكأنها في سباق معه، تريد الوصول إلى السطح قبله، أشعرته أنّ شيئاً ما سيحدث له، ويغير في حياته، شيئاً لا يعرفه، لكنه يحسه، ولم يحاول أن يفكر به، فالغسيل المنشور فوق سطح العمارة، والذي سال له لعابه، منذ النظرة الأولى، وحده الذي كان يشغله عن كل شيء، ويستولي على تفكيره، وأحاسيسه، حتى دهمته رائحة الياسمين، وملأ عينيه جسد المرأة مثل قبس يتوهج، فأدرك وقتها سر فرار روحه، ونزوعها إلى السطح، ومع هذا شلته المفاجأة، طيرت عقله، وأصابه ما يشبه الجنون. كل شيء كان يتوقعه إلاّ وجود امرأة على السطح، وفي هذا الوقت الميت من النهار، فذلك من رابع المستحيلات، لكنَّ رائحة الياسمين التي دهمته هذه المرة بشراسة أثابته إلى رشده، فارتجف مفتوناً بالمفاجأة، وعيناه تحتضنان المرأة المتكئة على حافة النافذة الصغيرة تحدق بشرود حالم بالسماء، دون أن تنتبه لوجوده، سرّه شرودها وأفرحه، وبعث فيه ما يشبه الارتياح وعيه لمصدر انبعاث رائحة الياسمين التي نفذت إلى روحه كالفتنة. 2-قيامة الجسد وحيدة كانت المرأة في الغرفة ووحيدة كانت تحلم رأسها متوجٌ بالضوء، وأشعة الشمس المندفعة من النافذة الصغيرة، وهي تتحسس صدرها المكتنز كالربوة الممطورة بيديها الاثنتين، وتتأوه بفتون امرأة تعيش الحلم بكل روحها، وكيانها، وأحاسيسها المشتعلة. خفق قلب الرجل بشدة وبدا عليه الارتباك والاضطراب، وغطى وجهه شحوب داكن، وفرّ الغسيل المنشور على السطح من ذاكرته، وكأنه ما كان حلمه ومناه الذي انتشت له روحه، وطار إليه قلبه ولم يبق فيها إلاّ المرأة المتأوهة، وجسدها الذي يفيض برائحة الياسمين. وبرغم الذي أصاب الرجل ظلت المرأة شاردة، ساهمة، غائبة عمن حولها، تحدق من النافذة