جامع السعادات جلد 1

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

جامع السعادات - جلد 1

محمد مهدی النراقی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



الباب الثاني في بيان اقسام الاخلاق و تفصيل القول فيها «و فيه فصول »


اجناس الفضائل الاربعة و الاقوال في حقيقة العدالة-حقيقة العدالة انقياد العقل العملي
للعقل النظرى و لوازم الاقوال في العدالة-العقل النظرى هو المدرك للفضائل و
الرذائل-دفع اشكال في تقسيم الحكمة- تحقيق الوسط و الاطراف-اجناس الرذائل و
انواعها-الفرق بين الفضيلة و الرذيلة-العدالة اشرف الفضائل-اصلاح النفس قبل اصلاح
الغير و اشرف وجوه العدالة عدالة السلطان-لا حاجة الى العدالة مع رابطة المحبة-
التكميل الصناعي لاكتساب الفضائل على طبق ترتيب الكمال الطبيعي.

فصل


(اجناس الفضائل الاربع و الاقوال في حقيقة العدالة)


قد تبين في العلم الطبيعي ان للنفس الناطقة قوتين: «اولاهما» : قوة الادراك و
«ثانيتهما» : قوة التحريك، و لكل منهما شعبتان: (الشعبة الاولى)

للاولى العقل النظرى، و هو مبدا التاثر عن المبادى ء العالية بقبول الصور العلمية،
و (الشعبة الثانية) لها العقل العملي، و هو مبدا تحريك البدن في الاعمال الجزئية
و هذه الشعبة من حيث تعلقها بقوتي الشهوة و الغضب مبدا «لحدوث » (2) بعض
الكيفيات الموجبة لفعل او انفعال، كالخجل و الضحك و البكاء و غير ذلك، و من حيث
استعمالها الوهم و المتخيلة مبدا لاستنباط الآراء و الصنائع الجزئية. و من حيث
نسبتها بالعقل و حصول الازدواج بينهما سبب لحصول الآراء الكلية المتعلقة
بالاعمال كحسن الصدق و قبح الكذب، و نظائرهما. (الشعبة الاولى) للثانية قوة
الغضب و هي مبدا دفع غير الملائم على وجه الغلبة، و (الشعبة الثانية) لها قوة
الشهوة و هي مبدا جلب الملائم.

ثم اذا كانت القوة الاولى غالبة على سائر القوى و لم تنفعل عنها، بل كانت هي
مقهورة عنها مطيعة لها فيما تامرها به و تنهاها عنه، كان تصرف كل منها على وجه
الاعتدال، و انتظمت امور النشاة الانسانية، و حصل تسالم القوى الاربع و
تمازجها، فتهذب كل واحد منها، و يحصل له ما يخصه من الفضيلة، فيحصل، من تهذيب
العاقلة العلم و تتبعه الحكمة، و من تهذيب العاملة العدالة، و من تهذيب الغضبية
الحلم و تتبعه الشجاعة، و من تهذيب الشهوية العفة و تتبعه السخاوة. و على هذا
تكون العدالة كمالا للقوة العملية.

(بطريق آخر)


قيل: ان النفس لما كانت ذات قوى اربع العاقلة و العاملة و الشهوية و الغضبية، فان
كانت حركاتها على وجه الاعتدال، و كانت الثلاث الاخيرة مطيعة للاولى، و اقتصرت
من الافعال على ما تعين لها، حصلت اولا فضائل ثلاث هي الحكمة و العفة و الشجاعة،
ثم يحصل من حصولها المترتب على تسالم القوى الاربع، و انقهار الثلاث تحت
الاولى حالة متشابهة هي كمال القوى الاربع و تمامها، و هي العدالة. و على هذا لا
تكون العدالة كمالا للقوة العملية فقط، بل تكون كمالا للقوى باسرها:

و على الطريقين تكون اجناس الفضائل اربعا: «الحكمة » و هي معرفة حقائق الموجودات
على ما هي عليه، و الموجودات ان لم يكن وجودها بقدرتنا و اختيارنا فالعلم
المتعلق بها هو الحكمة النظرية، و ان كان وجودها بقدرتنا و اختيارنا فالعلم
المتعلق بها هو الحكمة العملية. «و العفة » هي انقياد القوة الشهوية للعاقلة فيما
تامرها به و تنهاها عنه حتى تكتسب الحرية، و تتخلص عن اسر عبودية الهوى. «و
الشجاعة » و هي اطاعة القوة الغضبية للعاقلة في الاقدام على الامور الهائلة، و عدم
اضطرابها بالخوض فيما يقتضيه رايها حتى يكون فعلها ممدوحا، و صبرها محمودا.
و تفسير هذه الفضائل الثلاث لا يتفاوت بالنظر الى الطريقين.

و اما «العدالة » فتفسيرها على الطريق الاول هو انقياد العقل العملي للقوة العاقلة و
تبعيته لها في جميع تصرفاته، او ضبطه الغضب و الشهوة تحت اشارة العقل و الشرع
الذي يحكم العقل ايضا بوجوب اطاعته، او سياسة قوتي الغضب و الشهوة، و حملها على
مقتضى الحكمة، و ضبطهما في الاسترسال و الانقباض على حسب مقتضاه. و الى هذا
يرجع تعريف الغزالي «انها حالة للنفس و قوة بها يسوس الغضب و الشهوة، و يحملهما
على مقتضى الحكمة، و يضبطهما في الاسترسال و الانقباض على حسب مقتضاها» اذ
المراد من الحالة و القوة هنا قوة الاستعلاء التي للعقل العملي لا نفس القوة العملية.

و تفسيرها على الطريق الثاني هو ائتلاف جميع القوى، و اتفاقها على امتثالها
للعاقلة، بحيث يرتفع التخالف و التجاذب، و تحصل لكل منها فضيلته المختصة به. و لا
ريب في ان اتفاق جميع القوى و ائتلافها هو كمال لجميعها لا للقوة العملية فقط.

اللهم الا ان يقال ان الائتلاف انما يتحقق باستعمال كل من القوى على الوجه
اللائق، و استعمال كل قوة و لو كانت قوة نظرية انما يكون من القوة العملية، لان
شانها تصريف القوى في المحال اللائقة على وجه الاعتدال، و بدونها لا يتحقق صدور فعل
عن قوة.

ثم العدالة على الطريق الاول تكون امرا بسيطا مستلزمة للملكات الثلاث اعنى
الحكمة و العفة و الشجاعة، و على الثاني تحتمل البساطة و التركيب على الظاهر، و
ان كانت البساطة اقرب نظرا الى ان الاعتدال الخلقى بمنزلة الاعتدال المزاجى
الحاصل من ازدواج العناصر المتخالفة، و قد برهن في اصول الحكمة ان المزاج كيفية
بسيطة.

و تفصيل الكلام فى المقام انه اذا حصلت الملكات الثلاث حصل للعقل العملي قوة
الاستعلاء و التدبير على جميع القوى، بحيث كانت الجميع منقادة له، و استعمل كلا
منها على ما يقتضيه رايه، فان جعلت العدالة عبارة عن نفس هذه القوة، او نفس تدبير
التصرف في البدن و امور المنزل و البلد، دون الملكات الثلاث كانت العدالة بسيطة
و كانت كمالا للعقل العملي فقط، و ان جعلت نفس الملكات كانت مركبة، و حينئذ لا يناسب
جعلها فضيلة على حدة معدودة في اعداد الفضائل، لان جميع الاقسام لا يكون قسما منها،
و ليس الائتلاف و الامتزاج هيئة وحدانية عارضة للملكات الثلاث حتى تكون شيئا على
حدة و نوعا مركبا.

ثم على الطريقين يتحقق التلازم بين العدالة و الملكات الثلاث الا انه على
الطريق الاول تكون العدالة علة، و الملكات الثلاث معلولة، و على الطريق الثاني ينعكس
ذلك لتوقف حصول العدالة على وجود تلك الملكات و امتزاجها فهي اجزاء للعدالة او
بمنزلتها.

تكملة


(العدالة انقياد العقل العملى للعقل النظري)

الحق ان حقيقة العدالة هو التفسير الاول المذكور في الطريق الاول، اعني انقياد
العقل العملى للقوة العاقلة، و سائر التفاسير المذكورة في الطريقين لازمة له، اذا
الانقياد المذكور يلزمه اتفاق القوى و قوة الاستعلاء و السياسة للعقل العملى على قوتي
الغضب و الشهوة، او نفس سياسته اياهما و ضبطهما تحت اشارة العقل النظري، و
امثال ذلك، و على هذه التفاسير اللازمة للاول يلزم ان تكون العدالة جامعة لجميع
الفضائل، و يتحقق معناها في كل فضيلة حتى تكون فردا لها.

و تحقيق المقام ان انقياد العقل العملي للعاقلة يستلزم ضبط قوتي الغضب و الشهوة
تحت اشارة العقل، و سياسته اياهما، و استعلائه عليهما. و هذا يستلزم اتفاق جميع
القوى و امتزاجها. فجميع الفضائل الصادرة عن قوتي الغضب و الشهوة، بل عن
العاقلة ايضا انما تكون بتوسط العقل العملى و ضبطه اياها، الا ان ذلك لا يوجب
كونها كمالا له حتى يعد من فضائله، و وجهه ظاهر، و لا كون الضبط المذكور عدالة.

فالحق ان حقيقة العدالة هو مجرد انقياد العاملة للعاقلة، و مثل الضبط و الاستعلاء و
السياسة من لوازمه، و الفضائل الصادرة عن القوى الاخرى بتوسط العقل العملي انما
تندرج تحت لازم العدالة، لا عينها، فمن ادرج جميع الفضائل تحت العدالة نظره الى
اعتبار ما يلزمها، و من لم يدرجه تحتها نظره الى عدم اعتباره. و على هذا لا
باس بان يقال ان للعدالة اطلاقين (احدهما) العدالة بالمعنى الاخص (و ثانيهما)
العدالة بالمعنى الاعم.

ثم ان القوم ذكروا لكل واحد من الفضائل الاربع انواعا، فكما ادرجوا تحت كل
من الحكمة و العفة و الشجاعة انواعا، فكذا ادرجوا تحت العدالة ايضا انواعا
كالوفاء و الصداقة و العبادة و غيرها.

و انت-بعد ما علمت ان العدالة بالتفسير الاول هو انقياد العاملة للعاقلة في
استعمال نفس العاقلة و قوتي الغضب و الشهوة-تعلم ان الفضائل باسرها انما تحصل
باستعمال العاملة القوى الثلاث، فكل فضيلة انما تتعلق حقيقتها باحدى الثلاث، و
ان كان حصولها بتوسط العاملة و ضبطها الثلاث، اذ كون الاستعمال و الضبط منها
لا يقتضى استناد ما يحصل من الفضائل باستعمالها اليها مع صدورها حقيقة عن سائر
القوى. و كذا لا يقتضي استناد ما يحصل من الرذائل لعدم انقيادها للعاقلة اليها. و
معلوم انه لا يترتب على مجرد انقيادها او عدمه لها فضائل و رذائل لم يكن لها
تعلق بالثلاث اصلا، اذ كل فضيلة و رذيلة اما متعلق بالقوة العقلية، او بقوتي الغضب
و الشهوة بتوسط العاملة، و ليس لها في نفسها فضيلة و رذيلة على حدة كما لا يخفى. مع
انه لو كان الاستعمال و الضبط منشا لاستناد ما يحصل من الفضائل اليها لزم ان
تستند اليها جميع الفضائل، فكان اللازم ادخال جميع الفضائل تحت العدالة. و كذا
الحال على تفسير العدالة بالطريق الثاني كما ظهر.

