جامع السعادات جلد 1

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

جامع السعادات - جلد 1

محمد مهدی النراقی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



الباب الثالث في طريق حفظ اعتدال الاخلاق المحمودة واستحصالها بازالة نقائضها المذمومة


الطريق لحفظ اعتدال الفضائل-قانون العلاج في الطب الروحاني- طريقة معرفة
الامراض النفسية-المعالجات الكلية لامراض النفس- المعالجات الخاصة لامراض النفس.
و له اربعة مقامات:

(الاول) ما يتعلق بالقوة العاقلة من الرذائل و الفضائل و كيفية علاج الرذائل.

(الثاني) ما يتعلق بالقوة الغضبية من الرذائل و الفضائل و كيفية العلاج (الثالث)
ما يتعلق بالقوة الشهوية من الرذائل و الفضائل و كيفية العلاج.

(الرابع) ما يتعلق بالقوى الثلاث او باثنتين منها. و فيه فصول (1) :

فصل


(الطريق لحفظ اعتدال الفضائل)


قد تقرر في الطب الجسماني ان حفظ الصحة بايراد المثل و ملائم المزاج فيجب ان
يكون حفظ اعتدال الفضائل ايضا بذلك. و ايراد المثل لحفظ اعتدالها يكون بامور:

(منها) اختيار مصاحبة الاخيار، و المعاشرة مع اولى الفضائل الخلقية و استماع
كيفية سلوكهم مع الخالق و الخليقة، و الاجتناب عن مجالسة الاشرار و ذوي الاخلاق
السيئة، و الاحتراز عن استماع قصصهم و حكاياتهم و ما صدر عنهم من الافعال و
مزخرفاتهم، فان المصاحبة مع كل احد اقوى باعث على الاتصاف باوصافه، فان
الطبع يسترق من الطبع كلا من الخير و الشر. و السر: ان النفس الانسانية ذات
قوى بعضها يدعو الى الخيرات و الفضائل و بعضها يقتضى الشرور و الرذائل، و كلما
حصل لاحدهما ادنى باعث لما تقتضيه جبلته مال اليه و غلب على صاحبه الى الخير،
و لكون دواعى الشر من القوى اكثر من بواعث الخير منها، يكون الميل الى الشر
اسرع و اسهل بالنسبة الى الميل الى الخير، و لذا قيل: ان تحصيل الفضائل بمنزلة
الصعود الى الاعالى و كسب الرذائل بمثابة النزول منها، و الى ذلك يشير قوله صلى
الله عليه و آله و سلم: «حفت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات » .

(و منها) اعمال القوى في شرائف الصفات، و المواضبة على الافعال التي هي آثار
فضائل الملكات، و حمل النفس على الاعمال التي يقتضيها الخلق الذى يريد حفظه،
فالحافظ لملكة الجود يجب ان يواظب على انفاق المال و بذله على المستحقين، و
يقهر على نفسه عند وجدان ميلها الى الامساك، و الحافظ لملكة الشجاعة يجب الا يترك
الاقدام في الاخطار و الاهوال بشرط اشارة العقل، و يغضب على نفسه عند وجدان
الجبن منها. و هكذا الحال في سائر الصفات. و هذا بمثابة الرياضة الجسمانية في
حفظ الصحة البدنية.

(و منها) ان يقدم التروي على كل ما يفعله، لئلا تصدر عنه غفلة خلاف ما تقتضيه الفضيلة.
و لو صدر عنه احيانا خلاف مقتضاها، فليؤدب نفسه بارتكاب ما يضاده، و يشق عليها
عقوبة، بعد تعييرها و توبيخها، كما اذا اكل ما يضره من المطاعم فليؤدبها
بالصوم، و اذا صدر عنه غضب مذموم في واقعة فليؤدبها بايقاعها في مثلها مع
الصبر عليها، او في معرض اهانة السفهاء حتى يكسر جاهه او يؤدبها بارتكاب ما يشق
عليها من النذر و الصدقة و غير ذلك. و ينبغي الا يترك الجد و السعي في التحصيل و
الحفظ و ان بلغ الغاية لان التعطيل يؤدى الى الكسالة و هي الى انقطاع فيوضات
عالم القدس، فتنسلخ الصورة الانسانية و تحصل الهلاكة الابدية، و السعي يوجب
ازدياد تجرد النفس و صفائها و الانس بالحق و الالف بالصدق (2) ، فيتنفر عن الكذب و
الباطل، و يتصاعد في مدارج الكمالات و مراتب السعادات، حتى تنكشف له الاسرار
الالهية و الغوامض الربانية، و يتشبه بالروحانيات القادسة و ينخرط في سلك
الملائكة المقدسة. و يجب ان يكون سعيه في امور الدنيا بقدر الضرورة، و يحرم على نفسه
تحصيل الزائد، لانه لا شقاوة اشد من صرف الجوهر الباقي النوراني في تحصيل الخزف
الفاني الظلماني الذي يفوت عنه و ينتقل الى اعدائه من الوارث و غيرهم.

