أيهما أخطر:
وكانت الحربة التي واجهت بها قوى البغي
والطغيان الأمة الإسلامية، هي التشكيك في
قيمها ومقدساتها بشراسة وعنف، وكان أيسر
ذلك وأخطره هو محاولة تشويه التراث
وتهجينه، أو على الأقل التشكيك فيه،
تمهيداً لفصل الأمة عنه، وإقامة الحواجز
بينها وبينه.
ولكن الأخطر والأمر الأدهى من ذلك هو أنه
قد تبعهم عن قصد أو عن غير قصد أصحاب
الطموحات الباطلة، الذين يعانون من الضعف
والخواء العلمي؛ حيث سّهل عليهم ـ بل ليس
ثمة أسهل ـ من أن يقوم شخص ما برصد بعض نقاط
الضعف ـ بنظره ـ، وإثارة جوٍ من التشكيك
بإثارة مشكلة هنا، وإطلاق شبهة هناك، ثم
تضخيمها وتهجينها بطريقة غوغائية هي أشبه
بأسلوب التهريج منها بالنقد، أو بالبحث
العلمي المنصف والرصين.
ثم إنه على أساس ما ينشأ عن ذلك من مناخ
نفسي مضطرب وضاغط، يشن هجماته الشرسة،
والكاسحة على الثوابت الأساسية، التي
ترتقي إلى درجة الضرورة والبداهة، بل
والمساس بصورة صريحة أحياناً بأقدس
المقدسات وأسماها، دونما مبرر أو دليل
معقول، ومقبول، بهدف خلخلة ثباتها،
وزعزعة وجودها، وتدمير حالة الحصانة
والمناعة لدى عامة الناس، الذين تبهرهم
الإدعاءات، وتستخفهم الطنطنات الخاوية،
من قبل ذلك الذي يعرف متى، وأين، ومن أين
تؤكل الكتف.
ثم يقدم باسم الدين، وباسم الفكر والوعي
البديل الممسوخ، الذي هو في الحقيقة مجرد
هجين مركب من استحسانات وتصورات،
وتصويرات، هي في كثير من الأحيان بعيدة عن
المنطق السوي، وعن روح الشريعة والدين، إن
لم تكن متنافرة مع أصوله وثوابته. وليصور
نفسه أمام الناس على أنه باعث حركة، ورائد
نهضة فكرية وحضارية. أراد ان يقيمها على
رفاة الإسلام الذبيح.
التحقيق في التراث:
وكل ما تقدم ينتهي بنا إلى القول: إنالمبادرة إلى تحليل النص قبل ثبوته، وقبل
التوثق من صحته وسلامته، ثم الاستنتاج
والاستفادة العملية منه تصبح أمراً غير
عملي، ولا منطقي، كما إن الاستدلالات
الساذجة والسطحية، والاستحسانات
المحكومة بمسبقات ذهنية رديئة ومتخلفة
تصبح هي الأخرى غير مقبولة ولا معقولة
أيضاً.
هذا، بالإضافة إلى أنه لا يجوز أن يصبح
التراث، وخصوصاً السيرة النبوية
المباركة، عرضة لتطفل من لا يملك المؤهلات
الكافية لإنجاز عمل تحقيقي وافٍ وعميق،
يميز الصحيح من المزيف، والسليم من المحرف
لأن أي خطأ، أو إفراط، أو تفريط في ذلك
معناه الاستهانة بمستقبل هذا الإنسان،
وتريضه لخطر كبير واكيد.
ضوابط لحفظ الإنحراف:
أما الوسائل والمعايير التي يمكنبواسطتها معرفة الصحيح من السقيم فليست
جميعها مما يصح الاعتماد عليه في ذلك، بل
إن بعضها من وضع دعاة التزوير وروّاده؛
بهدف تأكيد الإنحراف، وحفظ تلك الترهات
والأباطيل. لا لأجل التخلص أو التحفظ منها.
ومن السذاجة بمكان أن نتوقّع من دعاة الدس
والتزوير أن يضعوا طريقة، أو يستسيغوا
وسيلة تبطل كيدهم، وتبدد جهدهم. بل هم سوف
يضعون ضوابط تحفظ لهم هذا الجهد، وتساهم
في تعمية السبل إلى كشف الزيف. ولسوف
يوجدون كل المبررات ـ حتى باسم الشرع
والعقل، والدين والعلم ـ التي تعطي
ترهاتهم واباطيلهم وتحريفاتهم المزيد من
الصلابة والتجذُر في فكر الناس وفي
نفوسهم.
وقد نجحوا فيما أرادوه أيما نجاح، وأصبح
نقل جبل من مكان أسهل وأيسر من اقتلاع
أباطيلهم من فكر الناس ومن حياتهم. لاسيما
بعد أن تقادم عليها الزمن، واصبحت جزءاً
من تاريخ أحاطوه بهالة من القداسة،
واعتبروه من أمجاد الأجداد ـ السلف الصالح
بزعمهم ـ للأولاد والأحفاد الذين سلكوا
طريقهم بكثير من حسن النية، وسلامة الطوية
لدى الكثيرين منهم.
والذي ساعد على ذلك أيضاً: أن هؤلاء
الأحفاد لم يكونوا مؤهّلين للتعامل مع هذا
الواقع من موقع الخبرة الواسعة، والهيمنة
العلمية، والوعي الصافي والكافي لاستشعار
الخلل، وتلمس آثاره ثم مواجهته بمسؤولية
وثبات.
ولا ننسى: أن الكثيرين من هؤلاء قد عاش على
فتات موائد الحكّام، ورضي أن يقوم بدور
المقرر والمبرر لكل خطهم ونهجهم،
وطموحاتهم، وحارب من حاربوا، وأحب من
أحبوا؛ فكان أن محقوا الدين باسم الدين،
واستبدلت أحكام الشريعة بأحكام الأهواء،
والنظرة الإلهية بالنظرة الشيطانية
الماكرة والفاجرة.
أمثلة ونماذج:
وإذا أردنا أن نقدم نماذج حية للضوابط