و على هذا فيلزم من عدهم بعض الفضائل من انواع العدالة دون بعض آخر تخصيص بلا مخصص،
فالفضائل التي جعلوها انواعا مندرجة تحت العدالة بعضها من انواع الشجاعة او
لوازمها، و بعضها من انواع العفة او آثارها، و ان كان للعاملة من حيث التوسط
مدخلية في حصول الجميع.

فنحن لا نتابع القوم، و نجرى على مقتضى النظر من جعل انواع الفضائل و الرذائل و
اصنافها و نتائجها متعلقة بالقوى الثلاث دون العقل العملى، و ادخال جميعها تحت
اجناسها على ما ينبغي من دون ادخال شي ء منها تحت العدالة و ضدها.

ثم ان الرذائل و الفضائل مع مدخلية القوة العملية فيها بالاستعمال، اما متعلقة
بمجرد احدى القوى الثلاث، او باثنتين منها، او بالثلاث.

و مثال المتعلق باحداها ظاهر كالجهل و العلم المتعلقين بالعاقلة، و الغضب و
الحلم المتعلقين بالقوة الغضبية، و الحرص و القناعة المتعلقين بالقوة الشهوية و
اما ما يتعلق باثنتين منها او الثلاث فاما ان يكون له اصناف يتعلق بعضها
ببعض و بعضها ببعض آخر، كحب الجاه اعني طلب المنزلة في القلوب: فانه ان كان
المقصود منه الاستيلاء على الخلق و التفوق عليهم، كان من رذائل قوة الغضب. و ان
كان المقصود منه طلب المال ليتوسل به الى شهوة البطن و الفرج، كان من رذائل
قوة الشهوة، و كذا الحسد اعني تمنى زوال النعمة عن الغير: ان كان باعثه العداوة
كان من رذائل القوة الغضبية. و ان كان باعثه مجرد وصول النعمة اليه كان من
رذائل القوة الشهوية. او يكون للثلاث او الاثنتين مدخلية بالاشتراك في نوع الفضيلة
و الرذيلة او بعض اصنافه، كالحسد الذي باعثه العداوة و توقع وصول النعمة اليه معا،
و كالغرور و هو سكون النفس الى ما يوافق الهوى، و تمييل النفس اليه بخدعة من
الشيطان، فان النفس ان كانت مائلة بالطبع الى شي ء من مقتضيات الشهوة، و اعتقدت
جهلا كونه خيرا لها كان ذلك من رذائل قوتي العاقلة و الشهوة، و كان كانت مائلة
الى شي ء من مقتضيات قوة الغضب. و اعتقدت جهلا كونه خيرا لها كان ذلك من رذائل
قوتي العاقلة و الغضب، و ان كانت مائلة الى شي ء من مقتضياتهما معا مع اعتقادها
كونه خيرا لها كان من رذائل الثلاث معا.

ثم مرادنا من تعلق صفة بالقوى المتعددة و كونها معدودة من رذائلها او فضائلها
ان يكون لكل منها تاثير في حدوثها و ايجادها، اى يكون من جملة عللها الفاعلة
الموجدة، بحيث لو قطع النظر عن فعل واحدة منها لم تتحقق هذه الصفة، فان الغرور
يتحقق بالميل و الاعتقاد، بمعنى ان كلا منهما مؤثر في ايجاده و احداثه، و لو لم
يكن الاعتقاد المتعلق بالعاقلة و الميل المتعلق بالشهوة و الغضب لم يوجد غرور. فلو
كانت مدخلية قوة في صفة بمجرد الباعثية، اى كانت باعثة لقوة اخرى على ايجاد هذه
الصفة و احداثها، بحيث امكن تحقق هذه الصفة مع قطع النظر عن هذه القوة بباعث آخر لم
يكن متعلقة بها، و لم نعدها من رذائلها او فضائلها، بل كانت متعلقة بالقوة الاخرى
التي هي مباشرة لاحداثها و ايجادها، مثل الغضب الحاصل من فقد شى ء من مقتضيات
شهوة البطن و الفرج، و ان كان باعثه قوة الشهوة الا انه ليس لقوة الشهوة و
فعلها شركة في احداثه و ايجاده، بل الاحداث انما هو من القوة الغضبية، و مدخلية
الشهوية انما هو بتحريكها و تهييجها الغضبية للاحداث و الايجاد، و لا ريب في
ان للعاقلة هذه الباعثية في صدور اكثر الصفات مع عدم عدها من رذائلها «او
فضائلها» (3)

و اذا عرفت ذلك فاعلم انا نذكر اولا ما يتعلق بالعاقلة من الرذائل و الفضائل،
ثم ما يتعلق بالقوة الغضبية منهما، ثم ما يتعلق بالشهوية منهما ثم ما يتعلق بهما
او الثلاث.

وصل


العقل النظري هو المدرك للفضائل و الرذائل


اعلم ان كل واحد من العقل العملي و العقل النظري رئيس مطلق من وجه، اما «الاول » فمن
حيث ان استعمال جميع القوى حتى العاقلة على النحو الاصلح موكول اليه، و اما
«الثاني » فمن حيث ان السعادة القصوى و غاية الغايات اعني التحلي بحقائق
الموجودات مستندة اليه، و ايضا ادراك ما هو الخير و الصلاح من شانه فهو
المرشد و الدليل للعقل العملي في تصرفاته و قيل: ان ادراك فضائل الاعمال و رذائلها
من شان العقل العملي، كما صرح به الشيخ في الشفاء بقوله: «ان كمال العقل العملي
استنباط الآراء الكلية في الفضائل و الرذائل من الاعمال على وجه الابتناء على
المشهورات المطابقة في الواقع للبرهان، و تحقيق ذلك البرهان متعلق بكمال القوة
النظرية » .

و الحق ان مطلق الادراك و الارشاد انما هو من العقل النظري فهو بمنزلة المشير
الناصح، و العقل العملى بمنزلة المنفذ الممضى لاشاراته و ما ينفذ فيه الاشارة فهو
قوة الغضب و الشهوة.

دفع الاشكال في تقسيم الحكمة


ان قيل: ان القوم قسموا الحكمة اولا الى النظرية و العملية، ثم قسموا العملية الى
ثلاثة اقسام: واحد منها علم الاخلاق المشتمل على الفضائل الاربع التي احداها
الحكمة، فيلزم ان تكون الحكمة قسما من نفسها.

قلنا: الحكمة التي هي المقسم هو العلم باعيان الموجودات، سواء كانت الموجودات
الهية اي واقعة بقدرة البارى سبحانه، او موجودات انسانية اي واقعة بقدرتنا و
اختيارنا، و لما كان هذا العلم اعني الحكمة التي هي المقسم قسما من الموجودات
بالمعنى الثاني، فلا باس بالبحث عنه في علم الاخلاق، فان غاية ما يلزم ان تكون
الحكمة موضوعا لمسالة هي جزؤها بان يجعل عنوانا فيها و يحمل عليها كونها ملكة
محمودة، او طريق اكتسابها كذا.

و بالجملة لا مانع من ان يجعل علم يبحث فيه عن احوال الموجودات موضوعا
لمسالة، و يبحث عنه فيه باثبات صفة له لاجل انه ايضا الموجودات كما انه في
العلم الاعلى الذي يبحث فيه عن الموجودات من حيث وجودها يبحث عن نفس العلم
لكونه من الموجودات، و يجعل موضوعا لمسالة من مسائله، و لا يلزم من هذا كون
الشى ء جزءا لنفسه. و ايضا نقول كما ان الحكمة العملية قسم من مطلق الحكمة لتعلق العمل
بالنظر، فكذا المطلق قسم منها لتعلق النظر بالعمل، و حينئذ كما ان العدالة من الحكمة
باعتبار فكذا الحكمة من العدالة باعتبار آخر، فتختلف الحيثية و لا يلزم محذور.

و قيل: في الجواب ان المراد من الحكمة التي هي احدى الفضائل الاربع استعمال
العقل على الوجه الاصلح، و حينئذ فلا يرد اشكال اصلا لعدم كون الحكمة بهذا المعنى
عين المقسم لانها جزء له. و فيه ان الحكمة بهذا المعنى هي العدالة على ما تقرر، مع
ان العدالة ايضا احدى الفضائل الاربع (تنبيه) قد صرح علماء الاخلاق بان صاحب
الفضائل الاربع لا يستحق المدح ما لم تتعد فضائلها الى الغير، و لذا لا يسمى
صاحب ملكة السخاء بدون البذل سخيا بل منافقا، و لا صاحب ملكة الشجاعة بدون ظهور
آثارها شجاعا بل غيورا، و لا صاحب ملكة الحكمة بدونها حكيما بل مستبصرا.

و الظاهر ان المراد باستحقاق المدح هو حكم العقل بوجوب المدح، فان من تعدى اثره
يرجى نفعه، و يخاف ضره، فيحكم العقل بلزوم مدحه جلبا للنفع، او دفعا للضرر، و اما من
لا يرجى خيره و شره فلا يحكم العقل بوجوب مدحه و ان بلغ في الكمال ما بلغ.

فصل تحقيق الوسط و الاطراف


لا ريب في انه بازاء كل فضيلة رذيلة هي ضدها، و لما عرفت ان اجناس الفضائل اربعة
فاجناس الرذائل ايضا في بادى النظر اربعة:

الجهل، و هو ضد الحكمة، و الجبن، و هو ضد الشجاعة، و الشره و هو ضد العفة، و الجور، و
هو ضد العدالة. و عند التحقيق يظهر ان لكل فضيلة حدا معينا، و التجاوز عنه بالافراط
او التفريط يؤدى الى الرذيلة، فالفضائل بمنزلة الاوساط، و الرذائل بمثابة
الاطراف، و الوسط واحد معين لا يقبل التعدد، و الاطراف غير متناهية عددا.
فالفضيلة بمثابة مركز الدائرة، و الرذائل بمثابة سائر النقاط المفروضة من المركز
الى المحيط، فان المركز نقطة معينة، مع كونه ابعد النقاط من المحيط، و سائر النقاط
المفروضة من جوانبه غير متناهية، مع ان كلا منها اقرب منه من طرف اليه.

فعلى هذا يكون بازاء كل فضيلة رذائل غير متناهية، لان الوسط محدود معين، و
الاطراف غير محدودة، و تكون الفضيلة في غاية البعد عن الرذيلة التي هي نهاية
الرذائل، و يكون كل منها اقرب منها الى النهاية (4) ، و مجرد الانحراف عن الفضيلة من
اي طرف اتفق يوجب الوقوع في رذيلة.

