جامع السعادات جلد 1

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

جامع السعادات - جلد 1

محمد مهدی النراقی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



فصل


(ما يتم به علاج الوسواس)


لو امكن العلاج في القطع الكلي للوساوس فانما يتم بامور ثلاثة:

(الاول) سد الابواب العظيمة للشيطان في القلب، و هي الشهوة، و الغضب، و الحرص، و
الحسد و العداوة، و العجب، و الحقد، و الكبر، و الطمع، و البخل، و الخفة و الجبن، و
حب الحطام الدنيوى الدائر، و الشوق الى التزين بالثياب الفاخرة، و العجلة في
الامر، و خوف الفاقة و الفقر، و التعصب لغير الحق، و سوء الظن بالخالق و الخلق. . . و
غير ذلك من رؤس ذمائم الصفات و رذائل الملكات، فانها ابواب عظيمة للشيطان،
فاذا وجد بعضها مفتوحا يدخل منه في القلب بالوساوس المتعلقة به، و اذا سدت لم يكن
له اليه سبيل الا على طريق الاختلاس و الاجتياز.

(الثاني) عمارة القلب باضدادها من فضائل الاخلاق و شرائف الاوصاف، و الملازمة
للورع و التقوى، و المواظبة على عبادة ربه الاعلى.

(الثالث) كثرة الذكر بالقلب و اللسان، فاذا قلعت عن القلب اصول ذمائم الصفات
المذكورة التي هي بمنزلة الابواب العظيمة للشيطان، زالت عنه وجوه سلطنته و
تصرفاته، سوى خطراته و اجتيازاته، و الذكر يمنعها و يقطع تسلطه و تصرفه
بالكلية، و لو لم يسد ابوابه اولا لم ينفع مجرد الذكر اللساني في ازالتها، اذ
حقيقة الذكر لا يتمكن في القلب الا بعد تخليته عن الرذائل و تحليته بالفضائل، و
لولاهما لم يظهر على القلب سلطانه، بل كان مجرد حديث نفس لا يندفع به كيد الشيطان و
تسلطه، فان مثل الشيطان مثل كلب جائع، و مثل هذه الصفات المذمومة مثل لحم او
خبز او غيرهما من مشتهيات الكلب، و مثل الذكر مثل قولك له: اخسا. و لا ريب في ان
الكلب اذا قرب اليك و لم يكن عندك شى ء من مشتهياته فهو ينزجر عنك بمجرد قولك:

اخسا، و ان كان عندك شى ء منها لم يندفع عنك بمجرد هذا القول ما لم يصل الى مطلوبه.
فالقلب الخالى عن قوت الشيطان يندفع عنه بمجرد الذكر، و اما القلب المملو منه
فيدفع الذكر الى حواشيه، و لا يستقر في سويدائه، لاستقرار الشيطان فيه. و ايضا
الذكر بمنزلة الغذاء المقوي، فكما لا تنفع الاغذية المقوية ما لم ينق البدن عن الاخلاط
الفاسدة و مواد الامراض الحادثة، كذلك لا ينفع الذكر ما لم يطهر القلب عن
الاخلاق الذميمة التي هي مواد مرض الوسواس، فالذكر انما ينفع للقلب اذا كان
متطهرا عن شوائب الهوى و منورا بانوار الورع و التقوى، كما قال سبحانه.

«ان الذين اتقوا اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فاذا هم مبصرون » (50)

و قال سبحانه:

«ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب » (51)

و لو كان مجرد الذكر مطردا للشيطان لكان كل احد حاضر القلب في الصلاة، و لم يخطر
بباله فيها الوساوس الباطلة و الهواجس الفاسدة، اذ منتهى كل ذكر و عبادة
انما هو في الصلاة مع ان من راقب قلبه يجد ان خطور الخواطر في صلاته اكثر من
سائر الاوقات، و ربما لا يتذكر ما نسيه من فضول الدنيا الا في صلاته، بل يزدحم
عندها جنود الشياطين على قلبه و يصير مضمارا لجولانهم، و يقلبونه شمالا و يمينا
بحيث لا يجد فيه ايمانا و لا يقينا و يجاذبونه الى الاسواق و حساب المعاملين
و جواب المعاندين، و يمرون به في اودية الدنيا و مهالكها، و مع ذلك كله لا تظنن ان
الذكر لا ينفع في القلوب الغافلة اصلا، فان الامر ليس كذلك، اذ للذكر عند اهله
اربع مراتب كلها تنفع الذاكرين، الا ان لبه و روحه و الغرض الاصلى من ذلك
المرتبة الاخيرة:

(الاولى) اللسانى فقط.

(الثانية) اللساني و القلبي، مع عدم تمكنه من القلب، بحيث احتياج القلب الى
مراقبته حتى يحضر مع الذكر، و لو خلي و طبعه استرسل في اودية الخواطر.

(الثالثة) القلبي الذى تمكن من القلب و استولى عليه، بحيث لم يمكن صرفه عنه
بسهولة، بل احتاج ذلك الى سعى و تكلف، كما احتيج في الثانية اليهما في قراره
معه و دوامه عليه.

(الرابعة) القلبي الذي يتمكن المذكور من القلب بحيث انمحى عند الذكر، فلا يلتفت
القلب الى نفسه و لا الى الذكر، بل يستغرق بشراشره في المذكور، و اهل هذه المرتبة
يجعلون الالتفات الى الذكر حجابا شاغلا.

و هذه المرتبة هي المطلوبة بالذات و البواقي مع اختلاف مراتبها مطلوبة
بالعرض لكونها طرقا الى ما هو المطلوب بالذات.

فصل


(ما يتوقف عليه قطع الوساوس)


السر في توقف قطع الوساوس بالكلية على التصفية و التخلية اولا، ثم المواظبة على
ذكر الله: ان بعد حصول هذه الامور للنفس تحصل لقوتها العاقلة ملكة الاستيلاء و
الاستعلاء على القوى الشهوية و الغضبية و الوهمية، فلا تتاثر عنها و تؤثر فيها
على وفق المصلحة، فتتمكن من ضبط الواهمة و المتخيلة بحيث لو ارادت صرفهما عن
الوساوس لامكنها ذلك، و لم تتمكن القوتان من الذهاب في اودية الخواطر بدون
رايها، و اذا حصلت للنفس هذه الملكة و توجهت الى ضبطهما كلما ارادتا الخروج عن
الانقياد و الذهاب في اودية الوساوس و تكرر منها هذا الضبط، حصل لهما ثبات
الانقياد بحيث لم يحدث فيهما خاطر سوء مطلقا، بل لم يخطر فيهما الا خواطر الخير
من خزائن الغيب و حينئذ تستقر النفس على مقام الاطمئنان، و تنسد عنها ابواب
الشيطان و تنفتح فيها ابواب الملائكة، و يصير مستقرها و مستودعها، فتستضاء
بشروق الانوار القدسية من مشكاة الربوبية، و يشملها خطاب:

«يا ايتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية » (52)

و مثل هذه النفس احسن النفوس و اشرفها، و تقابلها النفس المنكوسة المملوة من
الخبائث الملوثة بانواع الذمائم و الرذائل، و هي التي انفتحت فيها ابواب
الشيطان و انسدت منها ابواب الملائكة، و يتصاعد منها دخان مظلم اليها، فتملا
جوانبها و يطفى ء نور اليقين و يضعف سلطان الايمان، حتى تخمد انواره بالكلية، و لا
يخطر فيها خاطر خير ابدا، و تكون دائما محل الوساوس الشيطانية، و مثلها لا يرجع
الى الخير ابدا، و علامتها عدم تاثرها من النصائح و المواعظ، و لو اسمعت الحق
عميت عن الفهم و صمت عن السمع، و الى مثلها اشير بقوله سبحانه:

«ا رايت من اتخذ الهه هواه ا فانت تكون عليه وكيلا» (53)

و بقوله تعالى:

«ختم الله على قلوبهم و على سمعهم و على ابصارهم غشاوة » (54)

و بقوله سبحانه:

«ان هم الا كالانعام بل هم اضل سبيلا» (55)

و بقوله تعالى:

«و سواء عليهم ا انذرتهم ام لم تنذرهم لا يؤمنون » (56)

و بقوله عز و جل:

«لقد حق القول على اكثرهم فهم لا يؤمنون » (57)

و بين هاتين النفسين نفس متوسطة في السعادة و الشقاوة، و لها مراتب مختلفة في
اتصافها بالفضائل و الرذائل بحسب الكم و الكيف و الزمان فيختلف فيها فتح
ابواب الملائكة و الشياطين بالجهات المذكورة، فتارة يبتدى ء فيها خاطر
الهوى فيدعوها الى الشر، و تارة يبتدى ء فيها خاطر الايمان فيبعثها على الخير،
و مثلها معركة تطارد جندى الشياطين و الملائكة و تجاذبهما، فتارة يصول الملك
على الشيطان فيطرده، و تارة يحمل الشيطان على الملك فيغلبه، و لا تزال
متجاذبة بين الحزبين مترددة بين الجندين، الى ان تصل الى ما خلقت لاجله
لسابق القضاء و القدر. ثم النفس الاولى في غاية الندرة، و هي نفوس الكمل من المؤمنين
الموحدين، و الثانية في نهاية الكثرة و هي نفوس الكفار باسرهم، و الثالثة نفوس
اكثر المسلمين، و لها مراتب شتى و درجات لا تحصى و لها عرض عريض، فيتصل احد
طرفين بالنفس الاولى، و آخرهما بالثانية

فصل


(حديث النفس لا مؤاخذة عليه)


قد عرفت ان الوساوس باقسامها مشتركة في احداث ظلمة و كدرة في النفس، الا ان مجرد
الخواطر-اي (حديث النفس) و ما يتولد عنه بلا اختيار، كالميل و هيجان الرغبة-لا
مؤاخذة عليهما، و لا يكتب بهما معصية لعدم دخولهما تحت الاختيار، فالمؤاخذة
عليهما ظلم، و النهي عنهما تكليف بما لا يطاق، و الاعتقاد و حكم القلب بانه ينبغي ان
يفعل هذا فيؤاخذ به لكونه اختياريا، و كذا الهم بالفعل و العزم عليه، الا انه ان
يفعل مع الهم خوفا من الله و ندم عنه كتبت له حسنة، و ان لم يفعل لمانع منعه لا لخوف
الله سبحانه كتبت عليه سيئة.

و الدليل على هذا التفصيل: اما على عدم المؤاخذة على مجرد الخاطر، فما روي في
الكافي: «انه جاء رجل الى النبي-صلى الله عليه و آله و سلم-فقال يا رسول الله! هلكت.
فقال له هل اتاك الخبيث فقال لك من خلقك؟ فقلت الله تعالى، فقال لك: الله من خلقه؟
فقال له: اى و الذى بعثك بالحق لكان كذا. فقال رسول الله-صلى الله عليه و آله و
سلم-. ذاك و الله محض الايمان »

و مثله ما روي: ان رجلا اتى رسول الله-صلى الله عليه و آله و سلم-فقال «يا رسول
الله نافقت! فقال و الله ما نافقت! و لو نافقت ما اتيتنى تعلمني، ما الذي رابك؟

اظن ان العدو الحاضر اتاك، فقال: من خلقك؟ فقلت: الله تعالى خلقنى.

فقال لك: من خلق الله؟ فقال: اى و الذى بعثك بالحق لكان كذا، فقال: ان الشيطان
اتاكم من قبل الاعمال فلم يقو عليكم، فاتاكم من هذا الوجه لكى يستز لكم، فاذا
كان كذلك فليذكر احدكم الله وحده » . و قريب منه ما روي: ان رجلا كتب الى ابي جعفر
عليه السلام يشكو اليه لمما يخطر على باله، فاجابه في بعض كلامه: «ان الله ان
شاء ثبتك فلا يجعل لابليس عليك طريقا. قد شكى قوم الى النبي-صلى الله عليه و آله و
سلم-لمما يعرض لهم لان تهوى بهم الريح او يقطعوا احب اليهم من ان يتكلموا به،
فقال رسول الله: ا تجدون ذلك؟ قالوا: نعم! قال: و الذى نفسى بيده ان ذلك لصريح
الايمان، فاذا وجدتموه فقولوا: آمنا بالله و رسوله و لا حول و لا قوة الا بالله » و
سئل الصادق عليه السلام عن الوسوسة و ان كثرت، فقال.

«لا شي ء فيها، تقول لا اله الا الله » . و عن جميل بن دراج قال: قلت للصادق عليه
السلام: انه يقع في قلبي امر عظيم، فقال: «قل لا اله الا الله » ، قال جميل فكلما وقع في
قلبى قلت لا اله الا الله، فيذهب عنى.

و مما يدل على عدم المؤاخذة عليه و على الميل و هيجان الرغبة اذا لم يكونا
داخلين تحت الاختيار ما روى. انه لما نزل قوله تعالى.

«و ان تبدوا ما في انفسكم او تخفوه يحاسبكم به الله » (58)

جاء ناس من الصحابة الى رسول الله-صلى الله عليه و آله و سلم-و قالوا كلفنا ما لا
نطيق، ان احدنا ليحدث نفسه بما لا يجب ان يثبت في قلبه، ثم يحاسب بذلك؟ فقال
رسول الله-صلى الله عليه و آله و سلم-. «لعلكم تقولون كما قال بنو اسرائيل. سمعنا و
عصينا، قولوا. سمعنا و اطعنا، فقالوا. سمعنا و اطعنا، فانزل الله الفرج بعد سنة بقوله
تعالى.

