بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
بدأت أفراسنا تصهل صهيلاً متقطّعاً، انتصبت آذانها الصّغيرة ترهف السمع إلى خطوات المرأة الملهوفة التي تجري وراءنا.. وهي ما تزال تهتف:- يالْدولة.. لماذا تتجاهلون البيت، وتمرّون مبتعدين؟!. دنت المرأة أكثر، صارت أمامنا.. تقهقر فرسي خطوتين، بينما أمسكت يدها باللجام، بدا لي أنّها صبيّة؛ بزغت كالحلم... بدت وقفتها وهي ممسكة باللجام فريدة.. - ولكن أين رجل البيت؟.. تجاهلتِ السؤال، نظرتْ بكبرياء إلى رفيقي الذي سأل، أقبلت عليّ، كأنها أدركتْ بغريزتها أنّني رئيس الدورية.. - إنه في المنطقة.. وأشارت إشارة مبهمة.. قلتُ:- نحن في مهمّة:ردّت بثقة:- لا يمنع أن تنزلوا بيتنا.. هذا البيت لا يسمح لأحد أن يمرّ دون أن يقوم بواجب الضيافة!.. تسمّرت أمامي، دون أن تنبس ببنت شفة.. راقت الفكرةُ لرفيقيّ.. تململا.. وهمسّ النحيلُ من تحت شاربيه الغليظين.. - لابأس. رفعْتُ نظري إليها، أيّ صبيّة هذه؟ صورة حلوة في أرضية غير مناسبة، والقمر الصغير يُطِلُّ من عليائه فوق رؤوسنا، ونحن نسبح في إطار انفعالات مخبوءة.. قلتُ بحزم:- لا مجال الآن.. نشكرك.. لكنها لم تتحرّك من مكانها.. حتى خيولنا حبست أنفاسها، والصبية بدل أن تتراجع تقدّمت مصوّبةً نظرة ثابتة نحوي، توقّفتُ مأخوذاً، والنّحيل يستحثّني ثم تركتُ اللّجام جانباً، فجذبَتْهُ إليها، وسرنا،.. كأنّما قوة خفيّة تجذبنا، ونحن منوّمون.. أيّة قوّة تملكها هذه الصبية، لكنّ الرغبةَ هي الأقوى، ولا شيء يمكن أنْ يوقفَها.. أمام البوابة ترجّلنا، أخذتْ بخيولنا جانبَ البيت، زوّدت المعالف بسخاء. وفي المضافة جلسنا، ونور المصباح يسطع فوق حشيّات ناعمة من جلود الأغنام، تهالكت أجسادُنا المكدودة، النار بدأت تشيع دفئاً فينا. ورائحة القهوة عبقت تُشعر بالأمان، وعيوننا تتأمّل الجدارَ الكلسيّ تتراقصُ فوقَه أخيلتُنا.. لمحتُ فوقَه خنجرين وسيفاً بغمده.. قَوَيت النارُ أكثر.. تابعتْ أعينُنا بإيقاعٍ مرح تنقّلَ الصبيّة مِنَ المضافة إلى الفِناء وهي تهيءّ الطعام،.. تصرّفَتْ على سجيّتها،... شعرُها تحتَ منديلها الأرجواني طويل، أحاط بوجهٍ حنطيّ اكتسى بلون الورد، وقد لفّ قوامَها الممشوقَ ثوبٌ أزرق، زهراءُ بَدَت... ناعمة.. ذات رموشٍ حالمة تنتزعُ التنهّدات مِنَ الحجارة، مِشيتُها الوحشية جميلة وجامحة كفرس السّباق؛ شعرنا بالهدوء والراحة والدفء.. سمعنا صهيلَ خيولنا علامة الفرح والعرفان.. لم تترك الصبيّة فرصةً لنا لنسأل.. بل كانت تحدّثنا بطلاقة وترحيب.. مِنْ تحت الأغطية سحبتْ كيساً مملوءاً بالتّبغ، قدّمتُه.. - تفضّلوا.. يا هَلا.. دخّنوا.. كان رفيقي الناحلُ ينظر ببلاهة. انتابه تَوْقٌ مرضيّ إلى أن يفعل شيئاً.. مدّ يده إلى الكيس وعيناه معلّقتان بوجهها، كان ينهلُ مِنْ تقاطعيه الحلوة وشارباه يرقصان.. لا مفرّ من ذلك، رائحة الليل محمّلَة بالخدر الّلذيذ، والنّعاس، والحبّ، والأحلام.. أحسستُ ذلك المساء، أن قلبه سيرتكب، وبوعي كامل جنوناً أخيراً، دفعتُ كفّي إليه أنبّه.. الحياة الخاصة خِلافاً لكلّ شيء متقلّبة ومليئة بالمفاجآت.. بدا أنّه متحررّ مِنْ كلّ سراب. كان يحلُم. مثلنا.. لكنّه كانَ يحلُم، بجنون.. بدا لي أنّه ليس نحيلاً ومحزوناً فقط، بل بائس.. وثقيل الظلّ وهو يداعب شاربيه المرتجفين.. غدتْ وجوهُنا متأثرةً بجوّ الليل الذي صار دافئاً.. وهادئاً.. ومتألّقاً.. أسرعت إلى طحين في كيس مسنود إلى الجدار، وما إن قويت النارُ أكثر حتى صار العجين جاهزاً.. ساحرة ووحيدة، تروح وتجيء أمامنا. قدّمت لنا كلَّ ما عندها من طعام، وأحسسْتُ أنّني بعد قليل سأختنقُ لفرط سعادتي فقد جاءت الأرغفة الطازجة الشهيّة، ورفيقاي أقبلا على الطعام في شراهة... النّاحل فكّ حزامه الجلدي وتركه جانباً، اكتفى بعدئذٍ فمسَح بِكُمِّ سترته فمّه، وبدأ يدخّن وهو ينظر إليها... هَمَس:- ألم ترها جيداً.. تناقلت أنظارُنا همساتٍ سرّيةً، الخَدَرُ اقتنصَ أعضاءنا، وتوسّدها.. الخدر اللذيذ يسري فينا.. لمرأى النّار والصّبية ورائحة القهوة، ودخان التبغ، أُخِذَ ذو الشاربين بمرآها وتوهّجها.. لكَزني.