و الثبات على الفضيلة و الاستقامة في سلوك طريقها بمنزلة الحركة على الخط
المستقيم، و ارتكاب الرذيلة كالانحراف عنه، و لا ريب في ان الخط المستقيم هو
اقصر الخطوط الواصلة بين النقطتين، و هو لا يكون الا واحدا، و اما الخطوط المنحنية
بينهما فغير متناهية، فالاستقامة في طريق الفضيلة و ملازمتها على نهج واحد، و
الانحراف عنه تكون له مناهج غير متناهية، و لذلك غلبت دواعي الشر على بواعث الخير.

و يظهر مما ذكر ان وجدان الوسط الحقيقي صعب، و الثبات عليه بعد الوجدان اصعب،
لان الاستقامة على جادة الاعتدال في غاية الاشكال، و هذا معنى قول الحكماء «اصابة
نقطة الهدف اعسر من العدول عنها، و لزوم الصوب (5) بعد ذلك حتى لا يخطيها اسر» و
لذلك لما امر فخر الرسل بالاستقامة في قوله تعالى:

«فاستقم كما امرت » (6)

قال شيبتني سورة هود عليه السلام، اذ وجد ان الوسط الحقيقي فيما بين الاطراف
الغير المتناهية المتقابلة مشكل، و الثبات عليه بعد الوجدان اشكل.

و قال (المحقق الطوسي) و جماعة: «ان ما ورد في اشارات النواميس من ان الصراط
المستقيم ادق من الشعر، و احد من السيف اشارة الى هذا المعنى » و غير خفي بان هذا
التاويل جراة على الشريعة القويمة، و هتك لاستار السنة الكريمة، و الواجب
الاذعان بظاهر ما ورد من امور الآخرة نعم يمكن ان يقال كما مر: ان الامور
الاخروية التي حصل بها الوعد و الوعيد كلها امور محققة ثابتة على ما اخبر به، الا
انها صور للاخلاق، و الصفات المكتسبة في هذه النشاة قد ظهرت بتلك الصور في دار
العقبى بحسب المرتبة، اذ ظهورات الاشياء مختلفة بحسب اختلاف المراتب و
النشآت فمواد ما يؤذى و يريح من الصور في موطن المعاد انما هو الاخلاق و
النيات المكتسبة في هذه النشاة. و هذا المذهب بما استقر عليه آراء اساطين
الحكمة و العرفان، و ذكرنا الظواهر الدالة عليه من الآيات و الاخبار، و اشرنا
الى حقيقة الحال فيه. و على هذا فالصراط المستقيم الممدود كالجسر على الجحيم
صورة لتوسط الاخلاق، و الجحيم صورة لاطرافها، فمن ثبت قدمه على الوسط هنا لم
يزل عن الصراط هناك و وصل الى الجنة التي وعدها الله المتقين، و من مال الى
الاطراف هنا سقط هناك في جهنم التي احاطت بالكافرين.

ثم الوسط اما حقيقي و هو ما تكون نسبته الى الطرفين على السواء كالاربعة
بالنسبة الى الاثنين و الستة، و هذا كالمعتدل الحقيقي الذى انكر الاطباء وجوده،
او اضافي و هو اقرب ما يمكن تحققه للنوع او الشخص الى الحقيقي و يتحقق به كمالهما
«اللائق بحالهما» (7) و ان لم يصل اليه، فالتسمية بالوسط انما هو بالنسبة الى
الاطراف التي هي ابعد من الحقيقي بالاضافة اليه، و هذا كالاعتدالات النوعية و
الشخصية التي اثبتها الاطباء، فان المراد منها الاعتدالات التي يمكن تحققها
للانواع و الاشخاص، و هو القدر الذي يليق بكل نوع او شخص ان يكون عليه، و ان لم يكن
اعتدالا حقيقيا بمعنى تساوى الاجزاء البسيطة العنصرية و تكافؤها في القوة و
الاقربية الى الحقيقي بالنسبة الى سائر الاطراف سمى اضافيا.

ثم الوسط المعتبر هنا هو الاضافي لتعذر وجدان الحقيقي و الثبات عليه، و لذا
تختلف الفضيلة بالاختلاف الاشخاص و الاحوال و الازمان، فربما كانت مرتبة من
الوسط الاضافي فضيلة بالنظر الى شخص او حال او وقت، و رذيلة بالنسبة الى غيره.

و توضيح الكلام انه لا ريب في ان الوسط الحقيقي في الاخلاق لكونه في حكم نقطة غير
منقسمة لا يمكن وجدانه و لا الثبات عليه، و لذا ترى من هو متصف بفضيلة من الفضائل
لا يمكن الحكم بكون تلك الفضيلة «هي الوسط الحقيقي، الا انه لما كانت تلك الفضيلة » (8)
قريبة اليه و لا يمكن وجود الاقرب منها اليه له، يحكم بكونها وسطا اضافيا
لاقربيتها اليه بالنسبة الى سائر المراتب فالاعتدال الاضافي له عرض، وسطه
الاعتدال الحقيقي، و طرفاه طرفا الافراط و التفريط، الا انه ما لم يخرج عن
هذين الطرفين يكون اعتدالا اضافيا، و كلما كان اقرب الى الحقيقي كان اكمل و
اقوى، و اذا خرج عنهما دخل في الرذيلة.

لا يقال: على هذا ينبغي ان يكون الاعتدال الطبي في المزاج ايضا كذلك اى له عرض
وسطه الاعتدال الحقيقي و طرفاه خارجان عن الاعتدال الطبي حتى انه كلما قرب
الى الحقيقي صار الطبي اقوى و اكمل مع انه ليس الامر كذلك، اذ القياس يقتضي
الخروج عن الاعتدال الطبي، او ضعفه لقربه الى الحقيقي.

«بيان ذلك » ان الاعتدال الحقيقي في المزاج ان تكون اجزاء العناصر متكافئة القوة،
و الاعتدال الطبي في نوع الانسان او شخص من اشخاصه ان تكون الاجزاء الحارة مثلا
من عشرة الى اثنى عشرة، و الباردة من ثمانية الى تسعة، و اليابسة من سبعة الى
ثمانية، و الرطبه من ستة الى سبعة، فاذا كانت الاجزاء الحارة ستة، و الباردة
خمسة، و اليابسة اربعة، و الرطبة ثلاثة كانت خارجة عن الاعتدال الطبي، مع
صيرورته اقرب الى الحقيقي، بل اذا فرضت تكافؤ اجزاء العناصر الاربعة حتى حصل نفس
الاعتدال الحقيقي خرجت ايضا عنه، فلا يكون الحقيقي وسط الطبي حتى انه كلما يصير
اليه اقرب يكون اقوى و اكمل.

لانا نقول نحن لا ندعى: ان الحقيقي وسط الطبي بل هو امر مغاير له، و الحقيقي في طرفه
الخارج، فان له طرفين: «احدهما» ان تصير الاجزاء اقرب في التساوي مما كان
للطبي الى ان يبلغ الى الحقيقي، «و الثاني » ان يصير ابعد فيه مما كان له الى غير
النهاية، الا ان بعض مراتب الطرفين التي منها الاعتدال الحقيقي غير ممكن الوقوع
فتامل.

فان قيل: ان الوسط المعتبر هنا ان كان اضافيا، لكان له عرض كعرض المزاج، فلا
يناسب وصفه بالحدة و الدقة، قلنا. كما في عرض المزاج مرتبة هي افضل المراتب و
اقربها الى الاعتدال الحقيقي، كذلك في عرض الوسط للملكات مرتبة هي افضل
المراتب و اقربها الى الحقيقي، و هي المطلوبة بالذات و لا ريب في ان خصوص هذه
ليس لها عرض واسعة، فلا باس بوصفها بالدقة و الحدة، و اما سائر المراتب المعدودة
من الوسط و ان لم تكن خالية عن شوائب الافراط و التفريط، الا انه لما كان لها
قرب محدود الى المرتبة المطلوبة بحيث يصدق معه كون النوع او الشخص باقيا على كماله
اللائق به عدت من الاوساط و الفضائل: كما ان غير الاقرب الى الاعتدال الحقيقي من
مراتب عرض المزاج يعد من الاعتدال: لكون النوع او الشخص معه باقيا محفوظا بحيث لا
يظهر خلل بين في افعاله و ان لم يخل عن الانحراف، و لو وصف هذه المراتب ايضا
بالحدة و الدقة مع سعتها فوجهه ان وجدانها و الثبات عليها لا يخلو ايضا من صعوبة.

فصل


(اجناس الرذائل و انواعها)


قد ظهر مما ذكر انه بازاء كل فضيلة رذائل غير متناهية من طرفي الافراط و
التفريط، و ليس لكل منها اسم معين و لا يمكن عد الجميع و ليس على صاحب الصناعة حصر
مثلها، لان وظيفته بيان الاصول و القوانين الكلية لا احصاء الاعداد الجزئية.

و القانون اللازم بيانه هو ان الانحراف عن الوسط اما الى طرف الافراط او
الى طرف التفريط، فيكون بازاء كل فضيلة جنسان من الرذيلة و لما كانت اجناس
الفضائل اربعة فتكون اجناس الرذائل ثمانية (اثنان)

بازاء الحكمة «الجربزة و البله » ، و (الاول) في طرف الافراط و هو استعمال الفكر
في ما لا ينبغي او في الزائد عما ينبغي و (الثاني) في طرف التفريط و هو تعطيل القوة
الفكرية و عدم استعمالها في ما ينبغي او في اقل منه، و الاولى ان يعبر عنهما
(بالسفسطة) اي الحكمة المموهة، و (الجهل) اى البسيط منه، لان حقيقة الحكمة هو العلم
بحقائق الاشياء على ما هي عليه و هو موقوف على اعتدال القوة العاقلة، فاذا حصلت له
حدة خارجة عن الاعتدال يخرج عن الحد اللائق و يستخرج امورا دقيقة غير مطابقة للواقع،
و العلم بهذه الامور هو ضد الحكمة من طرف الافراط و اذا حصلت لها بلادة لا ينتقل
الى شى ء فلا يحصل لها العلم بالحقائق و هذا هو الجهل و هو ضده من طرف التفريط (و
اثنان) بازاء الشجاعة «التهور و الجبن » : (الاول) في طرف الافراط و هو
الاقدام على ما ينبغي الحذر عنه، و (الثاني) في طرف التفريط و هو الحذر عما ينبغي
الاقدام عليه. (و اثنان) بازاء العفة و هما: «الشره و الخمود» و (الاول) في طرف
الافراط و هو الانهماك في اللذات الشهوية على ما لا يحسن شرعا و عقلا، (و الثاني)
في طرف سكون النفس عن طلب ما هو ضروري للبدن و (اثنان) بازاء العدالة و هما: «الظلم و
الانظلام » :

و (الاول) في طرف الافراط و هو التصرف في حقوق الناس و اموالهم بدون حق،
(الثاني) في طرف تفريط و هو تمكين الظالم من الظلم عليه و انقياده له فيما يريده
من الجبر و التعدي على سبيل المذلة، هكذا قيل.

