بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الأحقاد في الدنيا، تركوا الأملاك والبيوت والأثاث، وكل ما سفكوا فيه الحياة، وما قتلوا لأجله الأعزاء، واغتالوا لأجله الإخوة، وغدروا لأجله بالمستجير. في مملكة الصمت لا مالك ولا سيد ولا عبد. المكانة فقط لمن سجلهم الحب كالكنز. لذلك لم يرد قرار المجتمعين خوف أو تردد، وقبلوا ما اقترحه العقلاء:الخروج إلى المدينة في هدوء وحزم . ستتجمع أصوات النساء والرجال والأولاد في نداء واحد:" أفيقوا أيها النيام! الذاكرة التي تضيعونها ليست لكم، بل للزمان. أنتم فجوة الحاضر، ونحن حق الغد. انظروا! لديكم صحاري وقفار تضيفون إليها كل يوم قفاراً. هناك اتركوا بصماتكم، إذا كنتم تتحملون مسؤولية صورتكم أمام الزمان!" أدهش الفتاة، القادمة الجديدة إلى مملكة الصمت، ذلك الإجتماع وتدفق فيها ما لم تشف بعد منه من السخرية والغضب والأفراح، من عواطف الأحياء . أخطأت إذن بالحزن وقت الوداع على الحياة التي تومض كالبرق هناك. فهنا يمتد الزمان، وهنا يجتمع الأحياء. قالت للمرأة :" مخظوظة لأني وصلت إلى هنا في الأوان!" لم تر بوابة المقبرة ، ولم يعرف الشارع الواسع مثل ذلك الحشد قبل ثورة مملكة الصمت. رجال مهيبون، نساء جميلات ، رشاقة وأناقة ، والأكفان البيضاء متموجة في القمر! انحنى حتى السرو كأنه يريد المشاركة في مظاهرة الموتى . وسار علىعرض الشارع في هدوء، فنانون لم تبق لوحاتهم في البلاد. ورجال علماء كتبوا عشرات المجلدات في ضوء الشموع والسراج. وصناع نقشوا الخانات والقصور والبيوت والبحرات منحنين عليها عشرات السنوات. قادة معارك بين الشرق والغرب. نساء درسن الرجال في المدارس قبل خمسمئة سنة . شاعرات عاشقات بعثر الزمان أشعارهن في الهواء. سمع حارس المقبرة حفيف الأكفان، فأيقظ شرطة البلدية التي ستتهيأ في الفجر للنزول إلى الأسواق، لتقلب سحارات الخضار وتصادر الفواكه والموازين والعربات، وتركل باقات النعناع، وتدعس البندورة والخيار. واستدعى الذي يصادرون الدراجات ويكومونها في سيارات ثم يرمونها في فناء. وسمع في المدينة صوت الأقفال والخزائن والكراسي التي تحصن الأبواب. وأنزلت الستائر وأخفي الأطفال. وصفت طاسات الرعبة، وصواني النحاس قرب الجدران ثم.. انطلق الرصاص. رصاص لم يهطل حتى المطر في مثل غزارته في أيام الخيرات. فتطايرت العظام، وتمزقت الأكفان، واستدارت شجرات السرو القليلة إلى الجدران. وضاعت المرأة والفتاة. وبعد قليل، لم يبق على الأرض سوى حطام، وخليط من أكفان وعظام، وقمر لم يشأ أن يغيب رغم رغبته في الغياب، وانهمر فوق الأكفان والعظام في رنين كأنه ينوح ، بعد أن سكت الرصاص. دمشق 1991 ليلة المسرحية لايذكر الموتى أنهم رأوا مثل هذه الليلة. لا ! تبدو كأنها نهاية الأيام! لارغبة لي في الفرجة على هذا الهوان، لكني تفرجت بملء عيني كيلا تفوتني لمحة مما أراه. جددت مااؤمن به، وجلوت الحب والحكمة والغضب! ورأيت مرة أخرى صلة الرحم بين الأرض والناس! تجدد ماتؤمن به؟ وأنت ممن لاتشيخ قلوبهم! وأنت ممن تمر الحياة أمامه وتبقى موازينه مناسبة لها. ولأعترف لك:أخشاك أحيانا يانور الدين، وأنت تستشف مالايرى! لست متسرعا، حاشاك، لكنك تسبق بحكمك مالايحيط به النظر. وأعرفك إذا صمت! فذلك لأنك تتحاشى أن تفاجئ من حولك بما لايتوقعه! أنت وقتئذ تتريث حتى يتهيأ من حولك لما لم يتضح بعد. حدثت ضجة، في تلك الليلة، في مملكة الصمت. توافد أهلها إلى الساحة ليطلوا على الدنيا التي تركوها من زمان . ففي وسطها نصب مسرح. وفي القاعة أمامه صف الشهود والمتفرجون. هؤلاء هم رجال العالم اليوم، ياصلاح الدين؟! لم تخف السخرية على صلاح الدين. فنور الدين يلمح الضعف والغرور حتى في الملابس، ويخترق الصوت ليقدر الصدق والكذب. فيرتبك أمامه أكبر الناس ارتباكه أمام المتصوفين. في حطين محا صلاح الدين ماكان بينه وبين معلمه نور الدين من فتور. ولعله محا أكثر من ذلك وهما يتابعان، من مملكة الصمت، البلاد التي تركاها، ويتبينان أن أفكارهما تسلك طرقات متشابهة. ولكن لماذا يخيل إلى صلاح الدين هذه الليلة، أنه أقدر من نور الدين على تحمل المسرحية التي تعرض في الدنيا؟ وهل كان يستطيع إبعاده عنها، وأصغر سكان مملكة الصمت سار إلى الساحة للفرجة! في طريقهما إليها صادفا حشدا متنوعا، فيه أهل دمشق الذين وقفوا على الأسوار يوم وصل الفرنجة إلى الربوة. والشباب الذين هرعوا لينقذوا صفد. وإحسان كم ألماظ الذي اغتيل