«لا يكلف الله نفسا الا وسعها» (59)

و ما روي عن امير المؤمنين عليه السلام في قوله سبحانه.

«و ان تبدوا ما في انفسكم او تخفوه يحاسبكم به الله » . «ان هذه الآية عرضت على
الانبياء و الامم السابقة فابوا ان يقبلوها من ثقلها، و قبلها رسول الله-صلى
الله عليه و آله و سلم-و عرضها على امته فقبلوها. فلما راى الله عز و جل منهم
القبول على انهم لا يطيقونها، قال. اما اذا قبلت الاية بتشديدها و عظم ما فيها و قد
عرضتها على الامم السابقة فابوا ان يقبلوها و قبلتها امتك، فحق علي ان ارفعها
عن امتك، و قال عز من قائل: لا يكلف الله نفسا الا وسعها» و ما روي عن النبي-صلى الله
عليه و آله و سلم-انه قال «وضع عن امتى تسع خصال: الخطا، و النسيان، و ما لا
يعلمونه، و ما لا يطيقونه، و ما اضطروا عليه، و ما استكرهوا عليه، و الطيرة و
الوسوسة في التفكر في الخلق، و الحسد ما لم يظهر بلسان اويد» . و ما روي انه سئل
الصادق عليه السلام عن رجل يجي ء منه الشي ء على حد الغضب يؤاخذه الله تعالى؟

فقال عليه السلام. «ان الله تعالى اكرم من ان يستغلق على عبده » ، و المراد من
الغضب فيه. الغضب الذي سلب الاختيار.

و بالجملة القطع حاصل بعدم المؤاخذة و المعصية على ما لا يدخل تحت الاختيار من
الخواطر و الميل و هيجان الرغبة، اذ النهى عنها مع عدم كونها اختيارية تكليف
بما لا تطاق، و ان لم ينفك عن احداث خباثة في النفس.

و اما (60) على انه يكتب سيئة على الاعتقاد و اللهم بالفعل و التصميم عليه مع تركه
لمانع لا لخوف من الله، فهو ان كلا من الاعتقاد و الهم بالمعصية فعل من الافعال
الاختيارية للقلب، و قد ثبت في الشريعة ترتب الثواب و العقاب على فعل القلب اذا
كان اختياريا، قال الله سبحانه:

«ان السمع و البصر و الفؤاد كل اولئك كان عنه مسئولا» (61)

و قال سبحانه:

«لا يؤاخذكم الله باللغو فى ايمانكم و لكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » (62)

و قال رسول الله-صلى الله عليه و آله و سلم-: «انما يحشر الناس على نياتهم » . و
قال-صلى الله عليه و آله و سلم-: «اذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل و
المقتول في النار» ، قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟

قال: «لانه اراد قتل صاحبه » . و قال-صلى الله عليه و آله و سلم: «لكل امرى ء ما نوى » و
الآثار الواردة في ترتب العقاب على الهم بالمعصية كثيرة، و اطلاقها محمول على
غير صورة الترك خوفا من الله، لما ياتي من انه في هذه الصورة تكتب بها حسنة، و
كيف لا يؤاخذ على اعمال القلوب مع ان المؤاخذة على الملكات الردية من الكبر و
العجب و الرياء و النفاق و الحسد و غيرها قطعى الثبوت من الشرع، مع كونها
افعالا قلبية، و قد ثبت في الشريعة ان من وطا امراة ظانا انها اجنبية كان عاصيا
و ان كانت زوجته.

و اما على انه يكتب حسنة على الترك بعد الهم خوفا من الله، فما روي عن النبي-صلى
الله عليه و آله و سلم-انه قال: «قالت الملائكة: رب ذاك عبدك يريد ان يعمل سيئة و هو ابصر،
فقال: راقبوه فان عملها فاكتبوها عليه بمثلها، و ان تركها فاكتبوها له
حسنة انما تركها لاجلى » . و ما روي عن الامام محمد بن علي الباقر-عليهما
السلام-: «ان الله تعالى جعل لآدم في ذريته من هم بحسنة و لم يعملها كتبت له حسنة،
و من هم بحسنة و عملها كتبت له عشرا، و من هم بسيئة و لم يعملها لم تكتب عليه سيئة، و
من هم بها و عملها كتبت عليه سيئة » ، و قوله: «لم يكتب عليه » محمول على صورة عدم
العمل خوفا من الله. لما تقدم من انه ان لم يعملها لمانع غير خوف الله كتبت
عليه سيئة. و ما روي عن الصادق عليه السلام انه قال: «ما من مؤمن الا و له ذنب
يهجره زمانا ثم يلم به و ذلك قوله تعالى:

«الا اللمم » (63)

و قال: «و اللمم: الرجل يلم بالذنب فيستغفر الله منه » ، و قد وردت بهذا المضمون
اخبار اخر.

وصل


(الخاطر المحمود و التفكر)


قد عرفت ان ضد الوسوسة الخاطر المحمود المستحسن شرعا و عقلا، لان القلب اذا كان
مشغولا بشى ء لا يمكن ان يشغله شى ء آخر، فاذا كان مشغولا بشى ء من الخواطر المحمودة
لا سبيل للخواطر المذمومة اليه، و ربما كان للغفلة التي هي ضد النية تقابل لكل من
الوسوسة و الخاطر المحمود، اذ عند الغفلة لا يتحقق شى ء منهما، الا ان خلو القلب عن كل
نية و خاطر بحيث يكون ساذجا في غاية الندرة، على ان الظاهر ان مرادهم من الغفلة خلو
الذهن من القصد الباعث و ان كان مشغولا بالوساوس الباطلة، كما ياتي تحقيقه.

ثم الخاطر المحمود ان كان قصدا و نية لفعل جميل معين كان متعلقا بالقوة التي يتعلق
هذا الفعل بها، و الا كان راجعا اما الى الذكر القلبي او الى التدبر في العلوم
و المعارف و التفكر في عجائب صنع الله و غرائب عظمته، او الى التدبر الاجمالى
الكلي فيما يقرب العبد الى الله سبحانه او ما يبعده عنه تعالى، و ليس وراء ذلك
خاطر محمود متعلق بالدين او غير ذلك من الخواطر المذمومة المتعلقة بالدنيا.

و اذا عرفت ذلك فاعلم: انه من معالجات مرض الوسواس معرفة شرافة ضده الذى هو
الخاطر المحمود، ليبعثه على المواظبة عليه الموجبة لدفع الوساوس. و فضيلة
الخواطر المحمودة الباعثة على الافعال الجميلة ياتي ذكرها في باب النية و
ربما يعلم من بيان فضيلة نفس هذه الافعال ايضا كما ياتي ذكرها في باب النية، و
فضيلة الذكر القلبي يعلم في باب مطلق الذكر.

اما بيان شرافة التفكر و بعض مجاريه من افعال الله تعالى و الاشارة الى
كيفية التفكر فيها و فيما يقرب العبد الى الله تعالى و فيما يبعده عنه، فلنشر الى
مجمل منه هنا لتعلقه بالقوة النظرية، فنقول:

التفكر: هو سير الباطن من المبادى ء الى المقاصد، و المبادى ء: هي آيات الآفاق و
الانفس، و المقصد: هو الوصول الى معرفة موجودها و مبدعها و العلم بقدرته القاهرة و
عظمته الباهرة، و لا يمكن لاحد ان يترقى من حضيض النقصان الى اوج الكمال الا
بهذا السير. و هو مفتاح الاسرار و مشكاة الانوار، و منشا الاعتبار و مبدا
الاستبصار، و شبكة المعارف الحقيقة و مصيدة الحقائق اليقينية، و هو اجنحة النفس
للطيران الى و كرها القدسي، و مطية الروح للمسافرة الى وطنها الاصلي و به تنكشف
ظلمة الجهل و استاره و تنجلى انوار العلم و اسراره، و لذا ورد عليه الحث و المدح
في الآيات و الاخبار كقوله سبحانه:

«ا و لم يتفكروا في انفسهم ما خلق الله السموات و الارض و ما بينهما الا بالحق » (64)
» .

و قوله تعالى:

«ا و لم ينظروا في ملكوت السموات و الارض و ما خلق الله من شي ء» (65)

و قوله تعالى:

«فاعتبروا يا اولى الابصار» (66)

و قوله تعالى:

«قل سيروا في الارض فانظروا كيف بدا الخلق » (67)

و قوله تعالى:

«ان فى خلق السموات و الارض لآيات لاولى الالباب » (68)

و قوله تعالى:

«و فى الارض آيات للموقنين. و في انفسكم ا فلا تبصرون » (69)

و قوله تعالى:

«الذين يذكرون الله قياما و قعودا و على جنوبهم و يتفكرون في خلق السموات و
الارض » (70) .

و قول رسول الله-صلى الله عليه و آله و سلم-: «التفكر حياة قلب البصير»

و قوله-صلى الله عليه و آله و سلم: «فكرة ساعة خير من عبادة سنة » ، و لا ينال منزلة
التفكر الا من خصه الله عز و جل بنور التوحيد و المعرفة، و قوله -صلى الله عليه و آله
و سلم-: «افضل العبادة ادمان التفكر في الله و في قدرته » (71) ، و مراده من التفكر في
الله التفكر في قدرته و صنعه و في عجائب افعاله و مخلوقاته و غرائب آثاره و
مبدعاته، لا التفكر في ذاته، لكونه ممنوعا عنه في الاخبار، و معللا بانه يورث
الحيرة و الدهشة و اضطراب العقل، و قد ورد: «اياكم و التفكر في الله، و لكن اذا
اردتم ان تنظروا الى عظمته فانظروا الى عظيم خلقه » . و اشتهر عن النبي-صلى الله
عليه و آله و سلم-انه قال: «تفكروا في آلاء الله و لا تفكروا في الله، فانكم لن تقدروا
قدره » ، و قول امير المؤمنين عليه السلام: «التفكر يدعو الى البر و العمل به » ، و
قوله عليه السلام: «نبه بالتفكر قلبك، و جاف عن الليل جنبك، و اتق الله ربك » ، و
قول الباقر عليه السلام: «باجالة الفكر يستدر الراى المعشب »

و قول الصادق عليه السلام: «الفكر مرآة الحسنات و كفارة السيئات، و ضياء للقلوب
و فسحة للخلق، و اصابة في صلاح المعاد، و اطلاع على العواقب، و استزادة في العلم و هي
خصلة لا يعبد الله بمثلها» ، و قول الرضا عليه السلام: «ليس العبادة كثرة في الصلاة
و الصوم، انما العبادة التفكر في امر الله عز و جل » .

تكملة


(مجاري التفكر في المخلوقات)


الموجودات باسرها مجارى التفكر و مطارح النظر، اذ كل ما في الوجود سوى
واجب الوجود فهو من رشحات وجوده و آثاره فيضه وجوده، و كل موجود و مخلوق من
جوهر او عرض مجرد او مادى، فلكى او عنصرى، بسيط او مركب فعل الله و صنعه، و ما من
ذرة من ذرات العالم الا و فيها ضروب من عجائب حكمته و غرائب عظمته، بحيث لو
تشمر عقلاء الاقطار و حكماء الامصار مدى الاعصار لاستنباطها، انقضت اعمارهم دون
الوقوف على عشر عشيرها و قليل من كثيرها.

ثم ان الموجودات المخلوقة منقسمة الى ما لا يعرف اصله فلا يمكننا التفكر فيه، و
الى ما يعرف اصله و مجمله من دون معرفة تفاصيله فيمكننا التفكر في تفصيله لتزداد
لنا معرفة و بصيرة بخالقه. و هو الى ما لا يدرك بحس البصر و يسمى ب (الملكوت) ،
كالملائكة و الجن و الشياطين و عوالم العقول و النفوس المجردة، و لها اجناس و
طبقات لا يحيط بها الا موجدها، و الى ما يدرك به، و له اجناس ثلاثة: عالم
السماوات المشاهدة بكواكبها و نجومها و دورانها في طلوعها و غروبها، و عالم
الارض المحسوسة ببحارها و جبالها و وهادها و تلالها و معادنها و انهارها و
نباتها و اشجارها و حيوانها و جمادها، و عالم الجو المدرك بسحبه و غيومه و
امطاره و ثلوجه و شهبه و بروقه و رياحه و رعوده، و كل من هذه الاجناس الثلاثة
ينقسم الى انواع، و يتشعب كل نوع الى اقسام و اصناف غير متناهية، مختلفة في
الصفات و الهيئات، و اللوازم و الآثار و الخواص، و المعاني الظاهرة و الباطنة،
و ليس شى ء منها الا و موجده هو الله سبحانه، و في وجوده و حركته و سكونه حكم و مصالح
لا تحصى.

و كل ذلك مجارى التفكر و التدبر لتحصيل المعرفة و البصيرة بخالقها الحكيم و
موجدها القيوم العليم، اذ كلها شواهد عدل و بينات صدق على وحدانيته و حكمته و
كمال كبريائه و عظمته، فمن قدم قدم حقيقته، و دار عالم الوجود و فتح عين
بصيرته، و شاهد مملكة ربه الودود، لظهر له في كل ذرة من ذرات الخلق عجائب حكمة و
غرائب قدرة، بهر منها عقله و وهمه، و حسر دونها لبه و فهمه.