و الحق ان العدالة مع ملاحظة ما لا ينفك عنها من لازمها، لها طرف واحد يسمى جورا و
ظلما، و هو يشمل جميع ذمائم الصفات، و لا يختص بالتصرف في حقوق الناس و اموالهم
بدون جهة شرعية، لان العدالة بهذا المعنى-كما عرفت- عبارة عن ضبط العقل العملي جميع
القوى تحت اشارة العقل النظري، فهو جامع للكمالات باسرها، فالظلم الذي هو مقابله
جامع اللنقائص باسرها، اذ حقيقة الظلم وضع الشي ء في غير موضعه، و هو يتناول جميع ذمائم
الصفات و الافعال فتمكين الظالم من ظلمه لما كان صفة ذميمة يكون ظلما، على ان
من مكن الظالم من الظلم عليه و انقاد له ذلة، فقد ظلم نفسه و الظلم على النفس ايضا
من اقسام الظلم. هذا هو بيان الطرفين لكل من الاجناس الاربعة للفضيلة.

ثم لكل واحد من اجناس الرذائل و الفضائل انواع و لوازم من الاخلاق و الافعال
ذكرها علماء الاخلاق في كتبهم، و قد ذكروا للعدالة ايضا انواعا و قد عرفت فيما
تقدم ان تخصيص بعض الصفات بالاندراج تحتها مما لا وجه له، اذ جميع الرذائل و
الفضائل لا يخرج عن التعلق بالقوى الثلاث، اعنى العاقلة و الغضبية و الشهوية، و ان
كان للقوة العملية مدخلية في الجميع من حيث التوسط، فنحن ندخل الجميع تحت اجناس
القوى الثلاث من غير اندراج شي ء منها تحت العدالة، و قد عرفت ان بعضها متعلق
بالعاقلة فقط، و بعضها بالقوة الغضبية فقط، و بعضها بالشهوية فقط، و بعضها
بالاثنين منها او الثلاث معا، فنحن نذكر ذلك في مقامات اربعة.

و لمزيد الاحاطة نشير هنا اجمالا الى اسماء الاجناس و الانواع و اللوازم التي لكل
جنس، و نذكر اولا ما يتعلق بالعاقلة، ثم ما يتعلق بالغضبية، ثم ما يتعلق بالشهوية،
ثم ما يتعلق بالثلاث او الاثنتين منها، و نذكر اولا الرذيلة، ثم نشير الى ضدها
من الفضيلة ان كان له اسم، ثم في باب المعالجات نذكر معالجة كل رذيلة من
الاجناس و الانواع و النتائج و نذيلها بذكر ضدها من الفضيلة، و نذكر اولا جنسي
الرذيلة لكل قوة، و نذيلهما بضدهما الذي هو جنس فضيلتها، ثم نذكر الانواع و
النتائج على النحو المذكور، اى نذكر اولا الرذيلة باحكامها «و معالجاتها» (9) ،
ثم نشير الى ضدها، و ما ورد في مدحه ترغيبا للطالبين على اخذه و الاجتناب عن ضده،
و لذلك لم نتابع القوم في التفريق بين الرذائل و الفضائل و ذكر كل منهما على حدة.

ثم بيان الانواع و اللوازم على ما ذكر اكثره القوم لا يخلو عن الاختلال اما
في التعريف و التفسير، او في الفرق و التمييز، او في الادخال تحت ما جعلوه نوعا
له، او غير ذلك من وجوه الاختلال، فنحن لا نتبعهم في ذلك و نبينها ادخالا و
تمييزا و تعريفا ما يقتضيه النظر الصحيح، فنقول:

اما جنسا الرذيلة للقوة العقلية، «فاولهما» (الجربزة و السفسطة) و هي من طرف
الافراط، و «ثانيهما» (الجهل البسيط) و هو من طرف التفريط و ضدهما (العلم و
الحكمة) ، و اما الانواع و اللوازم المترتبة عليهما، فمنها (الجهل المركب) و
هو من باب رداءة الكيفية. و منها (الحيرة و الشك) و هو من طرف الافراط على ما قيل،
و ضد الجهل المركب ادراك ما هو الحق او زوال العلم بانه يعلم، و ضد الحيرة الجزم
باحد الطرفين. و بذلك يظهر ان اليقين ضد لكل منهما، لانه اعتقاد جازم مطابق
للواقع، فمن حيث اعتبار الجزم فيه يكون ضدا للحيرة، و من حيث اعتبار
المطابقة للواقع يكون ضدا للجهل المركب، و منشا حصول اليقين هو استقامة الذهن و
صفاؤه مع مراعاة شرائط الاستدلال، و منشا الجهل المركب اعوجاج الذهن، او حصول
الخطا في الاستدلال، او وجود مانع من افاضة الحق كعصبية، او تقليد او امثال ذلك،
و منشا الحيرة هو قصور الذهن و كدرته، او الالتهاب الموجب للتجاوز عن
المطلوب، او عدم الاحاطة بمقدماته، و منها (الشرك) و ضده التوحيد.

و منها «الوساوس » النفسانية و الخواطر الباطلة الشيطانية، و هذا ايضا من باب
رداءة الكيفية، و كان الظاهر ان يعد ذلك من رذائل قوتي الوهم و المتخيلة دون العاقلة،
اذ الغالب انها لا تنفك عن الاختلال فيهما، الا انك قد عرفت العذر في ذلك، و
ضدها الخواطر المحمودة التي من جملتها الفكر في بدائع صنع الله سبحانه و عجائب
مخلوقاته او منها (استنباط المكر و الحيلة) للموصول الى مقتضيات الشهوة و
الغضب، و هو من طرف الافراط.

و اما جنسا الرذائل للقوة الغضبية، فاولهما (التهور) و ثانيهما (الجبن)

و قد عرفت ان ضدهما من الفضيلة (الشجاعة) . و اما الانواع و اللوازم و النتائج
المترتبة عليها، فمنها (الخوف) و هو هيئة نفسانية مؤذية تحدث من توقع مكروه او
زوال مرغوب، و هو مذموم الا ما كان لاجل المعصية و الخيانة، او من الله و عظمته،
و المذموم من رذائل تلك القوة و من نتائج الجبن و ضده الامن و الطمانينة، و
الممدوح من فضائلها لكونه مقتضى العقل و ضده الامن من مكر الله، و هو-اى الممدوح
من الخوف-يلازم الرجاء و ضده الياس. و منها (صغر النفس) اى ملكة العجز عن تحمل
الواردات و هو من نتائج الجبن، و ضده كبر النفس اى ملكة التحمل لما يرد عليه
كائنا ما كان. و من جملة التحمل التحمل على الخوض في الاهوال، و قوة المقاومة مع
الشدائد و الآلام و يسمى (بالثبات) فهو اخص من كبر النفس، و ضده الاضطراب في
الاهوال و الشدائد. و من جملة الثبات الثبات في الايمان، و منها (دناءة الهمة) و
هو القصور عن طلب معالى الامور و هو من لوازم ضعف النفس و صغرها، و ضده (علو الهمة)
الذى هو من لوازم كبر النفس و شجاعتها، اى السعى في تحصيل السعادة و الكمال
و طلب الامور العالية من دون ملاحظة منافع الدنيا و مضارها. و من افراد علو
الهمة الشهامة، و ياتي تفسيرها. و منها (عدم الغيرة و الحمية) اي الاهمال في
محافظة ما يلزم حفظه، و هو ايضا من نتائج صغر النفس و ضعفها و ضده ظاهر. و منها
(العجلة) و هو المعنى الراتب (10) في القلب الباعث على الاقدام على الامر باول
خاطر من دون توقف فيه، و هو ايضا من نتائج صغر النفس و ضعفها، و ضدها الاناءة و
التاني، و (التعسف) قريب من العجلة، و ضده اعني (التوقف) قريب من الاناءة، و ياتي
الفرق بينهما، (و الوقار) يتناول التاني و التوقف، و هو اطمئنان النفس و سكونها عند
الحركات و الافعال في الابتداء (و الاثناء) ، و هو من لوازم كبر النفس و
شجاعتها. و منها (سوء الظن بالله تعالى و بالمؤمنين) و هو من لوازم الجبن و
ضعف النفس، و ربما كان من باب رداءة الكيفية، فضده اعني حسن الظن بهما من آثار
الشجاعة و كبر النفس. و منها (الغضب) و هو حركة نفسانية يوجب حركة الروح من
الداخل الى الخارج للغلبة و هو من باب الافراط، و ضده الحلم. و منها (الانتقام) و
هو من نتائج الغضب، و ضده العفو. و منها (العنف) و هو ايضا من نتائج الغضب، و ضده
الرفق. و منها (سوء الخلق) بالمعنى الاخص و هو ايضا من نتائجه، و ضده (حسن الخلق)
بالمعنى الاخص. و منها (الحقد) و هو العداوة الكامنة اي ارادة الشر و قصد زوال الخير
من المسلم، و هو ايضا من ثمرات الغضب و منها (العداوة) الظاهرة، و ضدها (النصيحة)
اى ارادة الخير و الصلاح و دفع الشر و الفساد عن كل مسلم. ثم للغضب و الحقد
لوازم هي الضرب و الفحش و اللعن و الطعن. و منها (العجب) و هو استعظام النفس، و
ضده انكسارها و استحقارها (11) . و منها (الكبر) و هو التعظيم الموجب لرؤية النفس فوق
الغير، و ضده (التواضع) و هو ان لا يرى لنفسه مزية على الغير و منها (الافتخار) و هو
المباهات بما يظنه كما لا و هو من شعب الكبر. و منها (البغي) و هو عدم الانقياد
لمن يجب ان ينقاد و هو ايضا من شعب الكبر و ضده (التسليم) و الانقياد لمن يجب
الانقياد اليه و اطاعته و قد يفسر بمطلق العلو و الاستطالة (12) و منها (تزكية النفس) و
ضده الاعتراف بنقائصها. و منها (العصبية) و هي الحماية عن نفسه و عما ينتسب اليه
بالباطل و الخروج عن الحق. و منها (كتمان الحق) و ضدهما الانصاف و الاستقامة على
الحق. و منها (القساوة) و هو عدم التاثر عن مشاهدة تالم ابناء النوع، و ضدها
الرحمة.

و اما جنسا الرذائل المتعلقة بالقوة الشهوية فاحدهما (الشره) و ثانيهما (الخمود)
و ضدهما (العفة) ، و اما الانواع و النتائج و اللوازم المتعلقة بها، فمنها (حب
الدنيا) . و منها (حب المال) و ضدهما الزهد. و منها (الغنى)

و ضده الفقر. و منها (الحرص) و ضده القناعة. و منها (الطمع) و ضده الاستغناء عن الناس. و
منها (البخل) و ضده السخاء، و تندرج تحته وجوه الانفاقات باسرها. و منها (طلب
الحرام) و عدم الاجتناب عنه، و ضده الورع و التقوى بالمعنى الخاص. و منها (الغدر و
الخيانة) و ضدهما الامانة.