(و منها) ان يحترز عما يهيج الشهوة و الغضب رؤية و سماعا و تخيلا، و من هيجهما
كمن هيج كلبا عقورا او فرسا شموسا، ثم يضطر الى تدبير الخلاص عنه. و اذا
تحركتا بالطبع فليقتصر في تسكينهما بما يسد الخلة و لا ينافي حفظ الصحة، و هو القدر
الذى جوزه العقل و الشريعة.

(و منها) ان يستقصى في طلب خفايا عيوب نفسه، و اذا عثر على شى ء منها اجتهد في
ازالته. و لما كانت النفس عاشقة لصفاتها و افعالها، فكثيرا ما يخفى عليها بعض
عيوبها، فيلزم على كل طالب للصحة و حافظها ان يختار بعض اصدقائه ليتفحص عن
عيوبه و يخبره بما اطلع عليه، و اذا اخبره بشى ء منها فليفرح و ليبادر الى
ازالته حتى يثق صديقه بقوله، و يعلم ان اهداء شى ء من عيوبه اليه احسن عنده من كل
ما يحبه و يهواه، و ربما كان العدو في هذا الباب انفع من الصديق، لان الصديق
ربما يستر العيب و لا يظهره، و العدو مصر على اظهاره، بل ربما يتجاوز الى
البهتان، فاذا اظهر الاعداء عيوبه فليشكر الله على ذلك و ليبادر الى رفعها و
قمعها.

و مما ينفع في المقام ان يجعل صور الناس مرايا لعيوبه و يتفقد عيوبهم، و اذا
عثر على عيب منهم تامل في قبحه، و يعلم ان هذا العيب اذا صدر عنه يكون قبيحا و يدرك
غيره هذا القبح، فليجتهد في ازالته. و ينبغي ان يحاسب نفسه في آخر كل يوم و ليلة،
و يتفحص عن جميع ما صدر من الافعال فيهما فان لم يصدر عنه شى ء من القبائح و
الذمائم فليحمد الله على حسن تاييده، و ان صدر عنه شي ء من ذلك فليعاتب نفسه و
يتوب، و يجتهد في الا يصدر عنه بعد ذلك مثله.

قانون العلاج في الطب الروحاني


(تنبيه) قد تبين ان للطب الروحاني اسوة بالطب الجسماني. و القانون في معالجة
الامراض الجسمانية ان يعرف جنس المرض اولا، ثم الاسباب و العلامات، ثم يبين
كيفية العلاج. و العلاج فيه اما كلي يتناول جميع الامراض، او جزئي يختص بمرض دون
مرض، فكذلك الحال في الطب الروحاني. و نحن نشير الى ذلك في فصول:

فصل


(طريق معرفة الامراض النفسانية)


الامراض النفسانية هي انحرافات الاخلاق عن الاعتدال. و طريق معرفتها: انك قد
عرفت ان القوى الانسانية محصورة في انواع ثلاثة:

(احدها) قوة التمييز، (و ثانيها) قوة الغضب و يعبر عنها بقوة الدفع، (و ثالثها)
قوة الشهوة و يعبر عنها بقوة الجذب. و انحراف كل منها اما في الكمية او في
الكيفية، و الانحراف في الكمية اما للزيادة من الاعتدال او للنقصان عنه، و
الانحراف في الكيفية انما يكون برداءتها. فامراض كل قوة اما بحسب الافراط او
التفريط، او بحسب رداءة الكيفية.

فالافراط في قوة التمييز: كالجربزة و الدهاء، و التجاوز عن حد النظر، و
المبالغة في التنقير (3) ، و التوقف في غير موضعه للشبه الواهية، و الحكم على
المجردات بقوة الوهم، و اعمال الذهن في ادراك ما لا يمكن دركه، و التفريط فيه
كالبلاهة، و قصور النظر عن درك مقدار الواجب، كاجراء احكام المحسوسات على
المجردات. و الرداءة كالسفسطة في الاعتقاد، و الميل الى العلوم الغير
اليقينية-كعلم الجدل و الخلاف-ازيد مما يميل الى اليقينيات و استعمالهما في
مقام اليقينيات، و الشوق الى علم الكهانة و الشعبذة و امثالهما للوصول الى
الشهوات الخسيسة.