ثم لا ريب في ان طبقات العوالم المنتظمة المرتبة على النحو الاصلح و النهج
الاحسن بامر موجدها الحكيم و مدبرها العليم، مبتداة في الصدور من الاشرف
فالاشرف، حتى ينتهي الى اسفل العوالم و اخسها، و هو عالم الارض بما فيه، و كل
عالم اسفل لا قدر له بالنسبة الى ما فوقه، فلا قدر للارض بالنظر الى عالم الجو، و لا
للجو بالقياس الى عالم السماوات، و لا للسماوات بالنسبة الى عالم المثال، و
لا للمثال بالنظر الى عالم الملكوت، و لا للملكوت بالقياس الى الجبروت، و لا
للجميع بالنسبة الى ما لا سبيل لنا الى دركه تفصيلا و اجمالا من عوالم الالوهية،
كما ظهر لعلماء الطبيعة و اهل الرصد و الهندسة، و وضح لارباب المكاشفة و العرفان و
اصحاب المشاهدة و العيان.

ثم اخس العوالم الذى عرفت حاله-اعنى الارض-لا قدر لما على ظهرها من الحيوان و
النبات و الجماد، بالنظر الى نفسها، و لذا يفسد من ادنى تغير لها جل ما عليها،
و لكل جنس مما علهيا انواع و اقسام و اصناف غير متناهية. و اضعف انواع الحيوان
البعوضة و النحل و اشرف انواعه الانسان فنحن نشير الى نبذة يسيرة من الحكم و
العجائب المودعة فيها، و كيفية التفكر فيها، ليقاس عليها البواقي اجمالا. فان
بيان مجارى التفكر باسرها في حين المحال، و ما يمكن منه خارج عن حيطة الضبط
و التدوين، و لذا ترى ان البارعين من الحكماء و الفائقين من اجلة العرفاء
بذلوا و سعهم في بيان مجارى التفكر و مطارحه و شرح بمجال النظر و مسارحه
فسطروا فيه الاساطير و ملاوا منه الطوامير، و خاضوا في غمرات بحار
الافكار و غاصوا في تيار لجج الانظار، و مع ذلك لم يعودوا بالنظر الى ما هو
الواقع الا صفر اليدين و رجعوا آخر الامر (بخفي حنين) . و نحن لو تعرضنا لشرح ما يمكن
لنا دركه من الحكم و الغرائب المودعة في عضو واحد من اعضائها على التفصيل
لخرجنا عن وضع الكتاب، و ارتكبنا ما يعمل الناظرين من الاطناب، فنشير اجمالا الى
بعض ما فيها من الحكم و العجائب، تنبيها للطالبين على كيفية التفكر في الصنائع
الالهية، فنقول:

اما (البعوض) -فانظر كيف خلقه الله على صغر قدره على شكل الفيل الذي هو اعظم
الحيوانات، اذ خلق له خرطوما كخرطومه، و خلق له مع صغره جميع الاعضاء التي خلقها
للفيل بزيادة جناحين، فقسم اعضاءه الظاهرة، فانبت جناحيه و اخرج يديه و رجليه، و
شق سمعه و بصره و دبر في باطنه اعضاء الغذاء، و ربك فيها من القوى الغاذية و
الجاذبة و الدافعة و الماسكة و الهاضمة ما ركب في الحيوانات العظيمة-كما ياتى
في الانسان-ثم هداه الى غذائه الذى هو دم الانسان و غيره من الحيوانات،
فانبت له آلة الطيران الى الانسان، و خلق له الخرطوم الطويل و هو محدد الراس،
و هداه الى الامتصاص من مسام بشرة الانسان حتى يضع خرطومه في واحد من مسامه،
و يغرز فيه و يمص الدم و يتجرعه، و خلق خرطومه-مع دقته-مجوفا حتى يجرى فيه
الدم الصافي الرقيق و ينتهى الى باطنه و ينتشر فى معدته و في سائر اعضائه، و
عرفه ان الانسان يقصده بيده فعلمه حيلة الهرب، و خلق له السمع الذى يسمع به حفيف
حركة اليد مع كونها بعيدة منه، فيترك المص و يهرب، و اذا سكنت اليد عاد، و خلق له
حدقتين حتى يبصر مواضع غذائه فيقصده مع صغر حجم وجهه. و لما كانت حدقة كل حيوان
صغيرة بحيث لا يحتمل الاجفان لصغره، و كانت الاجفان مصقلة لمراة الحدقة عن القذى
و الغبار، خلق للبعوض و الذباب و غيرهما من الحيوانات الصغيرة يدين ليمسح
بهما حدقتيه و يطهرهما عن الغبار و القذى، اولا ترى الذباب انه على الدوام
يمسح حدقتيه بيديه. و اما الانسان و غيره من الحيوانات العظيمة خلق لحدقتيه
الاجفان حتى ينطبق احدهما على الآخر و اطرافهما حادة، فيجمع الغبار الذى
يلحق الحدقة و يرميها الى اطراف الاهداب. فهذه لمعة يسيرة من عجائب صنع الله فيه،
و فيها من العجائب الظاهرة و الباطنة ما لو اجتمع الاولون و الآخرون على
الاحاطة بكنهها عجزوا عن حقيقتها.

اما (النحل) -فانظر كيف اوحى الله تعالى اليها حتى اتخذت!

«من الجبال بيوتا و من الشجر و مما يعرشون » (72)

و استخرج من لعابها الشمع و العسل، و جعل احدهما ضياء و الاخر شفاء و انظر في عجائب
امرها في تناولها الازهار و الانهار و اجتنابها عن النجاسات و الاقذار، و
في طاعتها و انقيادها لواحد من جملتهم، و اكبرهم شخصا، و هو اميرهم. و انظر كيف
علم الله اميرهم ان يحكم بالعدل و الانصاف بينهم، حتى انه ليقتل على باب النفذ كل
ما وقع منها على نجاسة. ثم انظر الى بناء بيوتها من الشمع و اختيارها من جملة
الاشكال المسدس، فلا يبنى مستديرا و لا مربعا و لا مخمسا، بل اختار المسدس لخاصية
يقصر عن دركها افهام المهندسين، و هو ان اوسع الاشكال و اجودها المستدير، ثم
ما يقرب منه، فان المربع تخرج منه زوايا ضايعة، و شكل النحل مسدير مستطيل، فترك
المربع حتى لا تضيع الزوايا فتبقى فارغة، و لو بناها مستديرة لبقيت خارج
البيوت فرج ضايعة، لان الاشكال المستديرة اذا اجتمعت لم تجتمع متراصة و لا
شكل في الاشكال ذوات الزوايا يقرب في الوسعة و الاحتواء من المستدير ثم تتراص
الجملة منه بحيث لا يبقى بعد اجتماعها فرجة الا المسدس، فهذه خاصية هذا الشكل.
فانظر كيف علم الله النحل مع صغر جرمها لطفا بها و عناية بوجودها ليهنا عيشها،
فسبحانه ما اعظم شانه. و ما ذكرناه قدر يسير من عجائب الحكمة المودعة فيها، و
ما فيها من العجائب الظاهرة و الباطنة مما لا يمكن الاحاطة به.

و اما (الانسان) -فنقول: لا ريب في ان اول كل انسان قطرة من ماء قذرة، لو
ليت بنفسها لانتنها الهواء و افسدها، و كانت متفرقة في جميع اجزاء بدن الذكر،
فالقى الله بلطائف حكمته محبة بينه و بين الانثى و قادهما بسلاسل الشهوة الى
الاجتماع، و استخرج هذه النطفة المنتنة بحركة الوقاع و اعطى لآلة الرجل قوة دافعة، و
لرحم الانثى قوة جاذبة، حتى جذبتها من فم الاحليل الى نفسها، و امتزجت بمنى
الانثى بحيث صارتا واحدة، و استقرت في الرحم، و جعل مبدا عقد الصورة في منى
الذكر، و مبدا انعقادها في منى الانثى، فهما بالنظر الى الجنين كالانفحة و
اللبن بالقياس الى الجبن، و الحق ان لكل من المنيين القوة العاقدة و المنعقدة،
الا ان الاولى في الذكورى و الثانية فى الانوثى اقوى، و الا لم يتحدا شيئا
واحدا، و لم ينعقد الذكورى حتى يصير جزا من الولد. فلو كان مزاج الانثى ذكوريا
كما في النساء الشريفة النفوس القوية القوى، و كان مزاج كبدها حارا، كان المنى
المنفصل عن كليتها اليمنى احر كثيرا من المنفصل عن كليتها اليسرى، فاذا
اجتمعا في الرحم، و كان مزاج الرحم قويا في الامساك و الجذب، قام المنفصل عن
الكلية اليمنى مقام منى الذكر في شدة قوة العقد، و المنفصل من اليسرى مقام منى
الانثى في قوة الانعقاد، فيختلق الولد، و بهذا تتصحح ولادة مريم البتول-عليها
السلام- حيث تمثل لها روح القدس بشرا سويا حسن الصورة، فمع تحقق ما ذكر لها
تايدت به-اى بروح القدس-و سرى اثر اتصالها به الى الطبيعة و البدن و تغير
مزاجها و مد جميع القوى في افعالها بالمدد الروحانى، فصارت اقدر على افعالها
بما لا ينضبط بالقياس.

ثم ابتدا خلق الجنين في استقرار الماءين في الرحم، و شبه بالعجين اذا الصق
بالتنور، فغيره الله تعالى سبحانه عن حاله قليلا، كالبذر اذا نبت من الارض،
فصارت نطفة، فاستجلب دم الحيض من اعماق العروق اليها، حتى ظهرت فيها نقط
دموية منه و صارت علقة. ثم اظهر فيها حمرة ظاهرة حتى صار شبيها بالدم الجامد،
و هيج فيها ريحا حارة فصارت مضغة. ثم اظهر فيها رسوم الاعضاء و شكلها و
صورها، فاحسن تصويرها، فقسم اجزاءها المتشابهة الى اجزاء مختلفة من العظام و
الاعصاب و العروق و الاوتار و اللحم و الشحم.

ثم ركب الاعضاء الظاهرة و الباطنة من اللحم و العروق و الاعصاب، فدور الراس، و
شق البصر و السمع و الفم و الانف و سائر المنافذ، و مد اليد و الرجل، و قسم رؤسها
بالاصابع و قسم الاصابع بالانامل، و خلق كل واحد من القلب و الدماغ و الكبد و
الطحال و المعدة و الرئة و الرحم و المثانة و الامعاء و غيرها من الاعضاء على شكل
مخصوص، و جعل لكل واحد منها عملا معينا و فعلا مخصوصا، و جميع ذلك يحصل للجنين و هو في
ظلمة الاحشاء محبوس و في دم الحيض مغموس، منضم في صرة، كفاه على خديه، و مرفقاه على
حقويه، جمعت ركبتاه على صدره و ذقنه على راس ركبتيه، و هو كشبه نائم، سرته متصلة
بسرة امه يمتص منها الغذاء، و وجهه الى وجهها ان كان انثى و الى ظهرها ان كان
ذكرا. فتتوارد عليه تلك النقوش العجيبة و التصويرات الغريبة من غير خبر
منها له و للرحم، و لا للاب و الام، و لا يرى داخل النطفة او الرحم و لا خارجهما
نقاش يصل اليه اثر نقشه، فكان الجنين بلسان حاله ينادي قلوب العارفين بنغمات
تهيجها و ترقصها: تصوروني فى ظلمة الاحشاء مغموسا بدم الحيض، كيف يظهر
التخطيط و التصوير على وجهي، فينقش النقاش اجفاني و حدقتي، و يصور المصور خدي و شفتي،
و لا يزال يظهر علي نقش بعد نقش و صورة بعد صورة، و لا ارى نقاشا و لا مصورا، او لا
تتعجبون من هذا النقاش الذى لا يحتاج الى تماس و مزاولة و لا يفتقر الى آلة و
مباشرة، او لا تنتقلون من عجيب صنعه الى عظيم قدرته و جسيم عظمته، او ليس لكم
اعين بها تبصرون او قلوب بها تفقهون، فكيف تنظرون الى تكون اعضائى و عجائبها
و لا تعتبرون؟ !

فانظر الآن-يا حبيبي-في نبذ من العجائب و الحكم المودعة في بعض من هذه
الاعضاء، فتامل في (العظام) التي هي اجسام قوية صلبة كيف خلقها من نطفة سخيفة
رقيقة، و احكمها و صلبها في الرحم بين المياه، مع ان صلابة المائع في الماء محال
عادة، و جعلها قواما و دعامة للبدن، و لذا صلبها و احكمها لئلا تنكسر عند الحركات
العنيفة، و قدرها مقادير مختلفة و شكلها على اشكال متفاوتة، ففيها صغير و كبير و طويل
و قصير و مستقيم و مستدير و دقيق و عريض و مجوف و مصمت، على ما اقتضته الحكمة و
المصلحة، و لما كان الانسان محتاجا الى الحركة، تارة بجملة بدنه، و تارة ببعض
اعضائه، لم يخلقه من عظم واحد، بل جعل له عظاما كثيرة بينها مفاصل، حتى تتيسر له
الحركة بجملة بدنه و بعض اعضائه، و قدر شكل كل واحد منها على وفق الحركة المطلوبة بها،
و ما لم تكن فيه فائدة سوى كونه عمادا للبدن خلقه مصمتا، و ان جعل فيه المسام
و الخلل التي لا بد منها، و ما يحتاج اليه للحركة ايضا، زاد في تجويفه ليكون اخف،
و جعل تجويفه في الوسط واحدا لئلا يحتاج في وصول الغذاء اليه الى التجاويف و
الخلل المتفرقة، فيصير رخوا، بل صلبه مع تجويفه، لئلا ينكسر عند الحركات العنيفة، و ما
كانت الحاجة فيه الى الوثاقة اشد جعل تجويفه اقل، و ما كان الاحتياج فيه الى
الخفة اكثر جعل تجويفه ازيد، و جمع غذاءه و هو المخ في حشوه ليغذوه و يرطبه دائما،
لئلا يتفتت بتجفيف الحركة.