و منها (انواع الفجور) من الزنا و اللواط و شرب الخمر و الاشتغال بالملاهي و
امثالها. و منها (الخوض في الباطل) . و منها (التكلم بما لا يعني و بالفضول)

و ضدهما الترك و الصمت، او بالتكلم بما يعني بقدر الضرورة.

و اما الرذائل و الفضائل المتعلقة بالقوى الثلاث، او باثنتين منها فمنها
(الحسد) و ضده النصيحة. و منها (الايذاء و الاهانة و الاحتقار)

و ضدها كف الاذى و الاكرام و التعظيم. و الايذاء قريب من الظلم بالمعنى الاخص او
اعم منه، و ضد الظلم بالمعنى الاخص العدالة بالمعنى الاخص.

و منها (اخافة المسلم و ادخال الكرب في قلبه) و ضدهما ازالة الخوف و الكرب عنه. و
منها (ترك اعانة المسلمين) و ضده قضاء حوائجهم. و منها (المداهنة) في الامر
بالمعروف و النهي عن المنكر، و ضده السعي فيهما. و منها (الهجرة و التباعد عن
الاخوان) و ضده التآلف و التزاور. و منها (قطع الرحم) و ضده الصلة. و منها (عقوق
الوالدين) و ضده البر اليهما. و منها (تجسس العيوب) و ضده الستر. و منها (افشاء
السر) و ضد الكتمان.

و منها (الافساد بين الناس) و ضده الاصلاح بينهم. و منها (الشماتة بمسلم)

و منها (المراء و الجدال و الخصومة) و ضدهما طيب الكلام. و منها (السخرية و
الاستهزاء) و ضدهما المزاح. و منها (الغيبة) و ضدها المدح و دفع الذم و منها (الكذب)
و ضده الصدق، و لجميع آفات اللسان مما له ضد خاص، و مما ليس له ضد بخصوصه ضد عام هو
الصمت. و منها (حب الجاه و الشهرة)

و ضده حب الخمول. و منها (حب المدح و كراهة الذم) و ضده مساواتهما و منها (الريا)
و ضده الاخلاص. و منها (النفاق) و ضده استواء السر و العلانية. و منها (الغرور) و ضده
الفطانة و العلم و الزهد. و منها (طول الامل) و ضده قصره. و منها (مطلق العصيان) و ضده
الورع و التقوى بالمعنى الاعم. و منها (الوقاحة) و ضده الحياء. و منها (الاصرار على
المعصية) و ضده التوبة، و اقصى مراتبها الانابة و المحاسبة و المراقبة قريبة من
التوبة في ضديتها للاصرار. و منها (الغفلة) و ضدها النية و الارادة. و منها (عدم
الرغبة) و ضده الشوق. و منها (الكراهة) و ضده الحب. و منها (الجفاء)

و ضده الوفاء و هو من تمام الحب. و منها (البعد) و ضده الانس و من لوازمه حب
الخلوة و العزلة. و منها (السخط) و ضده الرضا، و قريب منه التسليم و يسمى تفويضا، بل
هو فوق الرضا كما ياتي. و منها (الحزن) و ضده السرور. و منها (ضعف الوثوق و
الاعتماد على الله) و ضده التوكل. و منها (الكفران) و ضده الشكر. و منها (الجزع و
الهلع) و ضده الصبر. و منها (الفسق) و هو الخروج عن طاعة الله و عبادته، و ضده
الطاعة و العبادة.

و تندرج تحتها (العبادات الموظفة في الشرع) (13) من الطهارة، و الصلاة و الذكر و
تلاوة القرآن، و الزكاة و الخمس و الصوم و الحج و الزيارات. و نحن نذكر الزكاة
و الخمس في وجوه الانفاق، و ما سواهما في العبادات.

(تنبيه) اعلم ان احصاء الفضائل و الرذائل و ضبطهما، و ادخال البعض في البعض، و
الاشارة الى القوة الموجبة لها على ما فصلناه، مما لم يتعرض له علماء الاخلاق، بل
انما تعرضوا لبعضها، و يظهر من كلامهم في بعض المواضع المخالفة في الادخال.

و السر فيه ان كثيرا من الصفات لها جهات مختلفة كل منها يناسب قوة كما اشرنا
اليه، فالاختلاف في الادخال لاجل اختلاف الاعتبار للجهات «و قد عرفت ان ما له
جهات مختلفة يتعلق بالقوى المتعددة نحن نجعل مبداه الجميع و نعده من رذائله او
فضائله، و لا نخصه بواحدة منها» . ثم بعض الصفات ربما كان ببعض الاعتبارات
محمودا معدودا من الفضائل، و ببعض الاعتبارات معدودا من الرذائل، و ذلك
كالمحبة و الخوف و الرجاء، فان الحب ان كان متعلقا بالدنيا و متعلقاتها كان
مذموما معدودا من الرذائل، و ان كان متعلقا بالله و اوليائه كان محمودا معدودا
من الفضائل، و الخوف ان كان مما لا يخاف منه عقلا كان من رذائل قوة الغضب، و ان
كان من المعاصي او من عظمة الله كان من فضائلها، و الرجاء ان لم يكن في موضعه
كان من الرذائل و ان كان في موقعه كان من الفضائل. و قس عليها غيرها مما له
الاعتبارات المختلفة.

فصل


الفرق بين الفضيلة و الرذيلة


قد دريت اجمالا ان الفضائل المذكورة ملكات مخصوصة، لها آثار معلومة، و ربما صدر عن
بعض الناس افعال شبيهة بالفضائل، و ليست بها فلا بد من بيان الفرق بينهما لئلا
يشتبه على الغافل فيضل و يضل، فنقول:

قد عرفت ان فضيلة الحكمة عبارة عن العلم باعيان الموجودات على ما هي عليه، و هو
لا ينفك عن اليقين و الطمانينة، فمجرد اخذ بعض المسائل و تقريرها على وجه لائق من
دون وثوق النفس و اطمئنانها ليست حكمة، و الآخذ بمثله ليس حكيما، اذ حقيقة الحكمة لا
تنفك عن الاذعان القطعي و اليقيني و هما مفقودان فيه، فمثله كمثل الاطفال في
التشبه بالرجال، او بعض الحيوانات في محاكاة ما للانسان من الاقوال و
الافعال.

و اما فضيلة العفة، فقد عرفت انها عبارة عن ملكة انقياد القوة الشهوية للعقل، حتى
يكون تصرفها مقصورا على امره و نهيه، فيقدم على ما فيه المصلحة و ينزجر عما
يتضمن المفسدة بتجويزه، و لا يخالفه في اوامره و نواهيه، و ينبغي ان يكون
الباعث للاتصاف بتلك الملكة و صدور آثارها مجرد كونها فضيلة و كمالا للنفس و
حصول السعادة الحقيقية بها، لا شى ء آخر من دفع ضر، او جلب نفع، او اضطرار و الجاء،
فالاعراض عن اللذات الدنيوية لتحصيل الازيد من جنسها ليس عفة، كما هو شان بعض
تاركي الدنيا للدنيا و كذا الحال في تركها لخمود القوة و قصورها و ضعف الآلة و
فتورها، او لحصول النفرة من كثرة تعاطيها، او للحذر من حدوث الامراض و
الاسقام، او اطلاع الناس و توبيخهم، او لعدم درك تلك اللذات كما هو شان بعض
اهالي الجبال و البوادي. . . الى غير ذلك.

و اما فضيلة الشجاعة، فقد عرفت انها ملكة انقياد القوة الغضبية للعقل حتى يكون
تصرفها بحسب امره و نهيه، و لا يكون للاتصاف بها و صدور آثارها داع سوى كونها
كمالا و فضيلة، فالاقدام على الامور الهائلة، و الخوض في الحروب العظيمة، و عدم
المبالاة من الضرب و القطع و القتل لتحصيل الجاه و المال، او الظفر بامراة
ذات جمال، او للحذر من السلطان و مثله، او للشهوة بين ابناء جنسه، ليست صادرة
عن ملكة الشجاعة، بل منشاها اما رذيلة الشره او الجبن، كما هو شان عساكر
الجائرين، و قاطعي الطرق و السارقين، فمن كان اكثر خوضا في الاهوال، و اشد
جراة على الابطال للوصول الى شي ء من تلك الاغراض، فهو اكثر جبنا و حرصا، لا
اكثر شجاعة و نجدة. و قس على ذلك الوقوع في المهالك و الاهوال، تعصبا عن
الاقارب و الاتباع، و ربما كان باعثه تكرر ذلك منه مع حصول الغلبة، فاغتر بذلك
و لم يبال بالاقدام اتكالا على العادة الجارية. و مثله مثل رجل ذى سلاح لم يبال
بالمحاربة مع طفل اعزل، فان عدم الحذر عنه ليس لشجاعته، بل لعجز الطفل. و من هذا
القبيل ما يصدر عن بعض الحيوانات من الصولة و الاقدام، فانه ليس صادرا من ملكة
الشجاعة، بل عن طبيعة القوة و الغلبة.

و بالجملة: الشجاع الواقعي ما كانت افعاله صادرة عن اشارة العقل و لم يكن له
باعث سوى كونها جميلة حسنة، فربما كان الحذر عن بعض الاهوال من مقتضيات العقل
فلا ينافي الشجاعة، و ربما لم يكن الخوض في بعض الاخطار من موجباته فينافيها،
و لذا قيل عدم الفزع مع شدة الزلازل و تواتر الصواعق من علائم الجنون دون الشجاعة،
و ايقاع النفس في الهلكات بلا داع عقلى او شرعي كتعرضه للسباع المؤذية، او القاء نفسه
من المواضع، الشاهقة او في البحار و الشطوط الغامرة من دون علم بالسباحة من
امارات القحة و الحماقة.

ثم الشجاع الحقيقي من كان حذره من العار و الفضيحة اكثر من خوفه من الموت و
الهلاك، فمن لا يبالي بذهاب شرفه، و فضيحة اهله و حرمه، فهو من اهل الجنون و
الحماقة، و لا يستحق اسم العقل و الشجاعة، كيف و الموت عند الشجاع مع بقاء الفضيلة
احسن من الحياة بدونها، و لذا يختار الموت الجميل على الحياة القبيحة. على
ان الشجاعة في المبادى ء ربما كانت موذية، و انما تظهر لذتها في العاقبة (لا)
سيما اذا حصلت بها الحماية عن الدين و الملة، و الذب عن العقائد الحقة، فان
الشجاع لحبه الجميل و ثباته على الراى الصحيح اذا علم ان عمره في معرض
الزوال و الثور، و اثر الفعل الجميل يبقى على مر الدهور، يختار الجميل الباقي
على الرذيل الفاني، فيحامي عن دينه و شريعته، و لا يبالى بما يحذر عنه غيره من
ابناء طبيعته، لعلمه بان الجبان المقصر في حماية الدين، و مقاومة جنود الشياطين
ان بقي اياما معدودة، فمع تكدرها بالذل و الصغار تكون زائلة، و لا ترضى نفسه
بالحرمان عن السعادة الباقية، و لذا قال فخر الشجعان و سيد ولد عدنان عليه صلوات
الله الملك الرحمان لاصحابه: «ايها الناس انكم ان لم تقتلوا تموتوا و الذى نفس
ابن ابي طالب بيده لالف ضربة بالسيف على الراس اهون من ميتة على الفراش » .

