بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
لإحساس جريء وذكي، يوحي بأن الاستقرار الشكلي ومحاكاة امرئ القيس والمتنبي وعنترة، والشريف الرضي.. في القصيدة، شكلاً ومضموناً، لم يعد يتلاءم وروح العصر، الذي كسر إطار الاستقرار الظاهري العتيق للقصيدة بأفكارها ومفرداتها ونظمها، طامحة إلى مكتشفاتٍ جديدة، أو نقلة نوعية في ظل آفاق ومعالم حضارية حديثة قادمة إلى المنطقة. إن هذا الإحساس بدأ يتبلور لدى قلّة من مثقفي الطبقة الوسطى، ممن عمقوا صلاتهم بالآداب والفنون العالمية، وممن انعكس عليهم بعنف شديد وإحساس شفيف قلقَ الواقع المحيط بهم، بكل تناقضاته ومآسيه. عبر هذه الظلال التراكمية القلقة، برز أصحاب ((الديوان))-4- وأدباء المهجر، وشعراء أبولو-5- حاملين دعوة جادّة وحارّة إلى قفزة شعرية نوعية تتخطى حدود القصيدة التقليدية الشائعة، إلى حيث يتاح للشاعر أن يعبّر بحرية مطلقة عن ذاته وكيانه الفردي داخل إطاره الاجتماعي. هذا الاتجاه أو هذه المدرسة- إن صحّ التعبير- عبّرت عن أول ثورة على التقليد في شعرنا العربي. وقد نجحت هذه الحركات بالفعل، وسط صعوبات الاستغراب والطعن والذم إلى درجة الاتهام بالخيانة والتآمر على التراث. غير أنها استطاعت بالتدريج ترسيخ التمرد على التقليد وخلق الاتجاه الرومانسي الثوري للقصيدة العربية. ذلك الاتجاه الذي تحرّر فيه الشاعر من الأغراض الاتباعية ومن العمودية الصّارمة، واللغة المعجمية المحفوظة. والصور الذهنية التقريرية.. جانحاً إلى اختيار موضوعاته من حياته الذاتية مستخدماً المجزوء من البحور، والمقاطع،.. يغيّر القوافي، مكوناً بمفرداته الحية، ذات الجرس الغنائي، صورة الوجدانية المتماسكة كوحدة جديدة، تتخطّى البيت إلى المقطع، أو إلى وحدة القصيدة بأكملها فيما بعد. وهكذا تدرجت القصيدة الرومانسية فنياً في التعبير عن أبعادها الفكرية التي ارتبطت بذات الشاعر وإحساسه بالواقع، وعذاباته وعدم استقراره الروحي في البحث والتخفّف من ظواهر الشكل القديم للقصيدة، تلبية لمتطلبات مضامين جديدة. في الوقت نفسه كان الوعي بالفن وبالعمل الشعري ينمو ويتأكد خارج الحدود المحلية، كإبداع إنساني خلاق، عبر الاحتكاك والاطلاع والترجمة، والتفاعل.. في ظل ظروف برزت فيها موضوعات إنسانية ووطنية وقومية، كانت فيها القصيدة الرومانسية وبقايا الكلاسيكية، تفقد طاقتها الحماسية، مستنفذة قدرتها الخطابية اللفظية. كل ذلك مهّد أمام حركة تجديد أخرى توحي بمغادرة القصيدة بحور الفراهيدي، مستعيضة عنها بمفرداتها نفسها (التفعيلات المتنوعة). مخلّفةً وراءها القوافي المصطنعة، إلى القافية التلقائية، المتنوعة عبْرَ رؤية جديدة للواقع، في حركته وامتداده وتطوّره- ليس بالمنظار الذهني الثابت، ولا بالمنظار العاطفي الهارب المنكفئ- وإنما برؤية واعية متطورة، تتقصّى جزئيات الواقع وتكثّفها- بقدرة الفن- إلى حيث تكتسب دلالتها الإيجابية الفاعلة. استند هذا الاتجاه الجديد- الذي أسس لحركة الحداثة المعاصرة فيما بعد- على الرؤية الحية الكاشفة لأبعاد الواقع، وعناصره الجوهرية، ولظواهره النامية، وصراعاته بمختلف أشكالها. فنشأت موضوعات وأغراض شعرية جديدة لم يتطرق لها أو يلجها الشعر العربي من قبل، والمسرحية، والقصة، -بكل أبعادها الفنية- والأساطير والسّير الذاتية، إلى جانب الموضوعات الاجتماعية بتفاصيلها اليومية، بالإضافة إلى التوغل في القضايا الوطنية والقومية والطبقية.. وغيرها وغيرها. لقد كان تحديث شكل القصيدة في حقيقته هو استجابة لحركة الواقع وتدفّقه، عبْرَ بناء فني يتحقق فيه التلاؤم بين الشكل الجديد والرؤية الجديدة التي تشكل مضمون العمل الفني. إلا أن حركة التجديد لم تتوقف عند هذا الحد، بل استمرت في تحقيق وجودها وتعميق تجربتها، مؤسسة لمستقبلٍ سيزدحم بالتجارب وحرية التعبير والاختلال حول البنية والشكل والأسلوب واللغة والموسيقى والإيقاع. وغير ذلك مما حققته التجربة الشعرية الجديدة وما وصلت إليه من تطور أو تعثّر..!. والمعارك النقدية لا تزال تتصاعد، هادئة حيناً، وعاصفة أحياناً بين أبناء هذا الشكل أو ذاك. هذا الجيل أو ذاك هذه المدرسة أو تلك. وكل من هذه الاتجاهات يقدم حججه وأسانيده بطريقة يدعم فيها رأيه واتجاهه. وإن دلّ هذا على شيء إنما يدل على خصوبة التجربة الشعرية وثرائها منذ حركة الإحياء وحتى الآن. لكن الحقيقة الموضوعية الثابتة والتي لا مجال للنقاش فيها ولا