و اما الافراط في قوة الدفع: كشدة الغضب و الغيظ و فرط الانتقام بحيث يتشبه
بالسباع. و اما التفريط، كعدم الغيرة و الحمية و التشبه بالاطفال و النسوان
في الاخلاق و الصفات. و اما الرداءة فيها: كالغيظ على الجمادات و البهائم
او على الناس لا بسبب موجب للانتقام.

و اما الافراط في قوة الجذب: فكالحرص على الاكل و الجماع ازيد من قدر الضرورة.
و التفريط فيه: فكالفتور عن تحصيل الاقوات الضرورية و تضييع العيال و الخمود
عن الشهوة حتى ينقطع عنه النسل. اما الردادة فيها: كشهوة الطين و الميل الى
مقاربة الذكور.

ثم انك قد عرفت ان اجناس الفضائل اربعة، فاجناس الرذائل بحسب الكمية ثمانية، لكل
فضيلة ضدان كل منهما ضد للاخر، و بحسب الكيفية اربعة، و يحصل من تركيبها و
امتزاجها انواع و اصناف لا يعد كثرة، كما عرفت اكثرها.

فصل


(اسباب الامراض النفسانية)


اعلم ان اسباب الانحراف في الاخلاق، اما نفسية حاصلة في النفس في بدو فطرتها،
او حادثة من مزاولتها للاعمال الردية، او جسمية-و هي الامراض الموجبة لبعض
الملكات الردية-و السر في ذلك ان النفس لما كانت متعلقة بالبدن علاقة ارتباطية،
فيتاثر كل منهما بتاثر الآخر، و كل كيفية تحدث في احدهما تسرى في الآخر، كما ان
غضب النفس او تعشقها يوجب اضطراب البدن و ارتعاشه، و تاثر البدن بالامراض، (لا)
سيما اذا حدثت في الاعضاء الرئيسية يوجب النقص في ادراك النفس و فساد تخيلها و
كثيرا ما يحدث من بعض الامراض السوداوية فساد الاعتقاد و الجبن و سوء الظن،
و من بعضها التهور، و يحصل من اكثر الامراض سوء الخلق.

فصل


(المعالجات الكلية لمرض النفس)


سبب الانحراف ان كان مرضا جسمانيا فيجب ان يبادر الى ازالته
بالمعالجات الطبية، و ان كان نفسانيا فالمعالجة الكلية هنا كالمعالجة الكلية
في الطب الجسماني. و المعالجة الكلية فيه ان يعالج المرض اولا بالغذاء الذى
هو ضد المرض طبعا، كان يعالج المرض البارد بالغذاء الحار، فان لم ينفع
فبالدواء و ان لم ينجع فبالسمومات، و ان لم يحصل بها البرء فبالكى او القطع،
و هو آخر العلاج. فالقانون الكلى في المعالجة هنا ايضا كذلك، و هو ان يبادر بعد
معرفة الانحراف الى تحصيل الفضيلة التي هي ضده، و المواظبة على الافعال التي هي
آثارها، و هذا بمنزلة الغذاء المضاد للمرض، فكما ان حصول الحرارة في المزاج
يدفع البرودة الحادثة فيه. فكذا كل فضيلة تحدث في النفس تزيل الرذيلة التي هي ضدها.
فان لم ينفع فليوبخ النفس و يعيرها على هذه الرذيلة فكرا او قولا او عملا، و يعاتبها
و يخاطبها بلسان الحال و المقال: ايتها النفس الامارة قد هلكت و تعرضت لسخط الله و
غضبه، و عن قريب تعذبين في النار مع الشياطين و الاشرار. فان لم يؤثر ذلك
فليرتكب آثار الرذيلة التي هي ضد هذه الرذيلة، بشرط محافظة التعديل، فصاحب
الجبن مثلا يعمل اعمال المتهورين، فيخوض في المخاوف و الاهوال، و يلقي نفسه في
موارد الحذر و الاخطار. و صاحب البخل يكثر من بذل الاموال، بشرط ان يكف اذا
قرب زوال الجبن و البخل لئلا يقع في التهور و الاسراف، و هذا بمنزلة المداواة
بالسم. فان لم ينفع ذلك لقوة استحكام المرض فليعذب النفس بانواع التكاليف
الشاقة و الرياضات المتعبة المضعفة للقوة الباعثة على هذه الرذيلة، و هذا بمثابة
الكى و القطع، و هو آخر العلاج.

المعالجات الخاصة لمرض النفس


(تنبيه) لما عرفت المعالجة الكلية الشاملة لجميع الرذائل باجناسها و انواعها
و اصنافها، فلنشتغل الآن ببيان معالجة كل من الرذائل بخصوصه.