و بالجملة: كل فعل يصدر عن الشجاع في اى وقت يكون مقتضى للعقل مناسبا لهذا الوقت
واقعا في موقعه، و له قوة التحمل على المصائب، و ملكة الصبر على الشدائد و النوائب، و
لا يضطرب من شدائد الامور، و يستخف بما يستعظمه الجمهور، و اذا غضب كان غضبه
بمقتضى العقل، و كان انتقامه مقصورا على ما يستحسن عقلا و شرعا، و لا يتعدى الى
ما لا ينبغي. و ليس مطلق الانتقام مذموما، فربما كان في بعض المواضع مستحسنا
عند العقل و الشرع، و قد صرح الحكماء بان عدم الانتقام ممن يستحقه يحدث في النفس
ذبولا لا يرتفع الا بالانتقام، و ربما ادى هذا الذبول الى بعض الرذائل المهلكة.

و اما العدالة فقد عرفت انها عبارة عن انقياد القوة العملية للعاقلة، او امتزاج
القوى و تسالمها و انقهار الجميع تحت العاقلة، بحيث يرتفع بينها التنازع و
التجاذب، و لا يغلب بعضها على بعض، و لا يقدم على شى ء غير ما تسقط له العاقلة. و
انما يتم ذلك اذا حصلت للانسان ملكة راسخة تصدر لاجلها جميع الافعال على نهج
الاعتدال بسهولة، و لا يكون له غاية في ذلك سوى كونها فضيلة و كما لا، فمن يتكلف
اعمال العدول رياء و سمعة او لجلب القلوب، او تحصيل الجاه و المال ليس عادلا.

و قس على ذلك جميع انواع الفضائل المندرجة تحت الاجناس المذكورة فانه بازاء كل
منها رذيلة شبيهة بها، فينبغي لطالب السعادة ان يعرفها و يجتنب عنها، مثلا
السخاء عبارة عن ملكة سهولة بذل المال على المستحق مع كون الغاية الباعثة له
عليه مجرد كونه فضيلة و كمالا، دون الاغراض الاخر، فبذل المال لتحصيل الازيد، او
لدفع الضرر، او نيل الجاه، او للوصول الى شي ء من اللذات الحيوانية ليس سخاء. و
كذا بذله لغير المستحق و الاسراف في انفاقه. فان المبذر جاهل بعظم قدر المال. و
الاحتياج اليه في مواقع لولاه لادى الى تضييع الاهل و العيال و العجز عن كسب
المعارف و فضائل الاعمال، و له دخل عظيم في تزويج احكام الملة و نشر الفضيلة و
الحكمة، و لذا ورد في الصحيفة السليمانية (ان الحكمة مع الثروة يقظان، و مع الفقر
نائم) (14) . و ربما كان منشا التبذير عدم العلم بصعوبة تحصيل الحلال منه، و هذا يكون
في الاغلب لمن يظفر بمال بغتة من ميراث او غيره مما لا يحتاج الى كد و عمل، فان
مثله غافل عن صعوبة كسب الحلال منه، اذ المكاسب الطيبة قليلة جدا، و ارتكابها
للاحرار مشكل، و لذا ترى افاضل الاحرار ناقصي الحظوظ منه شاكين عن بختهم، و
اضدادهم على خلاف ذلك، لعدم مبالاتهم من تحصيله باي نحو كان. و قد قال بعض الحكماء:
«ان تحصيل المال بمنزلة نقل الحجر الى قلة الجبل و انفاقه كاطلاقه » .

فصل


العدالة اشرف الفضائل


العدالة اشرف الفضائل و افضلها، اذ قد عرفت انها كل الفضائل او ما يلزمها، كما
ان الجور كل الرذائل او ما يوجبها، لانها هيئة نفسانية يقتدر بها على تعديل جميع
الصفات و الافعال، ورد الزائد و الناقص الى الوسط، و انكسار سورة التخالف بين
القوى المتعادية، بحيث يمتزج الكل و تتحقق بينها مناسبة و اتحاد تحدث في النفس
فضيلة واحدة تقتضى حصول فعل متوسط بين افعالها المتخالفة، و ذلك كما تحصل من
حصول الامتزاج و الوحدة بين الاشياء المتخالفة صورة وحدانية يصدر عنها فعل متوسط
بين افعالها المتخالفة، فجميع الفضائل مترتبة على العدالة، و لذا قال افلاطون
الالهي: (العدالة اذا حصلت للانسان اشرق بها كل واحد من اجزاء نفسه و يستضى ء
بعضها من بعض، فتنتهض النفس حينئذ لفعلها الخاص على افضل ما يكون، فيحصل لها غاية
القرب الى مبدعها سبحانه) .

و من خواص العدالة و فضيلتها انها اقرب الصفات الى الوحدة، و شانها اخراج
الواحد من الكثرات، و التاليف بين المتباينات، و التسوية بين المختلفات،
ورد الاشياء من القلة و الكثرة و النقصان و الزيادة الى التوسط الذي هو الوحدة،
فتصير المتخالفات في هذه المرتبة متحدة نوع اتحاد، و في غيرها توجد اطراف
متخالفة متكاثرة، و لا ريب في ان الوحدة اشرف من الكثرة، و كلما كان الشي ء اقرب
اليها يكون افضل و اكمل و ابقى و ادوم و من تطرق البطلان و الفساد ابعد،
فالمتخالفات اذا حصل بينها مناسبة و اتحاد و حصلت منها هيئة وحدانية صارت اكمل
مما كان، و لذا قيل: كمال كل صفة ان يقارب ضدها، و كمال كل شخص ان يتصف بالصفات
المتقابلة بجعلها متناسبة متسالمة، و تاثير الاشعار الموزونة و النغمات و
الايقاعات المتناسبة، و جذب الصور الجميلة للنفوس، انما هو لوحدة التناسب، و
نسبة المساواة في صناعة الموسيقى او غيرها اشرف النسب لقربها الى الوحدة و
غيرها من النسب يرجع اليها.

و بالجملة: اختلاف الاشياء في الكمال و النقص بحسب اختلافها في الوحدة و الكثرة،
فاشرف الموجودات هو الواحد الحقيقي الذي هو موجد الكل و مبدؤه، و يفيض نور
الوحدة على كل موجود بقدر استعداده كما يفيض عليه نور الوجود كذلك، فكل وحدة من
الوحدات جوهرية كانت او خلقية او فعلية او عددية او مزاجية، فهو ظل من وحدته الحقة،
و كلما كان اقرب اليها يكون اشرف وجودا، و لو لا الاعتدال و الوحدة العرضية التي
هي ظل الوحدة الحقيقية لم تتم دائرة الوجود، لان تولد المواليد من العناصر الاربعة
يتوقف على حصول الاتحاد و الاعتدال، و تعلق النفس الربانية بالبدن انما هو لحصول
نسبة الاعتدال، و لذا يزول تعلقها به بزوالها بل النفس عاشقة لتلك النسبة الشريفة
اين ما وجدت.

و التحقيق انها معنى وحداني يختلف باختلاف محالها، فهي في الاجزاء العنصرية
الممتزجة اعتدال مزاجي، و في الاعضاء حسن ظاهري، و في الكلام فصاحة، و في
الملكات النفسية عدالة، و في الحركات غنج و دلال، و في المنغمات ابعاد شريفة لذيذة و
النفس عاشقة لهذا المعنى في اي مظهر ظهر، و باى صورة تجلى، و باي لباس تلبس.

فاني احب الحسن حيث وجدته
و للحسن في وجه الملاح مواقع

و الكثرة و القلة و النقصان و الزيادة تفسد الاشياء اذا لم تكن بينها مناسبة تحفظ
عليها الاعتدال و الوحدة بوجه ما، و في هذا المقام تفوح نفحات قدسية تهتز بها
نفوس اهل الجذبة و الشوق، و يتعطر منها مشام اصحاب التاله و الذوق، فتعرض لها
ان كنت اهلا لذلك.

و اذا عرفت شرف العدالة و ايجابها للعمل بالمساواة، ورد كل ناقص و زائد الى
الوسط. فاعلم: انها اما متعلقة بالاخلاق و الافعال. او بالكرامات و قسمة
الاموال. او بالمعاملات و المعاوضات. او بالاحكام و السياسات.

و العادل في كل واحد من هذه الامور ما يحدث التساوي فيه برد الافراط و
التفريط الى الوسط. و لا ريب في انه مشروط بالعلم بطبيعة الوسط. حتى يمكن رد
الطرفين اليه. و هذا العلم في غاية الصعوبة. و لا يتيسر الا بالرجوع الى ميزان
معرف للاوساط في، جميع الاشياء. و ما هو الا ميزان الشريعة الالهية الصادرة عن
منبع الوحدة الحقة الحقيقية. فانها هي المعرفة للاوساط في جميع الاشياء على ما ينبغي.
و المتضمنة لبيان تفاصيل جميع مراتب الحكمة العملية. فالعادل بالحقيقة يجب ان
يكون حكيما عالما بالنواميس الالهية الصادرة من عند الله سبحانه لحفظ المساواة.

و قد ذكر علماء الاخلاق ان العدول ثلاثة: «الاول » العادل الاكبر و هو الشريعة الالهية
الصادرة من عند الله سبحانه لحفظ المساواة. «الثاني » العادل الاوسط. و هو
الحاكم العادل التابع للنواميس الالهية و الشريعة النبوية فانه خليفة الشريعة في
حفظ المساواة. «الثالث » العادل الصامت و هو الدينار لانه يحفظ المساواة في
المعاملات و المعاوضات.

بيان ذلك: ان الانسان مدني بالطبع فيحتاج بعض افراده الى بعض آخر. و لا يتم
عيشهم الا بالتعاون. فيحتاج الزارع الى عمل التاجر و بالعكس و النجار الى عمل
الصباغ و بالعكس. و هكذا فتقع بينهم معاوضات. فلا بد من حفظ المساواة بينها دفعا
للتنازع و التشاجر. و لا يمكن حفظها بالاعمال لاختلافها بالزيادة و النقصان و
القلة و الكثرة و غير ذلك. و ربما كان ادنى عمل مساويا لعمل كثير كنظر المهندس. و
تدبير صاحب الجيش. فان نظرهما في لحظة واحدة ربما ساوى عملا كثيرا لمن يعمل و
يحارب. فحفظ المساواة بينها بالدينار و الدرهم بان تقوم بهما الاعمال و
الاشياء المختلفة، ليحصل الاعتدال و الاستواء، و يتبين وجه الاخذ و الاعطاء، و
تصح المشاركات و المعاملات على نهج لا يتضمن افراطا و لا تفريطا قيل: و قد اشير
الى العدول الثلاثة في الكتاب الالهي بقوله سبحانه:

«و انزلنا معهم الكتاب و الميزان ليقوم الناس بالقسط و انزلنا الحديد فيه باس
شديد و منافع للناس » (15) .