ثم وصل مفاصلها و ربط بعضها بالبعض باوتار انبتها من احد العظمين و الصقها
بالآخر، كالرباط، و خلق في احدهما زوائد خارجة منه و في الآخر حفرا غائصة فيه موافقة
لشكل الزوائد، ليدخل فيها و ينطبق عليها، و لذلك لو اراد الانسان ان يحرك جزا من
بدنه دون سائر اعضائه لم يتعسر عليه، و لو لا المفاصل لتعذر عليه ذلك.

ثم وسط بين العظام الصلبة و اللحوم الرخوة (الغضاريف) و هي من العظم الين و
من اللحم اصلب، ليحسن اتصال الصلب باللين، فلا يتاذي منه، خصوصا عند الضربة و
الضغطة، و ليحسن به مجاورة المفاصل المتحاكة فلا تتراض لصلابتها.

ثم انظر-يا اخي-في (العروق) و ما فيها من العجائب و الحكم، فانها خلقت على
نوعين: (احدهما) الشرايين: و هي العروق الضوارب المتحركة و منبتها القلب. و لما
كان القلب ينبوع الحياة و منبع الروح و الحرارة الغريزية خلقت هذه العروق مبتداة
منه منتشرة في سائر الاعضاء لا يصال الروح و الحياة منه اليها، و لها حركتان،
انقباضية يقبض بها الابخرة الدخانية عن القلب و انبساطية يجذب بها صافي
النسيم اليه، ليستريح، و لو لا هذا القبض و الجذب لاختنق القلب بالبخار الدخاني،
و خلقت ذات صفاقين لئلا تنشق بقوة حركتها و لئلا يتحلل ما فيها من الروح، و جعل
الصفاق الداخل اصلب لانه الملاقي لقوة الحرارة الغريزية و مصادمة حركة الروح،
فاوجب الحكمة الالهية زيادة احكامها حفظا لها عن الانشقاق، لقوة حركة الروح، و
تقوية المحل الحرارة الغريزية، لئلا يتحلل شى ء منها بتحلل محلها. و واحد من هذه
الشرايين و يسمى الشريان الوريدى، لما كان حاملا لغذاء الرية لان غذاءها من
القلب فيغوص فيها و يصير شعبا، فخلق لذلك ذا صفاق واحد لئلا يزاحم بصلابته الرية
لرخاوتها و لينها، مع عدم مصادمة لحمها له عند الحركة لكثرة لينه و رخاوته. فلم
تكن حاجة الى زيادة استحكامه، على ان الرية تحتاج الى الغذاء على سبيل الترشح
بسرعة و سهولة، و كثرة الصلابة منافية لذلك.

(و ثانيهما) العروق الساكنة: و تسمى الاوردة، و شانها جذب الغذاء من المعدة الى
الكبد و منه الى سائر الاعضاء، و هي ذات صفاق واحد لانها ساكنة فلا يخشى انشقاقها. و
جعل واحد منها و يسمى الوريد الشريانى ذا صفاقين لنفوذه في التجويف الايمن من
القلب، فكان اللازم زيادة وثاقته لئلا يعتريه انشقاق بقوة حركة القلب و صلابته، و
هو الذى ياتي بغذاء الرية الى القلب، و اذا خلص عن القلب و جاوزه ياخذ الشريان
الوريدى منه الغذاء و يذهب به الى الرية.

فانظر-يا اخي-الى عجيب حكمة ربك، فان حامل غذاء الرية مادام نافذا في القلب
و مصادما لحركته خلق صلبا ذا صفاقين، و اذا خلص عنه الى الرية التي لا تتحمل
الصلب جعل رخوا ذا صفاق واحد، فسبحانه ما اجل شانه و اعظم برهانه. ثم تفكر ايها
المتفكر في (الراس) و عجيب خلقه، حيث ركبه من عظام مختلفة الاشكال و الصور، و
الف بعضها الى بعض حتى استوت كرة كما تراه، و جعله مجمع الحواس، و لذا جعله
مستديرا، لان المستدير ابعد من الآفات بالقياس الى ذى الزاوية، و اعظم مساحة
منه مع تساوى احاطتهما و جعل استدارته الى طول، لان منابت الاعصاب الدماغية
موضوعة في الطول فلو لم يتسع منبتها لازدحمت و انضغطت، و الف قحفه (73) من ستة
اعظم:

اثنان بمنزلة السقف و اربعة بمثابة الجدران، و وصل بعضها ببعض بالدروز و الشؤن، و
جعل الجدران اصلب من اليافوخ الذى هو السقف، لان الصدمات عليها اكثر، و تخلخل
اليافوخ مما لا بد منه لخروج الا بخرة المتحللة (و عدم ثقله على الدماغ) (74) و فائدة
الدروز ان تخرج منها الابخرة المتحللة في الدماغ لئلا يؤدي مكثها الى الصداع و غيره
من الامراض الدماغية، و جعل اصلب الجدران مؤخرها لانه غائب عن البصر فلا يحرسه
فاحتاج الى زيادة وثاقة.

و خلق فيها الدماغ لينا دسما، لتنطبع فيه المحسوسات بسهولة، و لتكون الاعصاب
النابتة منه لزجة لئلا تنكسر، و جعل مزاجه رطبا باردا لتنفعل القوى المودعة فيه عن
مدركاتها، و لئلا يشتعل بالحرارة الحاصلة عن الحركات الفكرية و جعل مقدمة الذي هو
منبت الاعصاب الحسية الين من مؤخره الذي هو منبت اعصاب الحركة، لان الحركة لا
تحصل الا بالقوة، و القوة انما تحصل بالصلابة. ثم جلل الدماغ بغشاءين: (احدهما) رقيق
لين ملاصق لجوهره، و (ثانيهما) غليظ صلب ملاصق للقحف، و هو مثقب بثقب كثيرة لاندفاع
الفضول منه، و انشعبت منه شعب دقاق تصعد من دروز القحف الى ظاهره، ليتشبث بها هذا
الغشاء بالقحف و لا ينفصل عنه، و جعل بين جزئى الدماغ المقدم و المؤخر حجابا لطيفا
ليحجب عن مماسة الالين بالاصلب فيتاذى منه، و خلق تحت الدماغ بين الغشاء
الغليظ و العظم نسيجة (75)

شبيهة بالشباك، و قد تكونت من الشرايين الصاعدة من القلب و الكبد الى الدماغ، و قد
فرشت هذه الشبكة تحت الدماغ، ليبرد فيها الدم الشرياني و الروح، و يتشبه
بالمزاج الدماغي بعد النضج، ثم يتخلص الى الدماغ على التدريج، و لولاه لم يصلح الدم
الكبدي و الروح القلبي لكثرة حرارتهما لتغذية الدماغ، و لم يناسبا جوهره، و جعل
الفرج التي بين فروع هذه الشريانات محشوة بلحم غددى لئلا تبقى خالية، و لتعتمد
عليه تلك الفروع و تبقى على اوضاعها.

ثم لما كان الدماغ مبدا الحس و الحركة. و لم يكن لسائر الاعضاء حس و حركة
بذاتها، و كان اللازم ايصالهما منه اليهما، و لم يكن ذلك ممكنا بدون واسطة في
الايصال، فخلق (الاعصاب) من جوهره، و وصلها منه الى سائر الاعضاء من العظام و
غيرها، ليفيدها الدماغ بتوسطها حسا و حركة، و ليشد و يتقوى بها اللحم و البدن، و
ايضا لم يجعلها متصلة بالعظم مفردة، بل بعد اختلاطها باللحم و الرباط، لئلا
يتاذى من صلابته.

ثم لما كان نزول جميع الاعصاب التي يحتاج اليها من الدماغ موجبا لثقل الراس
و عظمه، خلق الله من جوهر الدماغ اشبه شى ء به و هو (النخاع) ، و جعل في اسفل القحف ثقبا
و اخرجه منها، و خصه بالعنق و الصلب، و اخرج منه كثيرا من الاعصاب المحتاج
اليها الى الاعضاء. فالدماغ بمنزلة العين و الينبوع للحس و الحركة، و النخاع
بمثابة النهر العظيم الجاري منه، و الاعصاب كالجداول. و المنبع الين من النهر
و النهر الين من الجداول.

ثم انظر-يا حبيبي-كيف خلق (العين) و فتحها و احسن شكلها و لونها و هيئتها و
رتب لها سبع طبقات و ثلاث رطوبات كل منها على شكل خاص و لون مخصوص، لو تغير شى ء
منها عما عليه لاختل امر الابصار، و تامل كيف اظهر في حدقتها التي بمقدار العدسة
صورة السماء مع اتساع اكنافها و تباعد اقطارها، و حماها بالاجفان ليسترها و
يحفظها و يصقلها، و جعلها وقاية لها يدفع بها الاقذاء عنها، و يمنعها عن وصول
الغبار و الدخان و الشعاع اليها عند انطباقها، و جعل الجفن الاسفل اصغر من
الاعلى، لان الاعلى يستر الحدقة تارة و يكشفها اخرى لتحركة، و اما الاسفل فغير
متحرك، فلو زيد على هذا القدر يستر شيئا من الحدقة دائما، و يجتمع فيه الفضول و لا
تسيل ثم زين الاجفان: (الاهداب) ليمنع من الحدقة بعض الاشياء التي لا يمنعها
الاجفان مع انفتاح العين-كما ترى عند هبوب الرياح التي ياتي بالاقذاء-فيفتح
العين ادنى فتح، و تتصل الاهداب الفوقانية بالسفلانية فيحصل شبه شباك ينظر من
ورائه، فتحصل الرؤية مع دفع القذى.

ثم انظر كيف شق (الاذن) و اودعها ما يحفظ سمعها و يدفع الهوام عنها و جعل ثقبها
محاطة بصدفة مرتفعة لئلا تتاذى من البرد و الحر و غيرهما مما يؤذى، و ليجتمع
فيها الهواء المتحرك من الاصوات فينفذ فيها و يحرك الهواء الذى في داخلها و
يموجه-كما ترى من دوائر الماء اذا وقع فيه شى ء- حتى يصل الى العصبة المفروشة على
الصماخ التى فيها قوة السمع، فيدرك الصوت. و جعل في منفذها تجويفات و
اعوجاجات كثيرة لتكثر حركة ما يدب فيها و يطول طريقها، فيتنبه صاحبها اذا
قصدته دابة مؤذية فيدفع شرها، و خلق فيها جرما نتنا عفنا لتنفر عنه الدواب المؤذية
و لا تدخلها.

ثم تامل كيف زين الوجه ب (الحاجبين) و حسنهما بدقة الشعر و استقواس الشكل.

و زين وجه الرجل ب (اللحية) و وجه المراة بعدمها، و المتامل يعرف ان اللحية زين
للرجل و شين للمراة، و هذا من عجائب الحكمة.

و زين الوجه برفع (الانف) من وسطه، و حسن شكله و فتح منخريه، و اودع فيهما حاسة
الشم ليستدل باستنشاق الروائح على مطاعمه و اغذيته و ليستنشق الهواء الطيب
الصافي، و يدفع الهواء الحار الدخانى، و ترويحا لقلبه، و جعل له منخرين لتميل
الفضلات النازلة من الدماغ غالبا الى احدهما، و يبقى الآخر مفتوحا، فلا تسد طرق
الاستنشاق باسرها.

ثم انظر الى (الفم) و عجائبه و الى اللسان و غرائبه، فانه سبحانه لعظيم قدرته و
حكمته فتح الفم، و اودعه اللسان و جعله ناطقا معربا عما في القلب و مكنه من التكلم
باللغات المتخالفة و تقطيع الاصوات و اخراج الحروف المتباينة، و جعل له قدرة
على الحركة فى مخارج مختلفة تختلف بها الحروف ليتسع طريق النطق بكثرتها. و خلق
(الفكين) و ركب فيهما الاسنان لتكون آلة للطحن و القطع و الكسر، فاحكم اصولها، و
حسن لونها، و رتب صفوفها متساوية الرؤس متناسقة الترتيب، كالدرر المنظومة،
مختلفة الاشكال باختلاف الاغراض و المقاصد، متفاوتة الاوضاع بتفاوت الغايات و
الفوائد و لما كان الطعام يحتاج تارة الى الكسر و تارة الى القطع و اخرى
الى الطحن فقسم الاضراس الى عريضة طواحن كالاضراس، و الى حادة قواطع
كالرباعيات، و الى ما يصلح للكسر كالانياب. و الاضراس التي في الفك الا على لما
كانت معلقة جعل اصولها ثلاثة او اربعة، و التي في الفك الاسفل اكتفى في اصولها
باثنين او ثلاثة لعدم الاحتياج، و جعل لسائر الاسنان اصلا واحدا لعدم ثقل فيها.
ثم جعل مفصل (الفكين) متخلخلا بحيث يتقدم الفك الاسفل و يتاخر حتى يدور على الفك
الاعلى دوران الرحى، و هو ثابت لا يتحرك، فيتم الطحن بذلك. فانظر في عجيب صنع
الله في هذه الرحى حيث يدور الاسفل منها على الاعلى على خلاف سائر الارحية، لدوران
الاعلى منها على الاسفل. و الحكمة في تحرك الاسفل دون الاعلى: ان الاعلى مجمع الدماغ
و الحواس، فتحركه كان موجبا لاذيتهما و اضطرابهما، و ايضا هو مفصل الراس و
العنق، فلو تحرك لم يستحكم، مع ان الوثاقة فيه لازمة ثم لما كان مضغ الطعام
محتاجا الى تحركه فيما تحت الاسنان، فاعطى الله سبحانه قدرة اللسان على ان
يطوف في جوانب الفم و يرد الطعام من الوسط الى الاسنان بحسب الحاجة. و لما
كان الطعام يابسا فلم يمكن ابتلاعه الا بنوع رطوبة، فخلق تحت اللسان عينا
جارية يفيض منها اللعاب و ينصب بقدر الحاجة، حتى يعجن به الطعام و يقدر على
ابتلاعه.

