بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
في تعريف القدماء ما يعطي صورة واضحة للبلاغة."(36) فهناك كثير من التعريفات لها عندهم ذكرنا شيئاً منها؛ وعرض لعدد كبير منها صاحب كتاب (التفكير البلاغي عند العرب) الذي رأى أن كثيراً منها لا يحقق الشروط الدنيا للمعنى المنطقي الاصطلاحي وإن توافر فيها جملة من الخصائص الأسلوبية المستمدة من النص . وقد قرر أن البلاغة لم تخرج عن معناها اللغوي (الفصاحة والإبانة).(37) أما تعريف البلاغة عند اليونان فقد كان واضحاً، واتجه ثلاثة اتجاهات من جهة الهدف؛ فإذا كان هدفها أصول الكلام الرفيع الذي يقتضي الإفهام والتصرف وتأكيد الاعتقاد والإقناع فهي (فن الكلام الرفيع)؛ وإذا كان هدفها الكشف ضمن الخطابات المتعددة، عن الطرق القابلة للتعليم وإيصالها إلى الآخرين بحالات مختلفة فهي (تعليم فن الخطابة)؛ وإذا كان هدفها "دراسة الخطاب ليس لاستعماله ولكن لفهمه" من جهة أنها تفسيرية لا معيارية فهي (نظرية الخطاب المقنع).(38) ومن هنا قد يكون الفارق الحضاري اللغوي والفني والفكري سبباً في بروز الفرق في الدرس البلاغي بين العرب وبين اليونان ويؤكد ذلك اتصال الدرس البلاغي في مستوياته كلها ونتائجه بالدرس اللساني واللغوي الغربي الحديث. وقد رأى منذر عياشي أن هناك تعريفين لدى العرب يقتربان من تعريفات اليونان؛ تعريف ابن المقفع ويقول فيه: "البلاغة كشف ما غمض من الحق في صورة الباطل" وتعريف خالد بن صفوان، ويقول فيه: "البلاغة إصابة المعنى والقصد في الحجة".(39) ولا بأس أن نقرر هنا ما قرره ابن عبد ربه في تعريفها "البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته ومقام الكلام عند تفاوته."(40) "ذلك أن هذا القول إنما هو تعريف لغوي ولساني لعمل الأسلوب في انسجامه مع السياق المعبر عنه، ومراعاته للمتغيرات عند تفاوت أصناف الخطاب ومستويات المتكلمين".(41) وبذلك كله فإن الدرس البلاغي عند العرب ظل منشداً إلى الدراسات الإعجازية في القرآن وإلى الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية القائمة على الشعر العربي وبيان خصائصه . وما أحرانا نحن العرب- اليوم- أن نتمسك بمنهج القدماء ورؤيتهم، وإن انفتحت أعيننا على الدرس الغربي الذي أخلص لتراثه البلاغي وغيره. فاللغة العربية متفردة بما تملكه من خصائص ذاتية، وأساليب بلاغية وتبرز طاقات هائلة من الإشارات والإيحاءات البلاغية والجمالية وتؤكد نصوصها الأدبية مستويات أسلوبية رفيعة لا توجد في أي نصوص أجنبية ومن ثم فإن التصور البلاغي عند العرب إنما هو نتيجة لما يمتلكونه من نصوص كثيرة ومتنوعة دينية وأدبية ولغوية . وهي نصوص معرفية تعبر عن مجمل قضاياهم بل تفكيرهم وحضارتهم . وهي التي كانت وراء عدم وجود تعريف بلاغي شامل لمفهوم البلاغة. وإذا كانت أي حضارة تلتقي مع أختها في بعض العموميات فإن (لكل حضارة مكوناتها الخاصة). وهذا يجعلنا نؤمن بلا أدنى شك بأن الدرس البلاغي عند العرب القدماء كان درساً متميزاً، وسبق في كثير من قضاياه ما عرفته الدراسات الحديثة اللسانية والأسلوبية وفي طليعتها البنيوية.(42) وبعدُ، فإن الدراسة البلاغية النصية عند العرب اعتمدت على الأبيات المفردة حتى مجيء الباقلاني (ت 401هـ) وابن شرف القيرواني (ت 460هـ) فدرسا النص كاملاً منطلقين في ذلك من التأثر بالنص القرآني . فقد كانت الدراسات القرآنية سابقة في هذا المجال، وقد قامت على النص الكامل لا الأبيات المفردة . وكلاهما تناول شعر امرئ القيس عامة ومعلقته خاصة ووازن بينها وبين النص القرآني . وما يعاب على الباقلاني أنه انحاز مقدماً إلى أسلوب القرآن، ولذلك أجحف في كثير من الأحكام بحق امرئ القيس. ومهما كان من انحراف المنهج عند الباقلاني فقد سبق في دراسته للنص المتكامل ما عرف لدى الغربيين بالدراسة النصية . واستطاع أن يتوقف عند كثير من الأساليب البلاغية اللافتة للنظر؛ . وكأنه في ذلك يحذو حذو أبي عبيدة وابن قتيبة في دراسة النص الكامل ممثلاً في القرآن الذي كان وحده سبيل الدراسة لديهما .(43) فإذا ما أتى عبد القاهر الجرجاني وجدنا الدراسة البلاغية تقوم على النص القرآني الكامل والنص الأدبي واللغوي لتقدم نظرات رائعة في إطار الأساليب البلاغية تنظيراً وتطبيقاً سبق بها أصحاب الدراسات الحديثة . وهنا يتوقف بنا المقام لئلا نخرج في بحثنا عن تعريف البلاغة وأساليبها لنؤكد من جديد