فان الكتاب اشارة الى الشريعة، و الميزان الى آلة معرفة النسبة بين المختلفات
و منها الدينار، و الحديد الى سيف الحاكم العادل المقوم للناس على الوسط.

هذا و المقابل للعادل-اعني الجائر المبطل للتساوى ايضا-اما جائر اعظم -و هو
الخارج عن حكم الشريعة-و يسمى كافرا-او جائر اوسط-و هو من لا يطيع عدول الحكام
في الاحكام-و يسمى طاغيا و باغيا-او جائر اصغر- و هو من لا يقوم على حكم الدينار،
فياخذ لنفسه اكثر من حقه و يعطي غيره اقل من حقه-و يسمى سارقا و خائنا-.

ثم العدالة على اقسام ثلاثة:

«احدها» ما يجري بين العباد و بين خالقهم سبحانه، فانها لما كانت عبارة عن
العمل بالمساواة على قدر الامكان، و الواجب سبحانه و اهب الحياة و الكمالات و
ما يحتاج اليه كل حي من الارزاق و الاقوات، و هيا لنا في عالم آخر من البهجة و
السرور ما لا عين رات، و لا اذن سمعت، و ما من يوم الا و يصل الينا من نعمه و
عطاياه ما تكل الالسنة عن حصره و عده، فيجب ان يكون له تعالى علينا حق يقابل به
تلك النعم التي لا تحصى كثرة حتى تحصل عدالة في الجملة، اذ من اعطى خيرا و لم
يقابله بضرب من المقابلة فهو جائر.

ثم المقابلة و المكافاة تختلف باختلاف الاشخاص، فان ما يؤدى به حق احسان
السلطان غير ما يؤدى به حق احسان غيره، فان مقابلة احسانه انما تكون بمثل
الدعاء و نشر المحاسن، و مقابلة احسان غيره تكون بمثل بذل المال و السعي في قضاء
حوائجه و غير ذلك. و الواجب سبحانه غنى عن معونتنا و مساعينا. و لا يحتاج الى
شى ء من اعمالنا و افعالنا، و لكن يجب علينا بالنظر الى شرع العدالة حقوق تحصل بها
مساواة في الجملة، كمعرفته و محبته، و تحصيل العقائد الحقة و الاخلاق الفاضلة، و
الاجتهاد في امتثال ما جاءت به رسله و سفراؤه من الصوم و الصلاة، و السعى الى
المواقف الشريفة و غير ذلك، و ان كان التوفيق لادراك ذلك كله من جملة نعمائه، الا
ان العبد اذا ادى ما له فيه مدخلية و اختيار من وظائف الطاعات، و ترك ما
تقتضى الضرورة بتمكنه على تركه من المعاصي و السيئات، لخرج عن الجور المطلق و
لم يصدق عليه انه جائر مطلق، و ان كان اصل تمكنه و اختياره بل اصل وجوده و حياته
كلها من الله سبحانه.

«الثاني » ما يجرى بين الناس بعضهم لبعض: من اداء الحقوق و تادية الامانات و
النصفة في المعاملات و المعاوضات و تعظيم الاكابر و الرؤساء و اغاثة المظلومين
و الضعفاء، فهذا القسم من العدالة يقتضى ان يرضى بحقه، و لا يظلم احدا، و يقيم كل واحد
من ابناء نوعه على حقه بقدر الامكان، لئلا يجور بعضهم بعضا، و يؤدى حقوق اخوانه
المؤمنين بحسب استطاعته. و قد ورد في الحديث النبوي: «ان المؤمن على اخيه
ثلاثين حقا لا براءة له منها الا بالاداء او العفو: يغفر زلته، و يرحم غربته، و
يستر عورته، و يقيل عثرته، و يقبل معذرته. و يرد غيبته، و يديم نصيحته، و يحفظ خلته،
و يرعى ذمته، و يعود مرضته، و يشهد ميتته، و يجيب دعوته، و يقبل هديته، و يكافي ء
صلته، و يشكر نعمته، و يحسن نصرته، و يحفظ حليلته، و يقضى حاجته، و يشفع مسالته، و
يسمت عطسته، و يرشد ضالته، و يرد سلامه، و يطيب كلامه، و يبر انعامه، و يصدق
اقسامه، و يواليه و لا يعاديه، و ينصره ظالما او مظلوما فاما نصرته ظالما
فيرده عن ظلمه، و اما نصرته مظلوما فيعينه على من ظلمه، و اما نصرته مظلوما
فيعينه على اخذ حقه، و لا يسامه، و لا يخذله، و يجب له من الخير ما يحب لنفسه، و يكره
له من الشر ما يكره لنفسه » .

«الثالث » ما يجري بين الاحياء و ذوى حقوقهم من الاموات: من اداء ديونهم و
انفاذ وصاياهم و الترحم عليهم بالصدقة و الدعاء. و قد اشار خاتم الرسالة صلى الله
عليه و آله و سلم الى اقسام العدالة بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «التعظيم
لامر الله و الشفقة على خلق الله » ، و بقوله صلى الله عليه و آله و سلم في خبر آخر:
«الدين النصحية، قيل لمن؟ قال: لله و لرسوله و لعامة المؤمنين » .

ايقاظ


قد ظهر مما ذكر ان الكمال كل الكمال لكل شخص هو العدل و التوسط في جميع صفاته و
افعاله الباطنة و الظاهرة، سواء كانت مختصة بذاته او متوسطة بينه و بين ابناء
نوعه، و لا تحصل النجاة و السعادة الا بالاستقامة على وسط الاشياء المتخالفة، و
التثبت على مركز الاطراف المتباعدة، فكن يا حبيبي جامعا للكمالات، متوسطا
بين مراتب السعادات، و مركزا لدائرة نيل الافاضات. فكن اولا متوسطا بين
العلم و العمل جامعا بينهما بقدر الامكان و لا تكتف باحدهما حتى لا تكون واحدا من
الرجلين القاصمين (16) لظهر فخر الثقلين صلى الله عليه و آله و سلم. و كن في العمل
متوسطا بين حفظ الظاهر و الباطن فلا تكن في باطنك خبيثا و ظاهرك نقيا، حتى
تكون كشوهاء ملبسة بزى حوراء مدلسة بانواع التدليسات، و لا بالعكس لتكون مثل درة
ملوثة باقسام القاذورات، بل ينبغي ان يكون ظاهرك مرآة لباطنك، حتى يظهر من
محاسنك بقدر ما اقتضته ملكاتك الفاضلة الباطنة. و كن في جميع ملكاتك الباطنة و
افعالك الظاهرة متوسطا بين الافراط و التفريط على ما يقرع سمعك في هذا
الكتاب. ثم كن في العلوم متوسطا بين العلوم الباطنة العقلية و العلوم
الظاهرة الشرعية، فلا تكن من الذين قصروا انظارهم على ظواهر الآيات و لم
يعرفوا من حقائق البينات، يذمون علماء الحقيقة و ينسبونهم الى الالحاد و الزندقة،
و لا من الذين صرفوا اعمارهم في فضول اهل يونان و هجروا ما جاء به حامل
الوحي و الفرقان، يذمون علماء الشريعة و يثبتون لهم سوء القريحة، يدعون لانفسهم
الذكاء و الفطانة و ينسبون ورثة الانبياء الى الجهل و البطالة. ثم كن في
العقليات متوسطا بين طرق العقلاء من غير جمود على واحدة منها بمجرد التقليد او
التعصب، فتوسط بين الحكمة و الكلام و الاشراق و العرفان، و اجمع بين الاستدلال
و تصفية النفس بالعبادة و الرياضة، فلا تكن متكلما صرفا لا تعرف سوى الجدل، و لا
مشائيا محضا اضاع الدين و اهمل و لا متصوفا استراح بدعوى المشاهدة و العيان من
دون بينة و برهان. و كن في العلوم الشرعية متوسطا بين الاصول و الفروع، فلا تكن
اخباريا تاركا للقواعد القطعية، و لا اصوليا عاملا بقياسات عامية. و قس على ذلك
جميع امورك الباطنة و الظاهرة، و اعمل به حتى يرشدك الى طريق السداد، و يوفقك
لاكتساب زاد المعاد.

[دفع اشكال]

ان قيل: قد تلخص مما ذكر: ان الفضيلة في جميع الاخلاق و الصفات انما هو المساواة
من غير زيادة و نقصان، مع انه قد ثبت ان للتفضل محمود و هو زيادة فلا يدخل تحت
العدالة الراجعة الى المساواة (قلنا) : التفضل احتياط يقع لتحصيل القطع بعدم
الوقوع في النقصان، و ليس الوسط في طرفين من الاخلاق على نهج واحد فان الزيادة
في السخاء اذا لم يؤد الى الاسراف احسن من النقصان عنه، و اشبه بالمحافظة على
شرائطه، فالتفضل انما يصدر عن فضيلة العدالة، لانها مبالغة فيها و لا يخرجها عن
حقيقتها، اذ المتفضل من يعطي المستحق ازيد مما يستحقه، و هذه الزيادة ليست
مذمومة، بل هى العدالة مع الاحتياط فيها، و لذا قيل: «ان المتفضل افضل من العادل » ،
و المذموم ان يعطي غير المستحق او يترك المساواة بين المستحقين، لانه انفق
فيما لا ينبغي او على ما لا ينبغي، و صاحبه لا يسمى متفضلا بل مضيعا، و لكون التفضل
احتياطا انما يحسن من الرجل بالنسبة الى صاحبه في المعاملة التي بينهما، و
لو كان بين جماعة و لم يكن له نصيب في ما يحكم فيه لم يسعه الا العدل المحض و لم
يجز له التفضيل

تتميم


(اصلاح النفس قبل اصلاح الغير و اشرف وجوه العدالة عدالة السلطان)

قد تلخص ان حقيقة العدالة او لازمها ان يغلب العقل الذي هو خليفة الله على جميع القوى
حتى يستعمل كلا منها فيما يقتضي رايه، فلا يفسد نظام العالم الانساني، فان
الواجب سبحانه لما ركب الانسان بحكمته الحقة و مصلحته التامة من القوى
الكثيرة المتضادة، فهي اذا تهايجب و تغالبت و لم يقهرها قاهر خير، حدثت فيه
بهيجانها و اضطرابها انواع الشر، و جذبه كل واحدة منها الى ما يقتضيه و
يشتهيه، كما هو الشان في كل مركب. و قد شبه المعلم الاول مثله بمن يجذب من
جهتين حتى ينقطع و ينشق بنصفين او من جهات كثيرة فيتقطع بحسبها. فيجب على كل
انسان ان يجاهد حتى يغلب عقله الذى هو الحكم العدل و الخير المطلق على قواه
المختلفة، ليرفع اختلافها و تجاذبها و يقيم الجميع على الصراط القويم.