ثم تفكر كيف خلق (الحناجر) و هياها لخروج الاصوات، و جعلها مختلفة الاشكال في
الضيق و السعة و الخشونة و الملاسة و الطول و القصر و صلابة الجوهر و رخاوته، حتى
اختلفت بها الاصوات، فلا يتشابه صوتان، بل يظهر به بين كل صوتين فرق حتى يميز
السامع اصوات آحاد الناس بمجرد سماعها في الظلمة و الغيبة.

ثم مد (العنق) و جعله مركبا للراس، و كبه من سبع خرزات مجوفات مستديرات فيها
تجويفات و زيادات و نقصان، لينطبق البعض على البعض، و لما كان اكثر منافعه
في الحركة جعل مفاصله سلسة، و لم يجعل زوائدها المفصلية كبيرة كزوائد فقرات الصلب،
لتكون حركاته اسرع، و تدارك تلك السلاسة باعصاب و عضلات كثيرة محيطة به.

ثم انظر الى عجائب (المعدة) و آلاتها التي يتم بها الاكل، فجعل سطح الفم متصلا
بفم المعدة بحيث كانهما سطح واحد، حتى يحصل اولا نوع انهضام بالمضغ، ثم هيا
(المرى ء) (76) و الحنجرة، و جعل على راسها طبقات تنفتح لاخذ الطعام ثم تنطبق و
تنضغط حتى يهوى الطعام من دهليز المرى الى المعدة، و اذا ورد عليها لا يصلح لان
يصير عظما و لحما و دما على هذه الهيئة، بل لا بد ان ينطبخ انطباخا تاما تتشابه
اجزاؤه، فخلق الله المعدة على هيئة قدر يقع فيه الطعام و تنغلق عليه الابواب، و خلق
فيها حرارة صالحة للطبخ، و مع ذلك جعلها محاطة من جوانبها الاربعة بالحرارة
المنبجسة من الكبد و الطحال و الثرب و لحم الصلب، فمن هذه الحرارات ينطبخ
اى جوهرا سيالا ليشبه ماء الكشك (78)
الثخين.

ثم خلق الله بعظيم حكمته و رافته لا يصال صفو ما طبخ في المعدة الى الكبد قسمين
من العروق: (احدهما) العروق المخلوقة في تحت المعدة المتصلة بالمعاء المسماة ب (ما
ساريقا) (79) ، و جعل لها فوهات كثيرة لينصب لطيف المطبوخ فيها، و (ثانيهما)
العرق المسمى بباب الكبد النافذ فيه بعد تفرقه بعروق شعرية ليفية منتشرة في اجزائه،
و جعل الماساريقا متصلة بباب الكبد، فاذا انصب خالص الكيلوس في الماساريقا
يوصله الى باب الكبد، و ينصب منه الى العروق الليفية المتفرقة في جوهر الكبد،
فتستولى قوة الكبد على هذا الكيلوس، بحيث يلاقي كله كله، و لذا يصير فعله فيه اشد و
اسرع، فيمتصه و يجذبه الى نفسه فيطبخه و يفيده الحرارة و الحمرة، حتى ينصبغ
بلون الدم، و من هذا الطبخ يحصل شى ء كالرغوة و هي (الصفراء) ، و شى ء كالدودى و هو
(السوداء) ، و شى ء كبياض البيض و هو (البلغم) ، و هو كما يتكون من هذا الطبخ
يتكون من الطبخ الاول ايضا، و قد يصير شى ء من هذا البلغم الى الكبد مع عصارة
الطعام، و يبقى المتصفى من هذه الجملة دما ناضجا ذا رطوبة مائية منتشرة في
العروق الشعرية، فلو بقيت الصفراء و السوداء و البلغم و المائية مختلطة بالدم و لم
تنفصل عنه لفسد مزاج البدن، فخلق الله بحكمته الكليتين و المرارة و الطحال، و جعل
لكل منهما عنقا ممدودا في الكبد، و جعل عنقي الآخرين داخلا في تجويف الكبد، و لم يجعل
عنقى الكليتين داخلا في تجويفه، بل جعلهما متصلين بالعروق الطالعة من حدبة الكبد
حتى يجذبا مائيته بعد الطلوع من العروق الدقيقة التي في الكبد، اذ لو اجتذبت قبل
ذلك لغلظت و لم تخرج بسهولة عن العروق الدقيقة الشعرية.

ثم اذا انجذبت المائية من جانب محدب الكبد من طريق العروق الطالعة منه الى
الكليتين، حملت مع نفسها من الدم ما يكون صالحا كما و كيفا لغذائهما فتغذوان
الدسومة و الدموية من تلك المائية، و يندفع باقيها الى المثانة، و منها الى الاحليل.
و اما (المرارة) فتاخذ الرغوة الصفراوية من محدب الكبد بعنقها الذي اتصل بالكبد،
و تقذفها من منفذ آخر لها الى الامعاء، ليلذعها بحدتها فتحركها على دفع
الاثقال التي بقيت من الكيلوس بعد ذهاب صفوه الى الكبد، فينضغط حتى تندفع منها
الاثقال، و بخروجها تخرج تلك الرغوة الصفراوية، و صفرتها لذلك. و اما (الطحال)
فياخذ بعنقه المتصل بمحدب الكبد منه الرسوب السوداوي و يحيله حتى يكتسب قبضا و
حموضة، ثم يرسل منه في كل يوم شيئا الى فم المعدة لتنبه بالجوع، فيحرك الشهوة
بحموضته و قبضه، ثم يخرج بخروج الثقل ايضا. و اما (الدم) فيتوجه الى الاعضاء و
يتوزع عليها في شعب العرق الاجوف العظيم النابت من محدب الكبد، فيسلك في الاوردة
المتشعبة منه في جداول، ثم في سواقى الجداول، ثم في رواضع السواقي، ثم في العروق
الشعرية الليفية، ثم يترشح من فوهاتها في الاعضاء بتقدير خالق الارض و السماء.

و مما ذكر ظهر انه لو حدث بواحد من المرارة و الطحال و الكليتين آفة، فسد
الدم و حصلت امراض الخلط الذي يجذبه من الكبد، فلو عرضت آفة بالمرارة حدثت
الامراض الصفراوية، و لو حصلت آفة بالطحال حصلت امراض سوداوية، و لو لم تندفع
المائية الى الكلى بعروض آفة لها حصل مرض الاستسقاء، و اما (البلغم) فما يتكون في
الكبد او يصير اليه مع عصارة الطعام انهضم فيه و صار دما، و ما بقى منه في
الامعاء و لم ينحدر الى الكبد انغسل بمرة الصفراء التى شانها تنقية الامعاء من
الفضول بحرافتها وحدتها و سيلانها، و من البلغم ما يبقى في البدن لاحتياجه
اليه في حركة المفاصل و ترطيب الامعاء، و منه ما يخرج من الفم بالقى ء و البصاق او
ينحدر من الراس الى الفم و يخرج منه بالتنخع.

ثم انظر-يا اخي-في (القلب) و عجائبه، حيث خلقه جسما صنوبريا و جعله منبعا لروح
الحياة، و لذا خلقه صلبا ليكون محفوظا من الواردات، و جعل هذا الروح جرما حارا
لطيفا نورانيا شفافا، و جعله مطية للنفس و قواها، و اناط به حياة الانسان و بقاءه،
فيبقى ببقائه و يفنى بفنائه، فكل عضو يفيض عليه من سلطان نوره يكون حيا، و الا كان
ميتا، و لذا لو حصل بعضو سدة مانعة من نفوذه فيه بطل حسه و حركته، و يتوزع هذا
الروح من القلب الذى هو منبعه الى سائر الاعضاء العالية و السافلة، بوساطة سفراء
الشرايين و الاوردة، فما يصعد منه الى الدماغ بايدي خوادم الشرايين، و يعتدل
بكسب البرودة من جوهر الدماغ، ثم يفيض على الاعضاء المدركة و المتحركة منبثا في
جميع البدن، يسمى (روحا نفسانيا) . و ما ينزل بصحابة امناء الاوردة الى الكبد الذي
هو مبدا القوى النباتية، و منه يتفرق الى سائر الاعضاء، يسمى (روحا طبيعيا) . و قد
خلق الله سبحانه هذا الروح من لطائف الامشاج الاربعة، كما خلق الاعضاء من
كثائفها. و هذا الروح مثاله جرم نار السراج، و القلب الذى محله كالمسرجة له، و
الدم الاسود الذى في باطن القلب و يتكون هذا البخار اللطيف منه بمنزلة الفتيلة
له، و الغذاء له كالزيت و الحياة الظاهرة في جميع اجزاء البدن بسببه كالضوء
للسراج في جملة البيت، كما ان السراج اذا انقطع زيته انطفا، فسراج الروح
ايضا ينطفى ء مهما انقطع غذاؤه و كما ان الفتيلة قد تحترق و تصير رمادا بحيث لا
تقبل الزيت، فكذلك الدم الاسود الذي في باطن القلب قد يحترق بحيث لا يقبل الغذاء
الذي تبقى الروح به، كما لا يقبل الرماد الزيت قبولا تتشبث النار به، و كما ان
السراج ينطفى ء تارة بسبب من داخل-كما ذكرنا-و تارة بسبب من خارج، كهبوب
ريح او اطفاء انسان، فكذلك انطفاء الروح تارة يكون بسبب من داخل و تارة بسبب
من خارج، كالقتل، و كما ان انطفاء السراج هو منتهى وقت وجوده كذلك انطفاء
الروح هو منتهى وقت وجود الانسان، و هو اجله الذي اجل له في ام الكتاب. و كما
ان السراج اذا انطفا اظلم البيت كله كذلك الروح اذا انطفا اظلم البدن كله،
و فارقته انواره التي كان يستفيدها من الروح، و هى انوار الاحساسات و القدرة
و الارادات و سائر ما يجمعها معنى الحياة.

ثم انظر-يا حبيبي-ان كنت من اهل اليقظة في (اليدين) و حكمتهما، حيث طولهما
لتمتدا الى المقاصد، و عرض الكف و وضع عليها الاصابع الخمس، و قسم كل اصبع بثلاث
انامل، و جعل الابهام في جانب، و البواقي في جانب، ليدور عليها، و لو اجتمع
الاولون و الآخرون على ان يستنبطوا بدقيق الفكر وجها آخر في وضع الاصابع سوى ما
وضعت عليه من بعد الابهام من الاربع و ترتبها في صف واحد و تفاوتها في الطول
و القصر، على ان يكون هذا الوجه ازين و اصلح منه او مثله و شبهه في الزينة و المصلحة
لم يقدروا عليه، اذ بهذا الترتيب صلحت للقبض و الاعطاء، فان بسطتها كانت لك
طبقا تضيع عليها ما تريد، و ان جمعتها كانت لك آلة للضرب، و ان نشرتها ثم
ضممتها كانت آلة للقبض، و ان ضممتها ضما غير تام كانت لك مغرفة، و ان وضعت
الابهام على السبابة كانت لك مخرقة، و ان بسطت الكف مع اتصال الاصابع كانت
لك مجرفة و ان بسطت الكف و جمعت عليها الاصابع كانت لك محرزة، الى غير ذلك
من المنافع.

ثم خلق (الاظفار) على رؤسها، زينة للانامل و عمادا لها من ورائها، حتى لا تنفت، و
ليلتقط بها الاشياء الدقيقة التي لا تتناولها الانامل، و ليحك بها بدنه عند
الحاجة، فالظفر الذي هو اخس الاعضاء لو عدمه الانسان و حدثت به حكمة لكان اضعف
الخلق و اعجزهم، ثم هدى (اليد) الى موضع الحك حتى تمتد اليه و لو في حالة النوم و
الغفلة، من غير حاجة الى فحص و طلب، و لو استعان بغيره لم يعثر على موضع الحك.

ثم خلق (الرجلين) مركبتين من الفخذ و الساق و القدم، كل منها على شكل خاص و
تركيب خاص، ليتحرك بهما الانسان الى اي موضع اراد، و لو تغير شي ء من الشكل او
الوضع او التركيب في جزء من اجزائهما لاختل امر الحركة، و وضع عليهما جملة البدن و
جعلهما دعامة و اساسا له و حاملين لثقله، مع خفتهما و صغر جثتهما بالنسبة اليه،
اذ حسن التركيب و سهولة الحمل و الحركة في مثل هذا الخلق لا يتصور بدون ذلك.
فانظر في عجيب حكمة ربك حيث جعل الاخف و الادق و الاصغر اساسا و حاملا للاثقل و
الاغلظ و الاكبر، مع ان كل بناء يكون اساسه اكبر و اغلظ مما يبنى عليه، و كل حامل
يكون اعظم جثة من المحمول، فسبحانه من خالق لا نهاية لعجائب حكمته و غرائب قدرته.