و قد عددنا قبل ذلك ما يتعلق بالقوى الثلاث من الرذائل و اضدادها من الفضائل مما
له اسم مشهور، فههنا نذكر معالجة كل رذيلة بخصوصها، و نذيله بذكر ما يضادها من
الفضيلة، و ما ورد في مدحها عقلا و نقلا، لان العلم بمعرفة كل فضيلة و حسنة اعون شى ء على
ازالة ما يضادها من الرذيلة. و ربما كانت جملة من الرذائل المختلفة في الاسم
مشتركة في المعالجة، و ربما كان للرذائل او الفضائل المتعددة ضد واحد منهما، فنحن
نشير الى ذلك، و نشير ايضا في تلو كل رذيلة و فضيلة الى ما يتولد منهما من
افعال الجوارح مع معالجته-ان كان له ذلك-و نراعى الترتيب المذكور في
مقام الاجمال: فنذكر اولا ما يتعلق بالقوة العاقلة من الجنسين و انواعهما، ثم
ما يتعلق بالقوة الغضبية، ثم ما يتعلق بالشهوية، ثم ما يتعلق بالثلاث و الاثنين
منها، فهنا اربعة مقامات:

المقام الاول (في معالجة الرذائل المتعلقة بالقوة العاقلة)


الجربزة و علاجها-الجهل البسيط و علاجه-شرف العلم و الحكمة-آداب التعلم و
التعليم-العلم الالهي و الاخلاق و الفقه اشرف العلوم-اصول العقائد المجمع
عليها-الجهل المركب و الشك-اليقين-علامات صاحبه- مراتب
اليقين-الشرك-التوحيد-التوكل على الله-حق التوكل بماذا يحصل-مناجاة السر
لارباب القلوب-الخواطر النفسانية و الوساوس- اقسام الخواطر و منها
الالهام-المطاردة بين جندى الملائكة و الشياطين في معركة النفس-العلائم الفارقة
بين الالهام و الوسوسة-علاج الوساوس- ما يتم به علاج الوساوس-ما يتوقف قطع
الوساوس عليه-حديث النفس لا مؤاخذة عليه-الخاطر المحمود و التفكر-مجارى التفكر
في العوالم و المخلوقات اما جنسا رذائلها (4) [فاولهما]:

الجربزة


الموجبة للخروج في الفكر عن الحد اللائق و عدم استقامة الذهن على شى ء بل لا يزال
يستخرج امورا دقيقة غير مطابقة للواقع و يتجاوز عن الحق و لا يستقر عليه، و ربما
ادى في العقليات الى الالحاد و فساد الاعتقاد، بل الى نفي حقائق الاشياء راسا
كما للسوفسطائية، و في الشرعيات الى الوسواس. (و علاجه)

بعد تذكر قبحه و ايجابه للهلاك، ان يكلف نفسه على الاستقامة على مقتضى الادلة
المعتبرة عند اولى الافهام المستقيمة، و لا يتجاوز عن معتقدات اهل الحق
المعروفين بالتحقيق و استقامة القريحة، و لا يزال يكلف نفسه على ذلك حتى يعتاد
القيام على الوسط. و ربما كان للاشتغال بالتعليمات نفع في ذلك.

[و ثانيهما]:

الجهل البسيط


و قد عرفت انه من باب التفريط، و هو خلو النفس عن العلم من دون اعتقاد بكونها
عالمة. و هو في البداية غير مذموم لتوقف التعلم عليه، اذ ما لم تعتقد النفس جهلها
بالمعارف لم تنهض لتحصيلها. و اما الثبات عليه فهو من المهلكات العظيمة. و
الطريق في ازالة امور: (الاول) ان يتذكر ما يدل على قبحه و نقصه عقلا، و هو ان يعلم
ان الجاهل ليس انسانا بالحقيقة، و انما يطلق عليه الانسان مجازا، اذ فضل
الانسان عن سائر الحيوانات انما هو ادراك الكلى المعبر عنه بالعلم، لمشاركتها
معه في سائر الامور من الجسمية و القوى الغصبية و الشهوية و الصوت و غير ذلك،
فلو لا علمه بحقائق الاشياء و خواصها لكان حيوانا بالحقيقة، و لذا ترى ان من كان
في محل محاورات العلماء و كان جاهلا باقوالهم لم يكن فرق بينه و بين البهائم
بالنسبة اليهم. و اى هلاك اعظم من الخروج عن حدود الانسانية و الدخول في حد
البهيمية. (الثاني)

ان يتذكر ما ورد في الشريعة من الذم عليه مثل قوله-صلى الله عليه و آله و سلم-:
«ستة يدخلون في النار قبل الحساب لستة » و عد منهم اهل الرساتيق بالجهالة.
(الثالث) ان يتذكر ما يدل على فضيلة العلم عقلا و نقلا كما نذكره و اذا وقف على
جميع ذلك فليتيقظ عن سنة الغفلة، و يصرف في ازالته الهمة و يجتهد في تحصيل العلم
عن اهاليه، و يصرف فيه ايامه و لياليه.