ثم كل شخص ما لم يعدل قواه و صفاته لم يتمكن من اجراء احكام العدالة بين شركائه في
المنزل و البلد، اذ العاجز عن اصلاح نفسه كيف يقدر على اصلاح غيره، فان السراج
الذي لا يضى ء قريبه كيف يضى ء بعيده، فمن عدل قواه و صفاته اولا و اجتنب عن
الافراط و التفريط و استقر على جادة الوسط، كان مستعدا لسلوك هذه الطريقة بين
ابناء نوعه، و هو خليفة الله في ارضه، و اذا كان مثله حاكما بين الناس و كان
زمام مصالحهم في قبضة اقتداره لتنورت البلاد باهلها، و صلحت امور العباد
باسرها، و زاد الحرث و النسل و دامت بركات السماء و الارض.

و غير خفي ان اشرف وجوه العدالات و اهمها و افضل صنوف السياسات و اعمها هو
عدالة السلطان، اذ غيرها من العدالات مرتبطة بها و لولاه لم يتمكن احد من رعاية
العدالة، كيف و تهذيب الاخلاق و تدبير المنزل يتوقف على فراغ البال و انتظام
الاحوال، و مع جور السلطان امواج الفتن متلاطمة، و افواج المحن متراكمة، و
عوائق الزمان متزاحمة، و بوائق (17) الحدثان متصادمة، و طالبوا الكمال كالحيارى
في الصحارى لا يجدون الى مناله سبيلا و لا الى جداوله مرشدا و دليلا، و عرصات
العلم و العمل دارسة الآثار، و منازلهما مظلمة الارجاء و الاقطار، فلا يوجد ما هو
الملاك في تحصيل السعادات، اعنى تفرغ الخاطر و الاطمئنان و انتظام امر المعاش
الضروري لافراد الانسان. و لذا لو تصفحت في امثال زماننا زوايا المدن و
البلاد و اطلعت على بواطن فرق العباد، لم تجد من الالوف واحدا تمكن من اصلاح
نفسه و يكون يومه خيرا من امسه، بل لا تجد دينا الا و هو باك على فقد الاسلام و
اهله، و لا طالبا الا و هو لعدم المكنة باق على جهله، و لعمرى ان هذا الزمان هو
الزمان الذي اخبر عنه سيد الانام و عترته الابرار الكرام عليه و عليهم افضل
الصلاة و السلام من انه: «لا يبقى من الاسلام الا اسمه، و لا من القرآن الا رسمه » .

و بالجملة: المناط كل المناط في تحصيل الكمالات و اخراج النفوس من الجهالات،
هو عدالة السلطان، و اعتناؤه باعلاء الكلمة، و سعيه في ترويج احكام الدين و الملة،
و لذا ورد في الآثار: (ان السلطان اذا كان عادلا كان شريكا في ثواب كل طاعة
تصدر عن كل رعية، و ان كان جائرا كان سهيما في معاصيهم) . و قال سيد الرسل صلى الله
عليه و آله و سلم: «اقرب الناس يوم القيامة الى الله تعالى الملك العادل و ابعدهم
عنه الملك الظالم » . و ورد عنه صلى الله عليه و آله و سلم: «عدل ساعة خير من عبادة
سبعين سنة » . و السر ان اثر عدل ساعة واحدة ربما يصل الى جميع المدن و الامصار و
يبقى على مر الدهور و الاعصار، و قال بعض الاكابر: لو علمت انه يستجيب لى دعوة
واحدة لخصصتها باصلاح حال السلطان حتى يعم نفعه.

تنوير


(لا حاجة الى العدالة مع رابطة المحبة)


لو استحكمت رابطة المحبة و علاقة المودة بين الناس لم يحتاجوا الى سلسلة
العدالة، فان اهل الوداد و المحبة في مقام الايثار و لو كان بهم خصاصة، فكيف
يجور بعضهم على بعض. و السر ان رابطة المحبة اتم و اقوى من رابطة العدالة لان
المحبة وحدة طبيعية جبلية، و العدالة وحدة قهرية قسرية. على انها لا تنتظم بدون المحبة،
لكونها باعثة للايجاد، كما اشير اليه في الحديث القدسي «كنت كنزا مخفيا فاحببت
ان اعرف » . فالمحبة هو السلطان المطلق، و العدالة نائبها و خليفتها (18) .

وصل


(التكميل الصناعي لاكتساب الفضائل على طبق ترتيب الكمال الطبيعي)

لاكتساب الفضائل ترتيب ينبغي ان لا يتعدى عنه. و بيان ذلك: ان مبادى ء الحركات
المؤدية الى الكمالات: اما طبيعية كحركة النطفة في الاطوار المختلفة الى بلوغ
كمال الحيوانية، او صناعية كحركة الخشب بتوسط الآلات الى بلوغ كمال السريرية. ثم
الطبيعة و تحريكاتها لاستنادها الى المبادى ء العالية تكون متقدمة على الصناعية
المستندة الى الانسان، و لما كان كمال الثواني ان تتشبه بالاوائل، فينبغي ان
تقتدي الصناعية في تحريكاتها المؤدية الى كمالها بالطبيعية.

و اذا ثبت ذلك فاعلم: ان تهذيب الاخلاق لما كان امرا صناعيا لزم ان يقتضى
في تحصيله من حيث الترتيب بافعال الطبيعة في ترتيب حصولها، فنقول:

لا ريب في ان اول ما يحصل في الطفل قوة طلب الغذاء، و اذا زادت تلك القوة يبكي و
يرفع صوته لاجل الغذاء، و اذا قويت حواسه و تمكن من حفظ بعض الصور يطلب صورة
الام او الظئر (19) ، و جميع ذلك متعلق بالقوة الشهوية. و نهاية هذه القوة و كمالها
ان يتم ما يتعلق بالشخص من الامور الشهوية، و ينبعث منه الميل الى استبقاء النوع،
فيحدث ميل النكاح و الوقاح. ثم تظهر فيه آثار القوة الغضبية حتى يدفع عن نفسه
ما يؤذيه و لو بالاستعانة بغيره. و غاية كمال هذه القوة حصول التمكن من حفظ الشخص و
الاقدام على حفظ النوع، فيحدث فيه الميل الى ما يحصل به التفوق من اصناف
الرئاسات و الكرامات. ثم تظهر فيه آثار قوة التمييز و تتزايد الى ان يتمكن
من تعقل الكليات.

و هنا يتم ما يتعلق بالطبيعة من التدبير و التكميل، و يكون ابتداء التكميل
الصناعي، فلو لم يحصل الاستكمال بالكسب و الصناعة بقى على هذه الحالة و لم يبلغ
الى الكمال الحقيقي الذى خلق الانسان لاجله، لانه لم يخلق احد مجبولا على
الاتصاف بجميع الفضائل الخلقية الا من ايد من عند الله بالنفس القدسية، و ان كان بعض
الناس اكثر استعدادا لتحصيل بعض الكمالات من بعض آخر، فلا بد لجل الانام في
تكميل نفوسهم من الكسب و الاستعلام.

فظهر مما ذكر: ان الطبيعة تولد اولا قوة الشهوة، ثم قوة الغضب، ثم قوة التمييز،
فيجب ان يقتدى به في التكميل الصناعي، فيهذب اولا القوة الاولى ليكتسب العفة،
ثم الثانية ليتصف بالشجاعة، ثم الثالثة ليتحلى بالحكمة، فمن حصل بعض الفضائل
على الترتيب الحكمى كان تحصيل الباقي له في غاية السهولة، و من حصله لا على
الترتيب، فلا يظن ان تحصيل الباقي حينئذ متعذر بل هو ممكن، و ان كان اصعب
بالنسبة الى تحصيله بالترتيب فان عدم الترتيب يوجب عسر الحصول لا تعذره،
كما ان الترتيب يوجب يسره لا مجرد امكانه. فلا يترك السعى و الجد في كل حال و
لا يياس من رحمة الله الواهب المتعال، و ليشمر ذيل الهمة على منطقة الطلب حتى
ييسر الله له الوصول الى ما هو المقصد و المطلب.

ثم الفضيلة ان كانت حاصلة لزم السعى في حفظها و ابقائها، و ان لم تكن حاصلة بل كان
ضدها حاصلا وجب تحصيلها بازالة الضد، و لذا كان فن الاخلاق على قسمين: (احدهما)
راجع الى حفظ الفضائل، (و ثانيهما)

نافع في دفع الرذائل، فيكون شبيها بعلم الطب، من حيث انقسامه الى قسمين:
(احدهما) في حفظ الصحة، (و ثانيهما) في دفع المرض، و لذا يسمى طبا روحانيا، كما
ان الطب المتعارف يسمى طبا جسمانيا. و من هنا كتب جالينوس الى روح الله
عليه السلام: «من طبيب الابدان الى طبيب النفوس » . فكما ان لكل من حفظ الصحة و
دفع المرض في الطب الجسماني علاجا خاصا، فكذلك لكل من حفظ الفضائل و ازالة
الرذائل في الطب الروحاني معالجات معينة، كما نذكره ان شاء الله تعالى.

تعليقات:

1) اذا كان العقل العملي مبدا لتحريك البدن فهو قوة تحريك لا قوة ادراك و في
الحقيقة ان غرضهم من العقل العملي هو ادراك ما ينبغي ان يعمل.

2) و في النسخة المخطوطة عندنا «الحصول » .

3) لم توجد في نسختنا الخطية لكنها موجودة في نسخة خطية اخرى و في المطبوعة.

4) اي ان كلا من الرذائل اقرب من الفضيلة الى النهاية.

5) الصواب: يقال فلان مستقيم الصوب اذا لم يزغ عن قصده يمينا و شمالا.

6) هود الآية: 112.

7) غير موجودة في نسختنا الخطية لكنها موجودة في نسخة خطية اخرى و في المطبوعة.

8) هذه العبارة بتمامها لم توجد في نسختنا الخطية.

9) هذه الكلمة موجودة في نسختنا الخطية فقط.

10) الراتب، عيش راتب، اي دائم ثابت.

11) من كلمة (منها) الى قوله و (استحقارها) بتمام العبارة لم توجد في نسختنا
الخطية لكنها موجودة في نسخة خطية اخرى.

12) من كلمة (منها) الى قوله و (الاستطالة) بتمام العبارة لم توجد في نسختنا
الخطية لكنها موجودة في نسخة خطية اخرى.

13) هذه العبارة بتمامها غير موجودة في نسختنا الخطية.

14) كذا في النسخ و لم نعثر على مصدر لهذه الكلمة لتصحيحها.

15) الحديث: الآية: 25.

16) اشارة الى قوله صلى الله عليه و آله و سلم: (قصم ظهرى رجلان: عالم متهتك و جاهل
متنسك) .

17) البائقة: الداهية و الشر. يقال: رفعت عنك بائقة فلان اي غائلته و شره جمعه بوائق.

18) و لذلك ان الشريعة الاسلامية اول ما دعت فيما دعت الى الاخوة و التآلف بين
الناس، و كثير من احكامها مثل الجماعة و الجمعة و الايثار و الاحسان و تحريم
الغيبة و النبز و نحو ذلك تستهدف ايجاد رابطة الحب بين الشعوب و القبائل و
الافراد، ليستغنوا عن الاخذ بقانون العدل الصارم المر.

19) يريد بها المرضعة.


/ 15