ثم خلق جميع ذلك في النطفة جوف الرحم في ظلمات ثلاث، و لو كشف عنها الغطاء و
امتد اليها البصر، لكان يرى التخطيط و التصوير يظهر عليها شيئا فشيئا، و لا يرى
المصور و لا آلته، فسبحانه من مصور فاعل يتصرف في مصنوعه من دون احتياج
الى مباشرة آلة و لا افتقار الى مكادحة عمل.

تذنيب


ثم تامل-ايها المتامل-في عجائب حكم ربك: انه لما كبر الصبي و ضاق عنه الرحم
كيف هداه السبيل الى الخروج حتى تنكس و تحرك، و خرج من ذلك المضيق كانه عاقل
بصير، و لما خرج و كان محتاجا الى الغذاء و لم يحتمل بدنه الاغذية الكثيفة للينه و
رخاوته خلق له اللبن اللطيف، و استخرجه من بين الفرث و الدم، خالصا سائغا، و
خلق الثديين و جمع فيهما هذا اللبن، و انبت منهما الحلمة على قدر ما ينطبق فم
الصبي، و هداه الى التقامها، و فتح فيها ثقبا ضيقة جدا، حتى لا يخرج اللبن الا بعد
المص تدريجيا، لان الطفل لا يطيق منه الا القليل، ثم هداه الى الامتصاص حتى
يستخرج من مثل هذا المضيق اللبن الكثير عند شدة الجوع، و اخر خلق الاسنان الى
تمام الحولين، لانه لا يحتاج فيهما اليهما باللبن، و ما دام مغتذيا به
لما كان في دماغه رطوبة كثيرة سلط عليه البكاء، لتسيل به تلك الرطوبة، فلا تنزل
الى بصره او الى غيره من اعضائه فتفسده، ثم لما كبر و لم يوافقه اللبن الخفيف
و افتقر الى الاغذية الغليظة المحتاجة الى المضغ و الطحن انبت له الاسنان عند
الحاجة من دون تقديم و تاخير، و حنن عليه قلوب الوالدين بالقيام على تربيته و
تكفل حاله ما دام عاجزا عن تدبير نفسه.

ثم رزقه الادراك و الفهم و القدرة و العقل على التدريج حتى بلغ ما بلغ و اودع في
نفسه المجردة و قواها الباطنة اسرارا عجيبة تحير طوامح العقول و تدهش منها
ثواقب الانظار و الفهوم. فانظر الى قوة الخيال بعرضيتها الغير المنقسمة كيف
تطوى السماء و الارض و تتحرك من المغرب الى المشرق في آن واحد، و الى قوة
الوهم كيف تستنبط كثرة المعاني الجزئية في لحظة واحدة، و تاخذها من حواق
الاشياء، و الى المتخيلة كيف تركب بعضها بالبعض و تاخذ منها ما فيه الصلاح و
الرشاد في امر المعاش و المعاد.

ثم انظر في عجائب النفس و عالمها: من احاطتها بالبدن كله و تدبيرها له، مع
تنزهها عن صقع المكان و اتصافها بالعلم و القدرة و سائر الصفات الكمالية، و تمكنها
من الاحاطة على حقائق الاشياء باسرها، و تصرفها في الملك و الملكوت بقوتها
العقلية و العملية و مع ذلك عاجزة عن معرفة ذاتها و حقيقتها، و من تطوراتها في
الاطوار المختلفة، و تقلبها في النشآت المتباينة، و ترقياتها بحسب درجاتها و
مقاماتها، من لدن تعلقها بالنطفة القذرة الى صيرورتها عالما ربانيا محيطا
بحقائق الاشياء متصلا بالملكوت الاعلى، و من اجتماع عوالم السباع و البهائم و
الملائكة و الشياطين فيه (80) ، و اطاعة جميع الموجودات له، حتى السباع تخضع لديه و
الطيور تخفض اجنحة الذل بين يديه، و يستخدم الجن و يسخر الكواكب و روحانيتها،
و من عجائب عالمه الطبع الموزون و الصوت الحسن، و علمه بصناعة الموسيقى، و
استنباطه انواع الصنائع من الارض، و قد يتعدى الى عالم العجيبة و الحرف الغريبة.

و منها امر الرؤيا و اخباره بالمغيبات لاتصاله بالجواهر الروحانية، و
تاثيره في مواد الاكوان بنزع صورة و الباس اخرى، فيؤثر بانقطاعه الى الله في
استحالة الهواء الى الغيم و نزول الامطار، و ازالة انواع الامراض، و اهلاك قوم
و انجائهم، و تمكنه من فعل او تحريك يخرج عن وسع مثله، و امساكه عن القوت مدة غير
معتادة، و اقتداره على اظهار بدنه المثالي في مواضع مختلفة في وقت واحد، و احضاره
ما يريده من المطاعم و الملابس، و مصاحبته مع الملائكة و اخذ العلوم منهم.
فانظر-يا اخي-ان كنت من اهل اليقظة الى قدرة ربك العظيم حيث اودع جميع ذلك فيما
عرفت حاله من النطفة السخيفة القذرة، و هذه النطفة هي التي قد تصير ملكا شديد الهمة و
البطش مسخرا للربع المسكون، بحيث ينوط به انتظام النوع و اختلاله، و قد يصير
بحيث تظهر منه خوارق العادات و غرائب المعجزات في عالم الارض، و قد يتعدى الى
عالم الافلاك، فينشق القمر و يرد الشمس.

و ليت شعري ان الناس كيف يتعجبون من صيرورة الميت حيا، مع انه جثته كانت
موجودة و انما افيض عليه مجرد حس و حركة، و لا يتعجبون من بلوغ قطرة ماء قذرة
الى المراتب التي عرفتها. و ليس المنشا لذلك الا كثرة مشاهدتهم و تكرر
ملاحظتهم له مع ان هذا لا يدفع العجب و الغرابة لو نظروا بعين العبرة و البصيرة،
اذ منشاهما اما عظم الصنع و حسن الابداع، فهما في بلوغ النطفة الى المراتب
المذكورة اقوى و اشد من احياء ميت، او دلالة هذا الصنع و الفعل على صانع حكيم و فاعل
عليم، فلا ريب ايضا في ان دلالة الاول على ذلك اشد من دلالة الثاني عليه، اذ كل من
رزق ادنى حظ من البصيرة يعلم ان بلوغ قطرة ماء قذرة الى المراتب المذكورة ليس
الا من قدرة قادر حكيم و صنع صانع عليم، او من حدوث الفعل من دون مشاهدة سبب مباشر،
فهذا في امر النطفة اظهر، و على اي تقدير كان يكون التعجب و الغرابة في بلوغ
النطفة السخيفة القذرة الى المراتب المذكورة اشد و احرى من التعجب في احياء
ميت او ابراء اكمه او ابرص او تكلم حيوان او نبات او جماد او غير ذلك من
خوارق العادات و غرائب المعجزات، فالنظر الذي لا يقتضى منه العجب انما هو نظرة
حمقاء لم ينشا عن حقيقة الرواية و الاتقان و لم يصدر عن ذي قلب يقظان. و بالجملة: الحكم
و العجائب المودعة في النشاة الانسانية اكثر من ان تحصى. و انما اشرنا الى
نبذة قليلة منها تبصرة لمن استبصر، و تنبيها على كيفية التفكر في سائر مجاري
الفكر و النظر، قال الامام ابو عبد الله الصادق (ع) : «ان الصورة الانسانية اكبر
حجة لله على خلقه، و هي الكتاب الذى كتبه بيده، و هي الهيكل الذي بناه بحكمته، و هي
مجموع صور العالمين، و هي المختصر من العلوم في اللوح المحفوظ، و هي الشاهد على
كل غائب، و هي الحجة على كل جاحد، و هي الطريق المستقيم الى كل خير، و هي الصراط
الممدود بين الجنة و النار» .

و اذا عرفت نبذا من عجائب نفسك و بدنك، فقس عليه عجائب الارض التي هي مقرك،
بوهادها، و تلالها، و سهلها، و جبالها، و اشجارها، و انهارها، و بحارها و
ازهارها، و برارها، و عمارها و مدنها، و امصارها، و معادنها، و جمادها، و
حيوانها، و نباتها، فان كل ما نظرت اليه منها لو تاملته لوجدته مشتملا على
غرائب حكم لا تعد و عجائب مصالح لا تحد، و لرايته آية باهرة على عظمة مبدعه و حجة قاطعة
على جلالة موجده.

فانظر-اولا-الى (رواسي الجبال) و شوامخ الصم الصلاب، كيف احكم بها جوانب
الارض و اودع المياه تحتها، فانفرجت من هذه الاحجار اليابسة و التربة الكدرة
مياه عذبة صافية، و اودع فيها الجواهر النفيسة العالية و هدى الناس الى
استخراجها و استعمالها فيما ينبغي، و خلق في الارض معادن يحتاج اليها نوع
الانسان، و لو فقد واحدا منها لم يتم انتظامه، و لم يترك معمورة لم يكن في قربها
هذه المعادن، و جعل ما يكون الاحتياج اليه اشد و اكثر اعم وجودا و اقرب مسافة،
كالملح و مثله.

ثم انظر الى (انواع النبات) بكثرتها و اختلافها في الاشكال و الالوان و
الطعوم و الروائح و الخواص و المنافع، فهذا يغذي، و هذا يقوي، و هذا يقتل، و هذا
يحيى، و هذا يسخن، و هذا يبرد، و هذا يجفف، و هذا يرطب و هذا يسهر، و هذا ينوم، و
هذا يحزن، و هذا يفرح. . . الى غير ذلك من المنافع المختلفة و الفوائد المتباينة، مع
اشتراكها في السقي من ماء واحد، و الخروج من ارض واحدة. (فان قلت) : اختلافها لا
ختلاف بذورها، (قلنا) : متى كانت في النواة نخلة مطوقة بعناقيد الرطب؟ و متى كانت
في حبة واحدة سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة؟ و انظر الى كل شجر و نبت اذا انزل
عليها الماء كيف يهتز و يربو و يخضر و ينمو بجميع اجزائه من الاصول و الاغصان و
الاوراق و الاثمار على نسبة واحدة، من غير زيادة لجزء على آخر لوصول الماء
اليها على نسبة واحدة و قسمته عليها بالسوية، فمن هذا القاسم العدل في فعل ما
ليس له شعور و لا ادراك؟ فتبا لاقوام يسندون هذه الحكم المتقنة الظاهرة و
المصالح المحكمة الباهرة الى ما لا خبر له بوجوده و ذاته و لا بافعاله و صفاته.

ثم انظر الى (انواع الحيوانات) و اصنافها و كثرتها و اختلافها: من الطيور
و الوحوش و السباع و البهائم، كيف هدى الله كل واحد منها الى ترتيب المنزل و
تحصيل القوت، و جعل ما لا يتم معاش الانسان بدونه من الانعام و البهائم مانوسا
به غير متوحش عنه، و غيره وحشيا عنه غير الف به، و جعل في كل منها من عجائب الحكم و
غرائب المصالح ما تتحير منه العقول، فمن ذا الذي يقدر ان يحيط بعجائب خلق
العنكبوت و النحلة-بل البقة و النملة- و غرائب افعالها مع كونها من صغار
الحيوانات، من وضع منازلها و جميع اقواتها و ادخارها لنفسها و هدايتها الى
حوائجها؟ فاي مهندس يقدر على رسم بيوت النحل و العنكبوت على هذا التناسب الهندسي؟
و انظر كيف جعل العنكبوت بيته شبكة ليصيد بها البق و الذباب. و بالجملة: كل شخص من
الحيوان اودع فيه من العجائب ما لا يمكن وصفه، و كل احد انما يدرك قدر ما يصل اليه
فهمه.

ثم انتقل من عالم الارض الى (عالم البحر) و عجائبه من الحيوانات و
الجواهر و النفائس، فان العجائب المودعة فيه اضعاف عجائب الارض، كما ان سعته
اضعاف سعته، و كل حيوان يوجد في الارض يوجد فيه، و فيه حيوانات اخر ليس لها نظير
في البر اصلا، و قد يوجد فيه من الحيوانات ما عظمه بقدر جزيرة عظيمة، و كثيرا ما
ينزل الركبان عليه فيتحرك. او من عجائبه خلق اللؤلؤ في صدفة تحت الماء و انبات
المرجان من صم الصخور تحته، مع كونه على هيئة شجر ثابتة نامية. . . و قس عليه الغير
و سائر النفائس التي يقذفها البحر و تستخرج منه. و بالجملة عجائب البحر اضعاف
عجائب البر، و قد صنف جماعة فيها مجلدات من الكتب، و مع ذلك لم ياتوا الا
باليسير، و لم يذكروا الا قليلا من كثير.

ثم انتقل الى (عالم الجو) و عجائبه. من السبح و الغيوم و الامطار و الثلوج
و الشهب و البروق و الصواعق و الرعود، فانظر الى السحاب الخفيف مع رخاوته
كيف يحمل الماء الثقيل و يسكن في جو صاف لا يتحرك الا ان ياذن الله سبحانه في
ارساله الماء، و تقطيع القطرات كل قطرة بالقدر الذي شاء و اراد، فينزل قطرات
متفاصلة لا تدرك قطرة منها اخرى، و لا يتقدم المتاخرة و لا يتاخر المتقدم، حتى
يصيب الارض قطرة قطرة، و عين كل قطرة لجزء من الارض او قوتا لحيوان معين، و لو
كنت-يا حبيبي-ذا قلب لشاهدت في كل قطرة خطا اليها مكتوبا بقلم الهي: انه يصيب
الجزء الفلاني من الارض، او رزق للحيوان الفلاني في الموضع الفلاني.