فصل


(شرف العلم و الحكمة)


قد علم ان ضد الجنسين-اى الجربزة و السفسطة و الجهل-هو الحكمة، اعنى العلم بحقائق
الاشياء. فلنذكر اولا بعض ما يدل على شرافته عقلا و نقلا ترغيبا للطالبين على
السعى في تحصيله و ازالة الجهل عن نفوسهم، فنقول:

لا ريب في ان العلم افضل الفضائل الكمالية و اشرف النعوت الجمالية، بل هو اجل
الصفات الربوبية و اجمل السمات الالوهية، و هو الموصل الى جوار رب العالمين
و الدخول في افق الملائكة المقربين، و هو المؤدى الى دار المقامة التى لا تزول و
محل الكرامة التي لا تحول، و قد تطابق العقل و البرهان و اجماع ارباب الاديان
على: ان السعادة الابدية و القرب من الله سبحانه لا يتيسران بدونه، و اى شى ء
افضل مما هو ذريعة اليهما. و ايضا قد ثبت في الحكمة المتعالية: ان العلم و
التجرد متلازمان، فكلما تزداد النفس علما تزداد تجردا، و لا ريب في ان التجرد
اشرف الكمالات المتصورة للانسان، اذ به يحصل التشبه بالملا الاعلى و اهل
القرب من الله تعالى.

و من جملة العلوم معرفة الله التى هي السبب الكلى لايجاد العالم العلوى و
السفلى، كما دل عليه الخبر القدسى: «كنت كنزا مخفيا فاحببت ان اعرف فخلقت الخلق » .
على ان العلم لذيذ في نفسه محبوب في ذاته، و ما يحصل منه من اللذة و الابتهاج
قلما يحصل من غيره. و اسر فيه ان ادراك الاشياء و الاحاطة بها نوع تملك و تصرف
لها، اذ تتقرر في ذات المدرك حقائقها و صورها، و مثل هذا التملك لدوامه و جزئية
المدرك للمدرك اقوى من ملكية الاعيان المبائنة لذات المالك الزائلة عنه. و التحقيق:
ان اطلاق الملكية عليه مجازي، و النفس لكونها من سنخ عالم الربوبية تحت القهر و
الاستيلاء على الاشياء و المالكية لها باى نحو كان، اذ معنى الربوبية التوحيد
بالكمال و الاقتدار و الغلبة على الاشياء.

ثم من فوائد العلم في الدنيا العز و الاعتبار عند الاخيار و الاشرار، و نفوذ
الحكم على الملوك و ارباب الاقتدار، فان طباع الانام من الخاص و العام
مجبولة على تعظيم اهل العلم و توقيرهم و وجوب اطاعتهم و احترامهم، بل جميع
الحيوانات من البهائم و السباع مطيعة للانسان مسخرة له، لاختصاصه بقوة
الادراك و مزيد التمييز. و لو تصفحت آحاد الناس لم تجد احدا له تفوق و زيادة على
غيره في جاه او مال او غير ذلك الا و هو راجع الى اختصاصه بمزيد تمييز و ادراك، و
لو كان من باب المكر و الحيل.

هذا و ما يدل على شرافة العلم من الايات و الاخبار اكثر من ان تحصى نبذة منها
قوله تعالى:

«انما يخشى الله من عباده العلماء» (5)

و قوله تعالى:

«هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون » (6)

و قوله تعالى:

«و من يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا» (7)

و قوله تعالى:

«و تلك الامثال نضربها للناس و ما يعقلها الا العالمون » (8)

و قول النبي-صلى الله عليه و آله و سلم-: «اللهم ارحم خلفائى. قيل:

يا رسول الله! من خلفاؤك؟ قال: الذين ياتون من بعدى و يروون حديثي و سنتى » . و
قوله-صلى الله عليه و آله و سلم-لابي ذر: «جلوس ساعة عند مذاكرة العلم احب الى الله
تعالى من قيام الف ليلة يصلى في كل ليلة الف ركعة و احب اليه من الف غزوة، و من
قراءة القرآن كله اثنى عشر الف مرة و خير من عبادة سنة صام نهارها و قام ليلها،
و من خرج من بيته ليلتمس بابا من العلم كتب الله عز و جل له بكل قدم ثواب نبى
من الانبياء، و ثواب الف شهيد من شهداء بدر، و اعطاه الله بكل حرف يسمع او يكتب
مدينة في الجنة و طالب العلم يحبه الله و تحبه الملائكة و النبيون، و لا يحب العلم
الا السعيد و طوبى لطالب العلم، و النظر في وجه العالم خير من عتق الف رقبة، و من
احب العلم و جبت له الجنة، و يصبح و يمسي في رضى الله، و لا يخرج من الدنيا حتى
يشرب من الكوثر و ياكل من ثمرة الجنة، و لا ياكل الدود جسده و يكون في الجنة رفيق
خضر عليه السلام » .

