بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
البلاد، والعلماء الذين حفظوا آلاف الصفحات، والشعراء والمعماريين. كان حتى السياسيون الخائبون الذين يحكون عن تجربتهم حتى إعدامهم أو سقوطهم، يستنتجون في تلك الأمسيات ما كان يجب أن يستنتجوه في الحياة. ولم توجد هناك حواجز بين النساء والرجال. ففي اللقاء يتجاورون لا فرق في السن والجنس , تنفرد النساء فقط عندما يستقبلن امرأة لم تألف بعد العادات في مملكة الصمت، ولم تقطع بعد علاقتها بعالم الأحياء. وتحتاج الحنان الذي ينتزع الانسان من الأحزان. انعقدت تجمعات صغيرة لبحث أمور تفصيلية، كلما دفع حارس المقبرة بقدمه قبراً ما عاد يزار، خاصة في الأعياد. ثم نبشه وجعله مأوى لقادم جديد. كان حارس المقبرة يعجز عن فهم الحقيقة التي يعرفها الموتى:أن الذين هاجروا أو تغيروا هم الأحياء. أما الميت فما يزال في مكانه، يزداد حكمة وهو يستمتع بالخلود! لكن ما كان صدفة قبل عشر سنوات، أصبح وضعاً يومياً الآن. فالحارس يبيع القبور ويحشر في الواحد منها ما لا يتسع له بيت عربي قديم. ذلك هو سبب الاجتماع الكبير الذي دعا المنادي إليه! لم يبق رجل أو امرأة أو ولد، قديم أو حديث، إلا نهض. وكان المشهد جميلاً فالقمر بدر، وظلال السرو القليلة مرسومة على الأرض، ومثلها ظلال الشواهد، وبين ذلك تتحرك في هدوء ثياب بيضاء فضية، وضحت ثنياتها الظلال. ظهر ضيوف قدموا من الصالحية والباب الصغير ومن مقابر خاصة، وأتى المشردون الذين سرقت قبورهم فصاروا يمضون الأيام في الحدائق وتحت الجسور. في الصدر وقف نور الدين الشهيد، وصلاح الدين، وست الشام، والصاحبة خاتون، أختا صلاح الدين، وسودون الذي هدمت مئذنته في سوق ساروجا وأجرت مخزناً . وينال الذي هدم ضريحه مقابل الشامية . ومعين الدين أنُر الذي هدمت قبته وضريحه في سوق ساروجا. والمزدقاني، المقتول، في القلعة الذي هدم مسجده فلجأ إلى بيت الجيران . وست ستيتة زوجة تنكز التي أجر ضريحها لبائع قماش. وابن أبي عصرون، والكندي، وزوجة نور الدين، بنت معين الدين أنُر، والزهراوي والعسلي.. وبدا أن بعض الضيوف لم يلتق ببعضهم الآخر منذ زمن طويل . كيف حدث ذلك ؟ الموت وهو حرية ؟ الحزن والعتب وهو ممنوع؟ لكن كان منهم من يزور ويزار ويلتقي بمن تمنى أن يراه يوم كانت تبعده عنه مئات السنوات. انساب الكلام في هدوء. كان الاجتماع يليق بأولئك الرجال والنساء. رصينا دون تصفيق، دون مقدمات، دون رغبة في رضا من يتحدثون إليه. فبدت اللغة نقية كأنها الماء النظيف. وسمعت كل كلمة تقال من أقصى المقبرة إلى أطرافها المقابلة. وبدا أن كلمة الاجتماع:" لا يمكن بعد الصمت " تعني ترتيب الأمور لا الغضب الأهوج، معالجة المشكلة لا إضافة مشكلة إلى ما هو موجود. قدم الضيوف إلى الصف الأول حيث يقف العقلاء والحكماء. لكن الجميع كانوا متساوين في الكلام. بينوا في دقة واختصار ما تعاني منه مملكة الصمت. ووصلوا مشكلة الفرد بالجمع، فظهرت جمهورية عظيمة أهلها حكماء. ومع أن الانفعال محرم، منسي، بدا التأثر لمحة خاطفة على نور الدين فأمسك بيد صلاح الدين. وبدا كل منهما كما كان في القمة . ولم تكن في المقبرة أعلام أو شعارات. ولم تعلق أقمشة وخروق . فكان الاجتماع مذهل الجمال. رسموا حارس المقبرة كاملاً، في عدل. يعالج بنته المريضة، في الغرب، لذلك يسرق القبور. ويوزع المال ليبقى حارساً . لكن هذه المسروقات ليست من أرض سائبة. بل من أشخاص موجودين. يدفع الميسورون للحارس ألوفا ليفتح القبر القديم، ويضع فيه القادم الجديد. حتى أصبحت القبور كالقواويش لا تتسع ولو وقوفاً للقدماء والمحدثين. ابتسم شرف الدين بن أبي عصرون. ماذا يقول؟ باسمه سميت المدرسة العصرونية في الأيام الذهبية. فمن يعرف مكانه اليوم؟! من يستطيع أن يراه وقد سد المنفذ إليه؟ نعم، تباع الأوقاف، ومنها وقفك يانور الدين! بدا لنور الدين أن المشاكل التي حلها في حياته، ومنها تحرير دمشق، وتوحيد الامارات، والانتصار على الفرنجة، أهون من حل المشاكل التي ينظر فيها الآن. لكنه ابتسم هو أيضاً :ماذا أقول لك يا ابن أبي عصرون، وأنت على بعد خطوات مني، وكم رأيتك أمامي في أول الليل! ألم تر السراويل معلقة على جداري، ألم تر علب المسكة ودهان الأظافر، وزينة الشعر، مصفوفة على نافذتي؟ من يعرف من الناس أني هنا، وكنت محرر دمشق، وبنيت هنا المدرسة النورية ، وعلى بعد خطوات البيمرستان، مدرسة الطب، الذي تفتنني حتى اليوم قبابه الجميلة ! كان الكندي يبتسم." لماذا؟ لم يسرق قبري وتلك مكافأة عظيمة! لكن الغبار يخنقني. حولي مستودع لما فاض عن السوق والموممين.