ثم ارفع راسك الى هذا (السقف الاخضر) قائلا: سبحانك! ما خلقت هذا باطلا. و انظر
الى هذه الاجرام النورية و عجائبها، و اصرف برهة من وقتك في الفحص عن حقائق
غرائبها: من الشمس و اضاءتها عالم الاكوان، و القمر و اختلاف تشكلاته في
الزيادة و النقصان، و سائر الانجم الدائرة، و الكواكب الثابتة و السائرة، و
اختلاف صورها و اشكالها و مقاديرها و اوضاعها، و تفاوت مشارقها و مغاربها، و
تباين منازلها و مواضعها، و اجتماعها و اتصالها، و تفرقها و انفصالها، و
طلوعها و افولها، و كسوفها و خسوفها، و انتظام حركاتها و اتساق دورانها،
و حسن وضعها و ترتيبها و عجيب نضدها و ترصيعها، بحيث حصل من كيفية نضدها و وضعها
صور جميع الحيوانات:

من العقرب و الحمل و الثور و الجدى و الانسان و الحوت و السرطان، بل صور غير
الحيوان: من السنبلة و الميزان و القوس و الدلو و غير ذلك. حتى ما من صورة في
الارض الا و لها تمثال في السماء ا يظن عاقل ان وضع هذه الكواكب على هذه الصورة و
اختلاف بعضها في اللون: ككمودة زحل، و حمرة المريخ، و قلب العقرب، و صفرة عطارد، و
رصاصية الزهرة و المشترى، بمجرد الاتفاق، و ليس لخالقها في ذلك حكمة و مصلحة فما
اشد جهلا و حمقا من توهم ذلك!

ثم انظر الى حركة (الشمس) يسير فلكها و اتمامها الدور بهذا السير في سنة، و به
تقرب من وسط السماء و تبعد عنه، و بسير آخر تطلع و تغرب في كل يوم و تتم الدور
بيوم و ليلة، فلو لا سيرها الاول الموجب لغاية قربها الى وسط السماء مدة، و غاية
بعدها عنه تارة، و توسطها بين الغايتين مرتين، لم تحصل الفصول الاربعة
الموجبة لنشوء النباتات و الثمار و نضجها و بلوغها الى غاياتها المطلوبة، و
لو لا سيرها الثاني لم يختلف الليل و النهار، فلم يتميز وقت المعاش عن وقت
الاستراحة، و لم تعرف المواقيت من الشهور و الاعوام و الساعات و الايام. و
تامل في انه لو لم تكن السماوات مستديرة و حركاتها دورية، لم يتم شى ء من
الفوائد و الحكم المطلوبة من الحركة و الزمان و ما ارتبط بها من امور العالم
السفلى.

ثم انظر الى عظم اقدار هذه الاجرام السماوية، حتى لا قدر لجميع العوالم السفلية
من الارض و البحار و عالم الجو بالنسبة اليها، فلا يمكن ان يقال جميع ذلك
بالنسبة اليها، بل بالنسبة الى فكل الشمس فقط-مثلا-كنسبة قطرة الى البحر المحيط،
و قد قال المهندسون: ان جرم كوكب الشمس فقط مائة و نيف و ستون ضعف الارض بجميعها،
بل قال بعضهم اكثر من ذلك، و مع ذلك بينوا ان ثخن فلك المريخ ثلاثة امثال غلظ
فلك الشمس، مع ما فيه من افلاك الزهرة و عطارد و القمر و العناصر الاربعة، ثم اصغر
كوكب تراه في السماء هو مثل جميع الارض ثماني مرات، و اكبرها ينتهي الى قريب
من مائة و عشرين مثلا للارض.

ثم انظر مع هذا العظم الى سرعة حركتها و خفتها، فان شدة سرعة حركتها مما لا يمكن
دركها، الا انك لا تشك في ان كل جزء من الفلك في لحظة يسيرة يسير مقدار عرض كوكب، و
الزمان من طلوع اول جزء من كوكب الى تمامه في غاية القلة. و قد علمت ان هذا
الكواكب اما مثل الارض مائة و نيف و ستين مرة او اكثر او مائة و عشرين مرة او
مائة مرة، و الاقل قدرا ان يكون مثلها ثماني مرات، فقد دار كل جزء من الفلك في هذه
اللحظة مثل الارض مائة و سبعين مرة او مائة و عشرين مرة. و قد عبر روح الامين عليه
السلام عن سرعة حركة الفلك، اذا قال سيد الرسل-صلى الله عليه و آله و سلم-: «هل زالت
الشمس؟ » قال: لا. نعم! فقال له: كيف تقول لا. نعم! فقال: من حيث قلت: لا، الى ان قلت نعم،
سارت الشمس مسيرة خمسمائة عام.

فتيقظ-يا اخي-من نوم الطبيعة، و تامل من الذى حرك هذه الاجسام الثقيلة العظيمة
بهذه الحركة السريعة الخفيفة، و ادخل صورتها مع اتساع اكنافها في حدقة العين
بصغرها، و تفكر من ذا الذي سخرها و ادار رحاها، فقل: «بسم الله مجريها و مرسيها» ،
و لو نظرت اليها بعين البصيرة، لعلمت انها عباد طائعون خاضعون، و عشاق الهيون و
الهون، و باشارة من ربهم الى يوم القيامة رقاصون دائرون.

و بالجملة: لو نظرت بعين العبرة في ذرات الوجود لا تجد ذرة من ملكوت
السماوات و الارض الا و فيها غرائب حكمة يكل البيان عن وصفها، و لو كان لك قلب و
القيت السمع و انت شهيد، لعلمت ان جميع ذرات الكائنات شواهد ظاهرة و آيات
متظافرة على عظمة ربك الاعلى، و ما من ذرة الا و هي بلسان حالها ناطقة و عن جلالة
بارئها مفصحة، قائلة لاصحاب الشهود بحركاتها و سكناتها، و منادية لارباب القلوب
بنغماتها: او ما تنظرون الى خلقي و تكويني و تصويري و تركيبي و اختلاف صفاتي و
حالاتي و تحولي في اطواري و تقلباتي؟ او لا تشاهدون كثرة فوائدي و منافعي و غرائب
حكمي و مصالحي؟ ا تظنون اني تكونت بنفسي او خلقنى احد من جنسي؟ او تستحيون تنظرون في
كلمة مرقومة من ثلاثة احرف، فتجزمون انها صنعة آدمى مريد عالم و متكلم قادر، ثم
تنظرون الى عجائب الخطوط الالهية المرقومة على صفحات وجهي و العجائب الربانية
المودعة في باطنى و ظاهري، و مع ذلك عن عظمة ربي غافلون و عن علمه و حكمته ذاهلون؟ !

تتميم


قد دريت اجمالا ان التفكر النافع محصور بين التفكر في صفات الله و عجائب
افعاله، و التفكر في ما يقرب العبد الى الله ليفعله و فيما يبعده عنه ليتركه. و غير
ذلك من الافكار ليس نافعا و لا متعلقا بالدين. مثال ذلك ان حال السائر الى
الله الطالب للقائه، كحال العاشق المستهتر، فكما ان تفكره لا يتجاوز عن التفكر
في معشوقه و جماله و في صفاته و افعاله و في افعال نفسه التى تقربه منه و تحببه
اليه ليتصف بها، او التي تبعده عنه و تسقطه عن عينه ليتنزه عنها، و لو تفكر في غير
ذلك كان ناقص العشق، كذلك المحب الخالص لله ينبغي ان يحصر فكره في الله و في صفاته
و افعاله و فيما يقربه منه و يحببه اليه او يبعده عنه، و لو تفكر في غير ذلك كان
كاذبا فيما يدعيه من الشوق و الحب ثم التفكر في ذات الله، بل في بعض صفاته
مما لا يجوز، و قد منعته الشريعة الحقة الالهية و الحكمة المتعالية الحقيقية، لان ذاته
اجل من ان تكون مرقى لاقدام الافهام، او مرمى لسهام الاوهام، فطرح النظر
اليه يورث اختلاط الذهن و الحيرة، و جولان الفكر فيه يوجب اضطراب العقل و الدهشة
و بعض الصديقين المتجردين عن جلباب البدن لو اطاقوا اليه مد البصر فانما
هو كالبرق الخاطف، و لو تجاوزوا عن ذلك لاحترقوا من سبحات وجهه.

و حال الصديقين في ذلك كحال الانسان في النظر الى الشمس، فانه و ان قدر على مد
البصر اليها، الا ان ادامته يورث الضعف و العمش، بل لا مشابهة بين الحالين، و
انما هو مجرد تقريب و تفهيم، فان المناسبة بين نور الشمس و نور البصر في
الجملة ثابتة، و اين مثل هذه المناسبة بين نور البصر و نور الانوار القاهر على
كل نور بالاحاطة و الغلبة، و ما من نور الا و هو منبجس من نوره و مترشح عن ظهوره،
فكل نور في مرتبة نوره زائل، و كل ظهور فى جنب ظهوره و شروقه مضمحل باطل.

و لما كان التفكر في ذاته تعالى مذموما، فانحصر التفكر الممدوح في التفكر في
عجائب صنعه و بدائع خلقه-و قد تقدم-و في ما يقرب العبد الى الله من الفضائل الخلقية و
الطاعات العضوية، و ما يبعده عنه من الملكات الباطنة و المعاصي الظاهرة. و هذه
الملكات و الافعال هى المعبر عنها بالمنجيات و المهلكات و الطاعات و
السيئات التي تذكر في هذا الكتاب و في غيره من كتب الاخلاق، و المراد بالتفكر
فيها ههنا ان يتفكر العبد في كل يوم و ليلة في وقت واحد او اوقات متعددة في اخلاقه
الباطنة و اعماله الظاهرة، و يتفحص عن حال قلبه و اعضائه، فان وجد قلبه مستقيما
على جادة العدالة متصفا بجميع الفضائل الخلقية و مجتنبا عن الرذائل الباطنة، و
وجد اعضاءه ملازمة للطاعات و العبادات المتعلقة بها تاركة للمعاصى المنسوبة
اليها، فليشكر الله على عظيم توفيقه، و ان وجد في قلبه شيئا من الرذائل او رآه
خاليا عن بعض الفضائل، فليبادر الى العلاج بالقوانين المقررة، بعد التفكر في سوء
خاتمته و ادائه الى مقت الله و هلاكه، و كذلك ان عثر بالتفكر على صدور معصية او
ترك طاعة منه فليتداركه بالندم و التوبة و قضاء تلك الطاعة.

و لا ريب في ان هذا القسم من التفكر له مجال متسع و القدر الضروري منه يستغرق
اليوم بليلته، و الاستقصاء فيه خارج عن حيطة شهر و سنة، اذ اللازم منه ان يتفكر
في كل يوم و ليلة في كل واحد من الملكات المهلكة:

من البخل، و الكبر، و العجب، و الرياء، و الحقد، و الحسد. و الجبن، و شدة الغضب و
الحرص و الطمع و شره الطعام و الوقاع، و حب المال، و حب الجاه، و النفاق، و سوء
الظن، و الغفلة، و الغرور. . . و غير ذلك. و ينظر بنور الفكرة و البصيرة في زوايا قلبه،
و يتفقد منها هذه الصفات، فان وجدها بظنه خالية عنها، فليتفكر في كيفية امتحان
القلب و الاستشهاد بالعلامات الدالة على البراءة اليقينية، فان النفس قد تلبس
الامر على صاحبها: فان ادعت البراءة من الكبر، فينبغي ان يمتحن بحمل قربة ماء
او حزمة حطب في السوق، فان ادعت البراءة من الغضب فليجرب بايقاعها في معرض
اهانة السفهاء، و هكذا فليمتحن في غيرهما من الصفات بالامتحانات التي كان
الاولون و السلف الصالحون يجربون بها انفسهم، حتى يطمئن بانقطاع اصولها و
فروعها من قلبه. و لو وجد بالامتحان او تصريح المشاهدة و العيان شيئا منها في
قلبه.

فليتفكر في كيفية الخلاص من المعالجة بالضد او بالموعظة و النصيحة و التوبيخ و
الملامة، او ملازمة اولى الاخلاق الفاضلة و مجالسة اصحاب الورع و التقوى، او
بالرياضة و المجاهدة و غير ذلك. فان نفع شى ء منها في الازالة بالسهولة فليحمد
الله على ذلك، و الا فليواظب على هذه المعالجات و تكررها حتى يوفقه الله للخلاص
بمقتضى وعده.

ثم يتفكر في كل واحد من الفضائل المنجية: كاليقين، و التوكل، و الصبر على البلاء،
و الرضا بالقضاء، و الشكر على النعماء، و اعتدال الخوف و الرجاء، و الشجاعة و
السخاء، و الزهد و الورع، و الاخلاص في العمل، و ستر العيوب، و الندم على الذنوب، و
حسن الخلق مع الخلق، و حب الله و الخشوع له. . . و غير ذلك، فان وجد قلبه متصفا
بالجميع فليجر به بالعاملات حتى يطمئن من تلبيس النفس-كما علمت طريقه-و ان
وجد قلبه خاليا من شى ء منها فليتفكر في طريق تحصيله-كما اشير اليه-. ثم يتوجه
الى كل واحد من اعضائه و يتفكر في المعاصى المتعلقة به، مثل ان ينظر في لسانه و
يتفكر في انه هل صدر منه شى ء من الغيبة، او الكذب، او الفحش، او فضول الكلام او
النميمة، او الثناء على النفس، او غير ذلك. ثم ينظر في سمعه، و يتفكر في انه هل سمع شيئا
من ذلك. ثم ينظر في بطنه هل عصى الله باكل حرام او شبهة، او كثرة مانعة عن صفاء
النفس و غير ذلك. . .

