تصميم الغلاف :شادي العيسمي الدكتور:يوسف حطيني مدينة البامياء - مجموعة قصصية - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2001الإهـداء إلى فلسطين من النهر إلى البحر العسل (يا بابا، الله يخليك.. خليني أبوس نجوى) قالها سامر بحرقة تلذع قلبه الصغير، والدموع ترتسم على وجنتيه أخاديد من الحزن البريء. منذ خمسة أيام وهو يلحّ على والده أن يقبلها، وكان الوالد العبوس يرفض. إنه لا يسمح لـه أن يراها ولو من وراء نافذة الغرفة الصغيرة المنعزلة. على سرير أبيض، ترتفع فوقه سماء بيضاء صلدة، تقضي أيامها السوداء.. كان جلد جسدها الناعم الطري مغطى ببقع حمراء وحشية، بينما ترتفع درجة حرارتها وتنخفض مثل كرة مطاطية مجنونة.. جدران الغرفة المتعرقة تختزن في ذاكرتها سعال نجوى، وعطاسها، وآهاتها ودموعاً كبيرة تبلل الوسادة البيضاء. وليس ثمة لدى الأم إلا البكاء، فالصغير يزيدها هماً على هم، لا يفهم إلا أن يجلس مع أخته على المائدة، أن يشاركها لعبها وطعامها، أن يلحس العسل عن خديها في قبلة لذيذة.. وكثيراً ما تتدفق الدموع من عيني الأم وهي تمرر منشفة مبللة بالماء الفاتر على جسد نجوى، وكثيراً ما تلعن أبا المرض، وهي ترش البودرة على جسد الصغيرة التي تبتسم لحظة ثم تسلم نفسها للألم والصراخ. عندما كان جسد نجوى يفوح برائحة النعناع، لم يكن لدى العائلة ما يعكر صفوها، اللهم إلا ضيق العيش الذي تعودت عليه، غير أن ذلك الوحش الذي هاجم الصغيرة أورث العائلة حسرة وكمداً ووشّح عيني سامر بغلالة من الأسى أكبر من أن يتسع لها وجهه. طوال خمسة أيام نجح الوالدان في إبعاده عن أخته. الوالد الذي لم تعد الابتسامة تعرف طريقها إلى شفتيه يحزنه همود سامر وملله، قال له مداعباً:احكِ لي قصص هذه الحيوانات، وأشار بإصبعه إلى الصور الملصقة على باب الخزانة:هنا بطة، وهناك فيل.. ولكن سامر رفض ذلك، وقال بنشيج منخفض:-سأحكيها لنجوى. ينظر الوالد إلى السقف نظرة حانقة، ويلعن أبا الفقر، وأبا المرض.. لو أمهله صاحب البيت قليلاً في دفع الإيجار لأخذها إلى الطبيب. هي على كل حال ستقضي فترة مرضها في الغرفة المنعزلة، وستبقى أمها تقوم بما علّمتها إياه الجدّة الخبيرة بما يجب فعله في مثل هذه الأحوال. حيث يغدو الذهاب إلى الطبيب حلماً بعيد المنال، غير أن رجولته ربما تخفق في الامتحان هذه المرة. إنه لا يستطيع تحمل دموع زوجته صباحاً ومساء، ولا يستطيع أيضاً تحمل طلبات ابنه، وإلحاحه على تقبيل أخته المريضة. هل يخرج من البيت، ويترك زوجته وحيدة بين مرض نجوى وطلبات سامر؟ ولكن أين سيذهب؟ دمعات زوجته تلذع خديها الشاحبين، بينما سامر يصر على أن يقبل أخته ولو من قدميها! الأب لا زال يشاغل ابنه بالحديث عن اللعبة التي سيشتريها له عندما يصير في المدرسة، الأم تجذبه إلى حضنها وتغني له أغاني حزينة، وتحكي له عن السمكة والصياد، وعن الشاطر حسن، إلى أن يغمض عينيه، وعلى شفتيه ابتسامة خبيثة. في منتصف الليل، حين بللت الأم المنشفة بالماء، ومضت تمسح جسد ابنتها المنهك، فتحت باب الغرفة ووقفت مشدوهة حين شاهدت شبحين صغيرين يتعانقان في الظلام. 26/شباط /1996. حبة.. فوق حين أخبرني الأستاذ عبد الرحيم أنه وافق على نشر قصتي في جريدته قلت في نفسي:إن الصبر كثيراً ما يقود إلى الفرج.. حديثه عن تميز قصتي أشعرني بالاعتزاز، وربما بالغرور مثل هذه الإطراءات لم أتعود عليها، لذلك وجدتني أغرق في ضحكة طويلة أجفلته.. لقد بدا لي من وراء مكتبه، ساعة دخلت، عملاقاً منتفخاً، ولكنني بعد أن حدّثني عن تميزها، رأيته يصغر كثيراً، يصغر كثيراً، حتى يكاد يعادلني في الحجم ويشابهني في الشكل واللون والرائحة. لست من الناس الذين يظنون أنفسهم خيراً، ولكن دعوته لي كي ألقي قصتي في مبنى الجمعية الأدبية أمام نقاد لهم باع طويل في هذا الشأن، أذهلتني، نفخت رأسي بأحلام لها رائحة لذيذة، أشعرتني بالفرح ممتزج بإحراج شديد. الأستاذ عبد الرحيم فهلوي، فهمان، سمع خفقان قلبي، ورأى احمرار وجهي، أو اصفراره لا أدري فأراد أن يبرهن أننا أصدقاء بعد أن أدركتني (حرفة الأدب)، فراح يغني أمامي "حبة فوق.. حبة تحت" ثم قال بمودة طفولية:هل