بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
رأسي بلا معنى بينما راحت عيناي الزائغتان تقرأان الكلمات المبعثرة على البطاقة:"الخميس الساعة الثامنة مساء، كازينو النجوم يقدم لكم النجم المحبوب أحمد عدوية، تحجز البطاقات سلفاً". 15/ تشرين الأول/ 1993 برونكوزال خلال لحظات كانت السيارة التي استأجرناها للوصول إلى عيادة الدكتور فخري تنهب بنا الطريق نهباً، فوجه طفلنا الوحيد كان شاحباً إلى درجة مخيفة.. (سلامة قلبه) حين اجتاحته موجة السعال المخيفة كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة مساء، ولكن الله قدر ولطف، فقد وصلنا إلى عيادة الدكتور فخري وكانت غرفة الانتظار ما تزال مزدحمة بزعيق الأطفال، وعبوس الرجال وثرثرات النساء التي لا تنتهي. كانت الكراسي الموزعة بغير انتظام على أرجاء الغرفة الواسعة تئن تحت ثقل الجالسين الذين يحضنون أطفالهم. صحيح أننا لم نجد كرسياً واحداً للجلوس، ولكننا، مع ذلك، كنا نشعر بسعادة غامرة!! فالولد -وإن كان مريضاً جداً- سيشفى بإذن الله، على يد الدكتور فخري. أحد الجالسين الذين ملّوا مراقبة لوحة أسعار اللقاحات والمعاينات والمراجعات قام من مكانه، ودعا زوجتي للجلوس. شكرته وأنا عابس، فرد علي عبوسي بأحسن منه. لكأنّ الرجال القليلين هم المستثنون من الصراخ والبكاء والثرثرة.. حتى السكرتيرة الشقراء التي راحت تستمع لغناء أحد مطربي الدرجة العاشرة الذين تمتلئ الإذاعات بزعيقهم، أخذت تحدّت أمهات المرضى ويدها تعبث بشعرها، وبكلّ ما استطاعت من الغنج، كانت تمطّ فمها جيئة وذهاباً على (علكة) تعبت من كثرة ما تحولت إلى بالون سرعان ما ينفجر. مثل هذا الازدحام كان طبيعياً، فالدكتور فخري أثبت من المهارة في معالجة الأطفال ما يكفي ليجعل منه مالئ الدنيا وشاغل الناس، صحيح أنه كان يعاين المرضى بالجملة، ويكتب وصفته بسرعة، ويقبض خمسمائة ليرة بارك الله له في كل قرش يقبضه، ولكنه كان يشفي، فيما يقال، الأكمه والأبرص ومريض الربو التحسسيّ. أنا وزوجتي، ما نزال حديثيْ العهد بتربية الأطفال، حين مرض وحيدنا للمرة الأولى، لم ندرِ ما نفعل، وعندما رحنا نستشير أهل المعرفة من الأقارب والمعارف، أشار علينا الجميع بالذهاب إلى عيادة الدكتور فخري، كان ذلك منذ ثلاثة شهور، وطفلنا لم يكد يتم أيامه الأربعين.. دخلنا إلى عيادته:غرفة مستطيلة بيضاء، فيها سريران، وثلاثة مرضى يعاينهم ذو الهمة في وقت واحد، ويدفع ذووهم أجر المعاينة في وقت واحد أيضاً.. في فرصة سانحة، قلنا له:إن براز الطفل أخضر، ثم قلنا له في سانحة أخرى:إنه يسعل سعالاً حاداً ومخيفاً، نظر نحونا بعدها نظرة من فهم كل شيء، وهون علينا الأمر، وأعطانا دواء اسمه برونكوزال، لا زلت أذكر كيف أخذته من الصيدلية ككنز ثمين، ثم أعطيته للطفل الذي ظل يسعل كثيراً، وظل برازه أخضر. أحد أصدقائي أخبرني أن وضع الطفل يدعو للقلق، فلون البراز الأخضر يدل على وجود التهابات حادة في الأمعاء، ولكنني لم أعره آذاناً مصغية، صحيح أنه يدرس في كلية الطب ولكنه يفتقر إلى الخبرة، ثم إنه لا يساوي شيئاً بالمقارنة مع الدكتور فخري. كل مرة يشتد فيها المرض على ابننا الصغير، كنا نذهب إلى الدكتور فخري فيستقبلنا الاستقبال العجول ذاته، يكتب لنا البرونكوزال أيضاً، ويقبض في كل مرة خمسمائة ليرة سرعان ما تستقر في جيب مريوله الأبيض مع حفنة أخرى من المئات. صديقي، طالب الطب، اعترض على البرونكوزال وقال:إن علينا معالجة المرض بدلا من معالجة العرض.. لم أفهم عليه، ولم أستمع لشرحه الطويل الممل لأن قلبي لم يدخله الشك في كفاءة دكتورنا الفاضل. هذه المرة بالذات، مر الوقت أسرع مما توقعنا. فالدكتور فخري سجل رقماً قياسياً في الفحص، حيث تخلص من معظم زبائنه خلال نصف ساعة. السكرتيرة التي لم تخرج العلكة من فمها، أخرجت من الدرج علبة المكياج، وهندست وجهها على إيقاع أغنية رديئة، ثم دخلت غرفة الطبيب وخرجت بعد دقيقة لتعلن أنه انتهى من معالجة المرضى هذا اليوم. لم يكن أمامنا إلا ثلاثة مرضى حين خرج الدكتور، وقد خلع مريوله الأبيض. كان يرتدي تحت المريول قميص أبيض كالموت. حاول ذوو المرضى أن يشرحوا له شكاوى أطفالهم، لكنه كان يغلق أذنيه.. إنه يستطيع فحص أطفالنا خلال خمس دقائق ودفعة واحدة، فيده السمحاء خبيرة ببواطن العلل المستعصية.. حاولنا.. أنا وزوجتي، أن نستفيد من وضعنا الخاص كزبائن مداومين بيننا وبين الدكتور فخري خبز وملح وبرونكوزال. بينما خرج بقية الزبائن مكسوري الأجنحة. -مرحبا يا دكتور، إن فحص الطفل لن يؤخرك