و قول امير المؤمنين عليه السلام: «ان كمال الدين طلب العلم و العمل به، و ان طلب
العلم اوجب عليكم من طلب المال، و ان المال مقسوم مضمون لكم قد قسمه عادل بينكم، و
قد ضمنه و سيفى لكم، و العلم مخزون عند اهله فاطلبوه » . و قوله عليه السلام: «اذا مات
مؤمن و ترك ورقة واحدة عليها علم، تكون تلك الورقة سترا بينه و بين النار، و اعطاه
الله بكل حرف عليها مدينة اوسع من الدنيا سبع مرات » .

و قول سيد الساجدين علي بن الحسين-عليهما السلام-: «لو يعلم الناس ما في طلب
العلم لطلبوه، و لو بسفك المهج و خوض اللج » .

و قول الباقر عليه السلام: «عالم ينتفع بعلمه افضل من سبعين الف عابد»

و قول الصادق عليه السلام: «لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله تعالى ما مدوا
اعينهم الى ما متع به الاعداء من زهرة الحياة الدنيا و نعيمها، و كانت دنياهم
اقل عندهم مما يطؤن بارجلهم، و لتنعموا بمعرفة الله و تلذذوا بها تلذذ من لم يزل
في روضات الجنان مع اولياء الله. ان معرفة الله تعالى انس من كل وحشة، و صاحب من
كل وحدة، و نور من كل ظلمة، و قوة من كل ضعف و شفاء من كل سقم، قد كان قوم قبلكم يقتلون و
يحرقون و ينشرون و تضيق عليهم الارض برحبها، فما يردهم عما هم عليه شى ء مما هم
فيه من غير تردة و تروا من فعل ذلك بهم و لا اذى بما نقموا منهم:

«الا ان يؤمنوا بالله العزيز الحميد» (9)

فاسالوا ربكم درجاتهم، و اصبروا على نوائب دهركم تدركوا سعيهم » .

و عن الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام-عن النبي-صلى الله عليه و آله و
سلم-انه قال: «طلب العلم فريضة على كل مسلم، فاطلبوا العلم في مظانه، و اقتبسوه
من اهله، فان تعلمه لله تعالى حسنة، و طلبه عبادة، و المذاكرة به تسبيح، و العمل
به جهاد، و تعليمه من لا يعلمه صدقة، و بذله لاهله قربة الى الله، لانه معالم الحلال و
الحرام، و منار سبيل الجنة، و المؤنس في الوحشة، و الصاحب في الغربة و الوحدة، و
المحدث في الخلوة، و الدليل على السراء و الضراء، و السلاح على الاعداء. و الزين عند
الاخلاء، يرفع الله به اقواما، و يجعلهم في الخير قادة، تقتبس آثارهم، و يقتدى
بافعالهم و ينتهى الى آرائهم، ترغب الملائكة في خلتهم، و باجنحتها تمسهم، و في
صلاتها تبارك عليهم، و يستغفر لهم كل رطب و يابس حتى حيتان البحر و هو امه و
سباع البر و انعامه. ان العلم حياة القلوب من الجهل، و ضياء الابصار من الظلمة و
قوة الابدان من الضعف، يبلغ بالعبد منازل الاخيار و مجالس الابرار و
الدرجات العلى في الآخرة و الاولى. الذكر فيه يعدل بالصيام و مدارسته بالقيام.
به يطاع الرب و يعبد، و به توصل الارحام، و يعرف الحلال و الحرام العلم امام
و العمل تابعه، يلهمه السعداء و يحرمه الاشقياء، فطوبى لمن لم يحرمه الله من حظه » .

