بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
يكونوا عقلاء وأن يبرهنوا على نية حسنة. طلب منهم ألا يخيبوا ظن الشهود والمحتفلين. وروي أن المباحثات سترسم سور الحديقة التي سيوضع فيها أهل البلاد، وستنظف اللغة من كلمات احتلال، مستوطنات، هجرة، عدوان، وستزين قاعات أخرى للاحتفال بالمساواة بين الأقوياء والضعفاء، وبين الغرباء وأهل البلاد. من طرف كتفه لمح القسام آخر صور المسرحية وقال:انتفضنا سنة 1936 لنوقف الهجرة، ولم تكن كما هي اليوم! فجذبه سعيد العاص من يده إلى الأمام حيث الشباب. ياشيخ، لسنا اليوم في مسجد حيفا الكبير، فلاتبدأ درسك! قل لي، من بقي في ذاكرة جيلي وجيلك، عبد الرحمن اليوسف، أم يوسف العظمة! لاتقلق على الأحياء إذا ظل إنسان منهم يذكرنا هناك! سيهربنا المخلصون من جيل إلى آخر، ومن حلم إلى حلم! قلقي على الأحياء فقط، ياسعيد؟ قلقي على هؤلاء الشباب الذين يقتلون اليوم مرة أخرى! كان نور الدين كعادته قد حزر مايجب أن ينجزه. وعندما التفت سعيد رأى رايات مرفوعة، ورجالا على جياد، ومشاة، وآليات حديثة، حشودا متنوعة الأسلحة والملابس والألوان، وملامح تركمانية وشركسية وكردية وعربية. وتبين جمالا نادرا لم يصادف مثله في حياته. جمع نور الدين كل من دافع عن هذه البلاد، وأعاد القادة المنتصرين كي يكرروا نجاحهم، والقادة المهزومين كي يحاولوا الانتصار، وتناسى الأخطاء الصغرى التي فرقت الأصحاب والأقرباء. جمع من الأزمنة الطويلة كل من استطاع. نادى حتى أسراب الطيارين وطواقم الدبابات. ولم يتخلف أحد من شيوخ القسام حتى الجنود الصغار والفدائيين الشباب. وبينهم كانت فتيات بالبنطال ونساء بملابس مطرزة وأغطية بيضاء. وجميع المحكومين بالإعدام. مشى الحشد مهيبا، جميلا. فاستعجل القسام سعيدا، وهو يمسح من عينيه الدموع. " يالحزن من يفكر في كل هؤلاء، ويالقوة من يفكر في كل هؤلاء !" جلطة انعقد يومذاك بيني وبينه الحوار . ولم أفهم أني بذلك كنت أعبر البوابة إلى هنا من هناك. وجدت يومذاك على طاولتي بطاقة باسمي من المدير، تدعوني إلى اجتماع . وقبل ذلك اليوم، كانت حتى رسائلي الشخصية تضيع في غرفة البواب. قرأت اسمي على البطاقة وتساءلت دهشاً :ماذا جرى؟ وسمعت الجواب! يقيم المدير احتفالاً مصوراً يجب ألا يغيب عنه أحد. مشيت إلى الإحتفال. ورأيت لأول مرة صالون المدير الذي كان محجوزاً للضيوف الكرام . أدهشني أن المدير كان واقفاً عند الباب يستقبل كل واحد منا، يصافحه ويستوقفه ليسأله عن صحته وأسرته وحاله. جلست مع الجالسين في حلقة كبيرة ، وجلس هو في الصدر. قدمت لنا القهوة المرة، وسلال السكاكر . ثم بدأ مديرنا الكلام فقال:اغفروا لي ما مضى! لنقل معاً:طواه العالم القديم! كان لابد لي ، كرؤساء المؤسسات، من حاجب يمنع وصولكم إلي. كان لابد لي من سكرتير ينقل لي صورة الواقع كيلا تشوشها الآراء. ولابد من سائق يفتح لي باب السيارة وباب المصعد وينحني فتنحنوا لي مثله. كنت في سياق ذلك الزمان! من حظنا جميعاً أن ذلك العالم البيروقراطي انهار، كما انهار سور برلين، وأشرق عصر الديمقراطية ، وأصبحنا مجتمعين معاً فيه. ألتقي بكم اليوم، لأطلب أولاً اعتراف كل شخص به، ولأعلن ثانياً أن مكتبي سيكون كالبيت الأبيض، تستطيعون أن تجتمعوا أمامه رافعين ما تشاؤون من يافطات. بل تستطيعون أن تدوروا أمامه دورات كما يدور المواطنون في تلك البلاد. الحرية شعار هذا الزمن! فلا تخافوا أحداً، ولا تخافوا من شيء! سندخل بجرأة العصر الجديد، وسنبرهن للعالم على مستوانا الحضاري ! فلنقتلع العداوة والكره من القلوب ! أعلن لكم على مسؤوليتي:لا يوجد عدو! كان مديري الذي ألقى علينا تلك الخطبة بصوت عميق حنون، واقفاً أمامنا ثم أمر لنا بالمشروبات ، قد سجن مرة أحد الموظفين في الحمام، وحسم رواتب كثير من الموظفين ، وفرض أن تكون جدران مكاتبنا من الزجاج ليرانا ولا نراه . كان يرفض اللقاء بنا، لكنه يفتح بواباته للرجال المهمين أكانوا تجاراً أم سياسيين . وقد صادفه سكرتيره مرة ينحني للتلفون كأنه ينحني لمن كلمه به. كان ذا أعاصير. وقد عانيت شخصياً منه يوم قصف حلمي كما يقصف الورد. كنت مرشحاً للسفر بمنحة لم تتوفر شروطها إلا لدي:لست متزوجاً، وعمري هو المطلوب، اللغة التي أعرفها هي المرغوبة، والخبرة نفسها تماماً. لكنه رشح مكاني ابن أخته من فوق السطوح دبر له المنحة وأبعدني. قبل أن أتذمر أرسل حاجبه فقال لي:لا نريد كلاماً لا طعم له! تذكر أن مصير الإنسان في لسانه!