بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
ملأت بلادهم عجاجاً وقتاماً حتى اسود ما بين السماء والأرض ومكثوا أياماً متحيرين في تلك الظلمة لا يفصلون بين الليل والنهار، وأرسل الله تعالى ميكائيل فاحتمل الصورة التي فيها جرجيس، حتى إذا أقلها ضرب بها الأرض ففزع من روعها أهل الشام أجمعون فخروا على وجوههم صعقين، وانكسرت الصورة فخرج منها جرجيس حياً. فلما وقف يكلمهم انكشفت الظلمة وأسفر ما بين السماء والأرض ورجعت إليهم أنفسهم. فقال له رجل يقال له طرفلينا: لا ندري يا جرجيس أأنت تصنع هذه الأعاجيب أم ربك! فإن كان ربك هو الذي يصنع هذا فادعه يحيى موتانا؛ فإن في هذه القبور أمواتاً منه من يعرف ومنهم من لا يعرف. فقال له جرجيس: لقد علمت ما يصفح الله عنكم هذا الصفح ويريكم هذه الأعاجيب إلا كانت عليكم حجة، فتستوجبوا غضبه، ثم أمر بالقبور فنبشت وهي عظام رفات وأقبل على الدعاء، فما برحوا من مكانهم حتى نظروا إلى سبعة عشر إنساناً: تسعة رهط وخمس نسوة وثلاثة صبية، وإذا فيهم شيخ كبير. فقال له جرجيس: يا شيخ، ما اسمك؟ فقال: يا جرجيس اسمي نوبيل. قال: متى مت؟ قال: في زمان كذا وكذا. فحسبوا فإذا هو مات منذ أربعمائة سنة. فلما نظر الملك وأصحباه إلى ذلك قالوا: ما بقي من أصناف العذاب شيء إلا وقد عذبتموه به إلا الجوع والعطش، فعذبوه بهما. فعمدوا إلى بيت عجوز كبيرة، وكان لها ابن أعمى أصم أبكم مقعد، فحصروه في بيتها ولا يصل إليه من عند أحد طعام ولا شراب. فلما بلغ به الجوع قال للعجوز: هل بقي عندك من طعام أو شراب؟ قالت: لا والذي يحلف به ما عهدنا الطعام منذ كذا وكذا، وسأخرج ألتمس لك شيئاً. فقال لها جرجيس: هل تعرفين الله تعالى؟ قالت نعم. قال: فإياه تعبدين؟ قالت لا. فدعاها إلى الله عز وجل فصدقته، وانطلقت تطلب له شيئاً، وفي بيتها دعامة من خشبة يابسة تحمل خشب البيت، فأقبل على الدعاء، فاخضرت تلك الدعامة وأنبتت له كل فاكهة تؤكل أو تعرف، حتى كان فيا اللوبيا واللبان مثل البردى يكون بالشام، وظهر للدعامة فروع من فوق البيت أظلته وما حوله. فأقبلت العجوز وهو فيما شاء يأكل رغداً. فلما رأت الذي حدث في بيتها من بعدها قالت: آمنت بالذي أطعمك، فادع هذا الرب العظيم ليشفى ابني. قال: ادنيه مني، فأدنته، فبصق في عينيه فأبصر، ونفث في أذنيه فسمع. قالت له: أطلق لسانه ورجليه رحمك الله. قال: خذيه فإن له يوماً عظيماً. وخرج الملك يوماً ليسر في مدينته، إذ وقع بصره على الشجرة، فقال: إني أرى شجرة بمكان ما كنت أعرفها به. قالوا: تلك شجرة نبتت لذلك الساحر الذي أردت أن تعذبه بالجوع، فهو فيما شاء وقد شبع منها وأشبع العجوز الفقيرة وشفى لها ابنها. فأمر الملك بالبيت فهدم وبالشجرة لتقطع. فلما هموا بقطعها أيبسها الله تعالى وردها كما كانت أول مرة، فتركوها. وأمر بجرجيس فبطح على وجهه وأوتد له أربعة أوتاد، وأمر بعجلة وأوقرها أسطواناً وجعل في أسفل العجلة خناجر وشفاراً، ثم دعا بأربعين ثوراً فنهضت بالعجلة نهضة واحدة وجرجيس تحتها، فانقطع ثلاث قطع، فأمر بقطعه فأحرقت بالنار، حتى إذا عادت رماداً بعث بذلك الرماد وبعث معه رجلاً فذروه في البحر، فلم يبرحوا من مكانهم حتى سمعوا صوتاً من السماء: يا بحر، إن الله يأمرك أن تحفظ ما فيك من هذا الجسد الطيب، فإني أريد أن أعيده كما كان. ثم أرسل الله تعالى الريح فأخرجته ثم جمعته حتى صار الرماد صبرة كهيئته قبل أن يذروه؛ فخرج منه جرجيس مغبراً ينفض رأسه، فرجعوا ورجع جرجيس، فأخبروا الملك خبر الصوت الذي سمعوا والريح التي جمعته، فقال: هل لك يا جرجيس فيما هو خير لي ولك ما نحن فيه؟ ولولا أن يقول الناس إنك قهرتني وغلبتني لاتبعتك وآمنت بك، ولكن اسجد لأفلون سجدة واحدة واذبح له شاة واحدة، ثم إني أفعل ما يسرك. فقال له نعم، مهما شئت فعلت، فأدخلني على صمتك. ففرح الملك بقوله فقام وقبل يديه ورجليه ورأسه وقال: إني أعزم عليك ألا تظل هذا اليوم إلا عندي، ولا تبيت هذه الليلة إلا في بيتي وعلى فراشي، حتى تستريح ويذهب عنك وصب العذاب، ويرى الناس كرامتك علي، فأخلى له بيت فظل فيه جرجيس، حتى إذا أدركه الليل قام يصلي ويقرأ الزبور، وكان أحسن الناس صوتاً. فلما سمعت امرأة الملك استجابت له، فلم يشعر إلا وهي خلفه تبكي معه، فدعاها جرجيس