و هكذا يفعل في كل عضو عضو.

ثم يتفكر في الطاعات المتعلقة بكل واحد منها و فيما خلق هذا العضو لاجله من
الفرائض و النوافل، فان وجد-بعد التفكر-عدم صدور شى ء من المعاصى عن شي ء منها-و
اتيانها بالطاعات المفروضة عليها باسرها و بالنوافل المرغبة اليها بقدر
اليسر و الاستطاعة فليحمد الله على ذلك، و ان عثر على صدور شي ء من المعاصي او ترك
شى ء من الفرائض، فليتفكر اولا في الاسباب الباعثة على ذلك، من الاشتغال بفضول
الدنيا او مصاحبة اقران السوء او غير ذلك، فليبادر الى قطع السبب، ثم التدارك
بالتوبة و الندم، لئلا يكون غده مثل يومه. و هذا القدر من التفكر في كل يوم و ليلة
لازم لكل دين معتقد بالنشاة الآخرة، و قد كان ذلك عادة و ديدنا لسلفنا المتقين في
صبيحة كل يوم او عشية كل ليلة، بل كانت لهم جريدة يكتبون فيها رؤوس المهلكات و
المنجيات و يعرضون في كل يوم و ليلة صفاتهم عليها، و مهما اطمانوا بقطع رذيلة
او الاتصاف بفضيلة يخطون عليها في الجريدة، و يدعون الفكر فيها، ثم يقبلون على
البواقي، و هكذا يفعلون حتى يخطوا على الجميع، و من كان اقل مرتبة منهم من الصلحاء
ربما يثبتون في جريدتهم بعض المعاصي الظاهرة من اكل الحرام، و الشبهة، و اطلاق
اللسان، و الكذب، و الغيبة و المزاء، و النميمة، و المداهنة مع الخلق بترك الامر
بالمعروف و النهي عن المنكر. . . و غير ذلك، و يفعلون بمثل ما مر.

و بالجملة: كان اخواننا السالفون و سلفنا الصالحون لا ينفكون عن هذا النوع من
التفكر، و يرونه من لوازم الايمان بالحساب، فاف علينا حيث تركنا بهم التاسي
و القدوة، و خضنا في غمرات الغفلة، و لعمري انهم لو راونا لحكموا بكفرنا و عدم
ايماننا بيوم الحساب، كيف و اعمالنا لا تشابه اعمال من يؤمن بالجنة و النار.
فان من خاف شيئا هرب منه، و من رجا شيئا طلبه، و نحن ندعي الخوف من النار و نعلم
ان الهرب منها بترك المعاصى و مع ذلك منهمكون فيها، و ندعى الشوق الى الجنة و
نعلم ان الوصول اليها بكثرة الطاعات و مع ذلك مقصرون في فعلها.

ثم هذا النوع من التفكر انما هو تفكر العلماء و الصالحين، و اما تفكر الصديقين
فاجل من ذلك، لانهم مستغرقون في لجة الحب و الانس، و منقطعون بشراشرهم الى جناب
القدس، ففكرهم مقصور على جلال الله و جماله و قلبهم مستهتر به، بحيث فنى عن نفسه و
نسى صفاته و احواله، فحالهم ابدا كحال العشاق المستهترين عند لقاء المعشوق، و لا
تظن ان هذا التفكر-بل ادنى مراتب التلذذ بالتفكر في عظمة الله و جلاله-ممكن
الحصول بدون الانفكاك عن جميع الرذائل المهلكة و الاتصاف بجميع الفضائل المنجية،
فان حال المتفكر في جلال الله و عظمته مع اتصافه بالاخلاق الرذيلة، كحال العاشق
الذي خلى بمحبوبته، و كان تحت ثيابه حيات و عقارب تلدغه مرة بعد اخرى، فتمنعه
عن لذة المشاهدة والانس. و لا يتم ابتهاجه الا باخراجها عن ثيابه و لا ريب ان
الملكات الرذيلة كلها كالحيات و العقارب مؤذيات و مشوشات، و من كان له ادنى
معرفة و توجه الى مناجاة ربه و كان في نفسه شى ء منها، يجد انه كيف يشوشه و يصده عن
الابتهاج، ثم ان لدغ هذه الصفات لا يظهر ظهورا بينا للمنهمكين في علائق الطبيعة، و
بعد مفارقة النفس عن البدن يشتد الم لدغها بحيث يزيد على الم لدغ الحيات و العقارب
بمراتب شتى.

نصيحة


تيقظ-يا حبيبي-من نوم الغفلة، و تفكر اليوم لغدك، قبل ان تنشب مخالب الموت في
جسدك، و لا تنفك قوتك العاقلة عن التفكر في صفاتك و احوالك، و اعلم على سبيل القطع و
اليقين ان كل ما في نفسك من فضيلة او رذيلة و كل ما يصدر عنك من طاعة او معصية يكون
بازائه جزاء عند رحلتك عن هذه الدار الفانية، و اسمع قول سيد الرسل-صلى الله عليه و
آله و سلم-و لو كنت ذا قلب لكفاك ايقاظا و تنبيها، حيث قال: «ان روح القدس نفث في
روعى: احب ما احببت فانك مفارقه، و عش ما شئت فانك ميت، و اعمل ما شئت فانك
مجزى به » . و لعمرى انك ان كنت مؤمنا بالمبدا و المعاد لكفاك هذا الكلام واعظا و
حائلا بينك و بين الالتفات الى الدنيا و اهلها. و بالجملة: ينبغى للمؤمن الا يخلو
في كل يوم و ليلة عن الفكر في صفاته و افعاله، و اذا صرف برهة من وقته في هذا
التفكر و برهة اخرى في التفكر في عجائب قدرة ربه، و صار ذلك معتادا له، حصل لنفسه
كمال قوتيها العقلية و العملية، و خلصت عن الوساوس الشيطانية و الخواطر النفسانية،
وفقنا الله بعظيم فضله الموصول الى ما خلقنا لاجله.

(و منها) -اي و من رذائل القوة العاقلة-استنباط وجوده.

المكر و الحيل


للوصول الى مقتضيات قوتي الغضب و الشهوة. و اعلم ان المكر، و الحيلة، و الخدعة، و
النكر، و الدهاء: الفاظ مترادفة، و هي في اللغة قد تطلق على شدة الفطانة، و ارباب
المعقول يطلقونها على استنباط بعض الامور من المآخذ الخفية البعيدة على ما
تجاوز عن مقتضى استقامة القريحة، و لذا جعلوها ضدا للذكاء و سرعة الفهم، و العرف
خصصها باستنباط هذه الامور اذا كانت موجبة لاصابة مكروه الى الغير من حيث لا
يعلم، و ربما فسر بذلك في اللغة ايضا، و هذا المعنى هو المراد هنا.

و لتركبه من اصابة المكروه الى الغير و من التلبيس عليه، يكون ضده استنباط
الامور المؤدية الى الخيرية، و النصيحة لكل مسلم، و استواء العلانية للسريرية.

ثم فرق المكر و مرادفاته عن التلبيس و الغش و الغدر و امثالها، اما
باعتبار خفاء المقدمات و بعدها فيها دونها. او بتخصيص الاولى بنفس استنباط
الامور المذكورة و الثانية بارتكابها، و لذا عدت الاولى من رذائل القوة
الوهمية او العاقلة للعذر المذكور، و الثانية من رذائل الشهوية، و ربما كان
استعمالهما على الترادف، و اطلق كل منهما على ما تطلق عليه الاخرى. هذا و للمكر
مراتب شتى و درجات لا تحصى من حيث الظهور و الخفاء، فربما لم يكن فيه كثير دقة
و خفاء فيشعر به من له ادنى شعور، و ربما كان في غاية الغموض و الخفاء بحيث لم
يتفطن به الاذكياء. و من حيث الموارد و المواضع كالباعث لظهور المحبة و
الصداقة و اطمئنان عاقل، ثم التهجم عليه بالايذاء و المكروه، و الباعث لظهور
الامانة و الديانة و تسليم الناس اموالهم و نفائسهم اليه على سبيل الوديعة او
المشاركة او المعاملة، ثم اخذها و سرقها على نحو آخر من وجوه المكر، و كالباعث
لظهور ورعه و عدالته و اتخاذ الناس اياه اماما او اميرا فيفسد عليهم باطنا
دينهم و دنياهم. و قس على ذلك غيره من الموارد و المواضع.

ثم المكر من المهلكات العظيمة، لانه اظهر صفات الشيطان، و المتصف به اعظم
جنوده، و معصيته اشد من معصية اصابة المكروه الى الغير في العلانية، اذ المطلع
بارادة الغير ايذاءه يحتاط و يحافظ نفسه عنه، فربما دفع اذيته، و اما
الغافل فليس في مقام الاحتياط، لظنه ان هذا المكار المحيل محب و ناصح له، فيصل
اليه ضره و كيده في لباس الصداقة و المحبة. فمن احضر طعاما مسموما عند الغير
مريدا اهلاكه فهو اخبث نفسا و اشد معصية ممن شهر سيفه علانية مريدا قتله، اذ
الثاني اظهر ما في باطنه و اعلم هذا الغير بارادته، فيجزم بانه عدو محارب
له فيتعرض لصرف شره و منع ضره، فربما تمكن من دفعه، و اما الاول فظاهره في مقام
الاحسان و باطنه في مقام الايذاء و العدوان، و الغافل المسكين لا خبر له عن
خباثة باطنه، فيقطع بانه يحسن اليه، فلا يكون معه في مقام الدفع و الاحتياط، بل
في مقام المحبة و الوداد، فيقتله و هو يعلم انه يحسن اليه، و يهلكه و هو في مقام
الخجل منه.

و بالجملة: هذه الرذيلة اخبث الرذائل و اشدها معصية، و لذلك قال رسول الله-صلى
الله عليه و آله و سلم-: «ليس منا من ماكر مسلما» . و قال امير المؤمنين (ع) : «لو لا
ان المكر و الخديعة في النار لكنت امكر الناس » ، و كان (ع) كثيرا ما يتنفس الصعداء و
يقول: «وا ويلاه يمكرون بى و يعلمون اني بمكرهم عالم و اعرف منهم بوجوه المكر، و لكني
اعلم ان المكر و الخديعة في النار فاصبر على مكروهم و لا ارتكب مثل ما ارتكبوا» .

و طريق علاجه-بعد اليقظة-ان يتامل في سوء خاتمته و وخامة عاقبته، و في تاديته
الى النار و مجاورة الشياطين و الاشرار، و يتذكر ان و بال كل مكر و حيلة يرجع في
الدنيا الى صاحبه، كما نطقت به الايات و الاخبار و شهدت به التجربة و
الاعتبار. ثم يتذكر فوائد ضد المكر و محامده، اعني استنباط ما يوجب النصيحة و
الخيرية للمسلمين و موافقة ظاهره لباطنه في افعاله و اقواله-كما ياتي في محله-و
بعد ذلك لو كان عاقلا مشفقا على نفسه لاجتنب عنه كل الاجتناب، و ينبغي ان يقدم
التروي في كل فعل يصدر عنه لئلا يكون له فيه مكر و حيلة، و اذا عثر على فعل يتضمنه
فليتركه معاتبا لنفسه، و اذا تكرر منه ذلك تزول عن نفسه اصول المكر و فروعه
بالكلية بعون الله و توفيقه.

تعليقات:

50) الاعراف، الآية: 201.

51) ق، الآية: 36.

52) الفجر، الآية: 27-28.

53) الفرقان، الآية: 43.

54) البقرة، الآية: 7.

55) الفرقان، الاية: 44.

56) يس، الاية: 10.

57) يس، الاية: 7.

58) البقرة الآية: 284.

59) البقرة الآية: 286.

60) اى و اما الدليل على انه يكتب سيئة.

61) بنى اسرائيل، الآية: 38.

62) البقرة، الآية: 225.

63) النجم، الآية: 32.

64) الروم الآية: 8.

65) الاعراف، الآية: 185.

66) الحشر، الآية: 3.

67) العنكبوت، الآية: 20.

68) آل عمران، الآية: 190.

69) الذاريات، الآية: 20-21.

70) آل عمران، الآية 191.

71) روى هذه الاحاديث في الكافي في (باب التفكر) عن ابى عبد الله -عليه
السلام-كما هنا.

72) النحل، الاية: 68.

73) القحف: العظم فوق الدماغ و ما انفلق من الجمجمة فبان قال في القاموس: «و لا
يدعى قحفا حتى يبين او ينكسر منه شى ء» .

74) هذه الجملة مطابقة لنسختنا الخطية و المطبوعة، لكنها غير موجودة في النسخة
الخطية الاخرى.

75) الموجود في نسختنا الخطية: «فسحة » بدل (نسيجة) .

76) هو الخرطوم المتصل بالاوداج الاربعة الى الحنجرة.

77) كلمة يونانية، المراد منه هو الطعام المطبوخ في المعدة طبخا ناقصا.

78) ماء الكشك: هو ماء الشعير.

79) اى العروق تحت المعدة المتصلة بالمعاء. و الكلمة يونانية.

80) تذكير الضمير هنا و فيما ياتي باعتبار الانسان، و تقدم مثله صفحة (11) .


/ 15