آداب التعلم و التعليم


[تنبيه]لكل من التعلم و التعليم آداب و شروط:

[اما آداب التعلم]:

(فمنها) ان يجتنب المتعلم عن اتباع الشهوات و الهوى و الاختلاط بابناء
الدنيا. و لقد قال بعض الاكابر: «كما ان الحاسة الجليدية اذا كانت مؤوفة برمد و
نحوه فهي محرومة من الاشعة الفائضة عن الشمس، كذلك البصيرة اذا كانت مؤوفة
بمتابعة الشهوات و الهوى و المخالطة بابناء الدنيا فهى محرومة من ادراك
الانوار القدسية و محجوبة عن ذوق اللذات الانسية » .

(و منها) ان يكون تعلمه لمجرد التقرب الى الله و الفوز بالسعادات الاخروية، و لم
يكن باعثه شيئا من المراء و المجادلة، و المباهاة و المفاخرة، و الوصول الى
جاه و مال، او التفوق على الاقران و الامثال. قال الباقر عليه السلام: «من طلب
العلم ليباهي به العلماء او يمارى به السفهاء او يصرف به وجوه الناس فليتبوا
مقعده من النار، ان الرئاسة لا تصلح الا لاهلها» و قال الصادق عليه السلام: «طلبة
العلم ثلاثة، فاعرفهم باعيانهم و صفاتهم صنف يطلبه للجهل (10) و المراء، و صنف
يطلبه للاستطالة و الختل، و صنف يطلبه للفقه و العقل. فصاحب الجهل و المراء مؤذ
ممار، متعرض للمقال في اندية الرجال بتذاكر العلم و صفة الحلم، و قد تسربل بالخشوع و
تخلى من الورع، فدق الله من هذا خيشومه و قطع منه حيزومه، و صاحب الاستطالة و
الختل ذو خب و ملق، يستطيل على مثله من اشباهه، و يتواضع للاغنياء من دونه، فهو
لحلوانهم (11) هاضم و لدينه حاطم، فاعمى الله على هذا خبره.

و قطع من آثار العلماء اثره. و صاحب الفقه و العقل ذو كآبة و حزن و سهر، قد تحنك في
برنسه و قام الليل في حندسه، يعمل و يخشى و جلا داعيا مشفقا مقبلا على شانه عارفا
باهل زمانه مستوحشا من اوثق اخوانه، فشد الله من هذا اركانه و اعطاه يوم
القيامة امانه » .

(و منها) ان يعمل بما يفهم و يعلم، فان من عمل بما يعلم ورثه الله ما لم يعلم. و قال
الصادق عليه السلام: «العلم مقرون الى العمل، من علم عمل و من عمل علم، و العلم
يهتف بالعمل فان اجابه و الا ارتحل عنه » . و عن السجاد عليه السلام: «مكتوب في
الانجيل: لا تطلبوا علم ما لا تعملون و لما تعملوا بما علمتم، فان العلم اذا لم
يعمل به لم يزدد صاحبه الا كفرا و لم يزدده من الله الا بعدا» . و عن النبي-صلى الله
عليه و آله و سلم-: «من اخذ العلم من اهله و عمل بعلمه نجا، و من اراد به الدنيا
فهى حظه » .

و عنه-صلى الله عليه و آله و سلم-: «العلماء رجلان: رجل عالم اخذ بعلمه فهذا ناج، و
عالم تارك لعلمه فهذا هالك، و ان اهل النار ليتاذون من ريح العالم التارك
لعلمه، و ان اشد اهل النار ندامة و حسرة رجل دعا عبدا الى الله فاستجاب له و قبل
منه، فاطاع الله فادخله الجنة، و ادخل الداعى النار بترك عمله (12) و اتباعه الهوى
و طول الامل، اما اتباع الهوى فيصد عن الحق و طول الامل ينسي الآخرة » .

(و منها) ان يحافظ شرائط الخضوع و الادب للمعلم، و لا يرد عليه شيئا بالمواجهة، و
يكون محبا له بقلبه، و لا ينسى حقوقه، لانه والده المعنوى الروحاني، و هو اعظم الآباء
الثلاثة. قال الصادق عليه السلام: «اطلبوا العلم و تزينوا معه بالحلم و الوقار، و
تواضعوا لمن تعلمونه العلم، و تواضعوا لمن طلبتم منه العلم، و لا تكونوا علماء
جبارين فيذهب باطلكم بحقكم » .

هذا و قد اشرنا سابقا الى ان اللازم لكل متعلم ان يطهر نفسه اولا من رذائل
الاخلاق و ذمائم الاوصاف باسرها، اذ ما لم يجرد لوح نفسه عن النقوش الردية لم
تشرق عليه لمعات انوار العلم و الحكمة من الواح العقول الفعالة القدسية.

