بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
منك](19). لكن بعض المتأخرين عنه حصر الفصاحة في العرب دون غيرهم من الأمم كالنويري (ت 733هـ) في قولـه: "ولا توجد الفصاحة إلا في العرب" بينما البلاغة لهم ولغيرهم.(20) وقال يحيى بن حمزة العلوي (ت 749هـ) في كتابه (الطراز): "اعلم أن الفصاحة في الألفاظ المفردة يجب أن تكون مختصة بخصائص: الخاصة الأولى؛ أن تكون اللفظة عربية قد تواضع عليها أهل اللغة؛ لأن الفصاحة والبلاغة مخصوصان بهذا اللسان العربي دون سائر اللغات من الفارسية والرومية والتركية، فلا مدخل لهذه الألسنة في فصاحة وبلاغة"(21). ونرى أن الفصاحة ليست ملكاً لأمة دون أمة؛ وإن كانت تقع لفرد دون فرد؛ ويقع الفرق فيها في الأحسن والأبرع والأكثر إثارة وجمالاً . ويؤكد هذا قولـه تعالى: وأخي هارون هو أفصح مني لساناً (القصص 28/34). وإذا كانت كلمة (أفصح) هي الكلمة الوحيدة في القرآن الكريم من مفردات الفصاحة، فإن الآية تثبت وجودها في أمم أخرى غير العرب . ولكن العربية في طبيعتها ومفرداتها وأساليبها التي انتهت إلينا، وفي إطار ما عرفناه من لغات الآخرين تدل على أنها "أوسع مناهج؛ وألطف مخارج؛ وأعلى مدارج؛ وحروفها أتم، وأسماؤها أعظم، ومعانيها أوغل، ومعاريضها أشمل، ولها هذا النحو الذي حِصَّتُه منها حِصَّة المنطق من العقل. وهذه خاصة ما حازتها لغة على ما قرع آذاننا، وصحب أذهاننا من كلام أجناس الناس؛ وعلى ما ترجم لنا أيضاً من ذلك".(22) وهذا ما نلمحه عند ابن الأثير (ت 637هـ) في قوله: "فإن كل لغة من اللغات لا تخلو من وصفي الفصاحة والبلاغة المختصين بالألفاظ والمعاني؛ إلا أن للغة العربية مزية على غيرها، لما فيها من التوسعات التي لا توجد في لغة أخرى سواها"(23). بهذا كله قد نكون أوضحنا مفهوم كلمة الفصاحة التي تعني البيان والظهور والبلاغة في الكلام وعند القائل، وفي صفة الأشخاص كما يوضحه قول عبد الله ابن رواحة في مدح النبي الكريم: لو لم تكن فيه آياتٌ مُبَيَّنةٌ كانت فصاحتُه تنبيك بالخبر وقد بيَّنا في الوقت نفسه أنها ملازمة لكلمة البلاغة التي دار معناها غالباً على معاني الفصاحة عند كثير من البلاغيين القدامى . حتى أصبحتا صنوين في الدراسات البلاغية عند كثير منهم . ثم أخذوا يفرقون بينهما فيما بعد . ولعل الدرس البلاغي في التفريق بينهما قد أفاد كثيراً من الدراسات التي بدأت تظهر لخدمة القرآن الكريم؛ ابتداء من كتاب (معاني القرآن) للفراء (ت 206هـ) وكتاب (مجاز القرآن) لأبي عبيدة (ت 210هـ)، وكتاب (نظم القرآن) الذي لم يصل إلينا حتى الآن للجاحظ (ت 255هـ). أما ما وصل إلينا من كتب الجاحظ فكلها تؤكد أنه لم يضع حداً فاصلاً بين الفصاحة والبلاغة على الرغم من أنه ساق جملة من تعريفات البلاغة في كتابه (البيان والتبيين)، ولم يُعرّف البلاغة، وكأنه ارتضى بتعريف ابن المقفع لها بعد قولـه: "لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظُه معناه، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك" ثم أورد تعريف ابن المقفع لها حين سئل: "ما البلاغة؟ قال: البلاغة اسم جامع لمعانٍ تجري في وجوه كثيرة"(24). وعلى الرغم من ذلك فالفصاحة لديه مرتبطة بسلامة النطق وصحة مخارج الألفاظ، ونقاء اللغة. وكذلك كان ابن قتيبة (ت 276هـ) فلم يشر إلى الفصاحة، وتوقف كالجاحظ عند قضية اللفظ والمعنى، واتفق معه على أن الألفاظ أحق بالرعاية والاهتمام وإن لم يهمل العناية بالمعاني؛ ولكنه نحا بدراسة الألفاظ والأبنية منحىً تطبيقياً جاعلاً النص الأدبي مدار حديثه في ضوء أشعار بعينها في كتابه (الشعر والشعراء) ثم اتجه بها اتجاهاً بلاغياً في كتابه (تأويل مشكل القرآن).(25) ولو تتبع المرء ما كتبه القدماء كالمبرد (ت 285هـ) في كتابه (الكامل في اللغة والأدب) وغيره، وثعلب (ت 291هـ) في كتابه (قواعد الشعر) وابن المعتز (ت 296هـ) في كتابه (البديع) لما ظفر بشيء واضح ودقيق يفرق بين الفصاحة والبلاغة. كما أن الفصاحة ظهرت مرادفة للبلاغة عند قدامة بن جعفر (ت 338هـ) في كتابه (نقد الشعر)؛ بل لم تأخذ المعنى الدقيق عند إمام البلاغيين عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ) فضلاً عن أنه لم يرَ في أسلوب المجاز فصاحة ولا هو رأس البلاغة عنده كما في كتابه (أسرار البلاغة)، بل لم يختلف مفهومهما عند بعض المتأخرين كالرازي (ت 606هـ) في كتابه (نهاية الإيجاز) والقرطاجني في (منهاج الأدباء).(26) ومن هنا يفرض البحث علينا أن نتبين معنى البلاغة قبل أي شيء آخر لغة واصطلاحاً لإدراك حقيقة الأمر. فالبلاغة- لغة-: الانتهاء والوصول، وبلغ الشيء يبلغه بلوغاً وبلاغاً: وصل وانتهى، وتبلَّغ