(و اما آداب التعليم) :

(فمنها) ان يخلص المعلم تعليمه لله سبحانه و لم يكن له فيه باعث دنيوى من طمع
مالي او جاه و رئاسة او شهرة بين الناس، بل يكون الباعث مجرد التقرب الى الله
تعالى و الوصول الى المثوبات الابدية، فان من علم غيره علما كان شريكا، في
ثواب تعليم هذا الغير لآخر، و في ثواب تعليم هذا الآخر لغيره. . . و هكذا الى غير
النهاية، فيصل بتعليم واحد الى مثوبات التعاليم الغير المتناهية، و كفى بهذا
له فضلا و شرفا.

(و منها) ان يكون مشفقا على المتعلم ناصحا له، مقتصرا في الافادة على قدر فهمه،
متكلما معه باللين و الهشاشة لا بالغلظة و الفظاظة.

(و منها) ان لا يضن العلم من اهله و يمنعه عن غير اهله، لان بذل الحكمة للجهال ظلم
عليها، و منعها عن اهلها ظلم عليهم، كما ورد في الخبر (13) .

(و منها) ان يقول ما يعلم و يسكت عما لا يعلم حتى يرجع اليه و يعلمه، و لا يخبر
المتعلمين ببيان خلاف الواقع. و هذا الشرط لا يختص بالمعلمين، بل يعم كل من تصدر
عنه المسائل العلمية كالمفتى و القاضي و امثالهما. و قال الباقر عليه السلام: «حق
الله على العباد ان يقولوا ما يعلمون و يقفوا عند ما لا يعلمون » (14)

و قال الصادق (ع) : «ان الله تعالى خص عباده بآيتين من كتابه! الا يقولوا حتى
يعلموا و لا يردوا ما لم يعلموا، فقال:

«ا لم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ان لا يقولوا على الله الا الحق » (15) . و قال! «بل
كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما ياتهم تاويله » (16) .

و عنه (ع) ! «اذا سئل الرجل منكم عما لا يعلم، فليقل! لا ادري، و لا يقل: الله اعلم، فيوقع في
قلب صاحبه شكا. و اذا قال المسؤل! لا ادري، فلا يتهمه السائل » . و عنه (ع) : «اياك و
خصلتين ففيهما هلك من هلك اياك ان تفتى الناس برايك، او تدين بما لا تعلم » ، و
عن الباقر (ع)

«من افتى الناس بغير علم و لا هدى لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب و لحقه وزر من
عمل بفتياه » .

و ربما كان لكل من المتعلم و المعلم آداب اخر تظهر لمن وقف على فن الاخلاق. ثم
العارف باهل زماننا يعلم ان آداب التعلم و التعليم كسائر الآداب و الفضائل فيهم
مهجورة، و الامر في مثل الزمان كما قال في وصفه بعض اهل العرفان! «قد فسد الزمان
و اهله، و تصدى للتدريس من قل علمه و كثر جهله، فانحطت مرتبة العلم و اصحابه، و
اندرست مراسمه بين طلابه » .

تتميم


(العلم الالهي و علم الاخلاق و الفقه اشرف العلوم)


العلم كله و ان كان كمالا للنفس و سعادة، الا ان فنونه متفاوتة في الشرافة و
الجمال و وجوب التحصيل و عدمه، فان بعضها كالطب و الهندسة و العروض و الموسيقى
و امثالها، مما ترجع جل فائدته الى الدنيا و لا يحصل بها مزيد بهجة و سعادة في
العقبى، و لذا عدت من علوم الدنيا دون الآخرة، و لا يجب تحصيلها، و ربما وجب
تحصيل بعضها كفاية.

و ما هو علم الآخرة الواجب تحصيله، و اشرف العلوم و احسنها هو العلم الالهي
المعرف لاصول الدين، و علم الاخلاق المعرف لمنجيات النفس و مهلكاتها، و علم الفقه
المعرف لكيفية العبادات و المعاملات، و العلوم التي مقدمات لهذه الثلاثة
كالعربية و المنطق و غيرهما يتصف بالحسن و وجوب التحصيل من باب المقدمة، و هذه
العلوم الثلاثة و ان وجب اخذها اجمالا الا انها في كيفية الاخذ مختلفة! فعلم
الاخلاق يجب اخذه عينا على كل احد على ما بينته الشريعة و اوضحه علماء الاخلاق، و
علم الفقه يجب اخذ بعضه عينا اما بالدليل او التقليد من مجتهد حي، و التارك
للطريقين غير معذور، و لذا ورد الحث الاكيد على التفقه في الدين، قال الصادق (ع) !
«عليكم بالتفقه في دين الله و لا تكونوا اعرابا، فانه من لم يتفقه في دين الله لم
ينظر اليه يوم القيامة و لم يزك له عملا» ، و قال! «ليت السياط على رؤس اصحابي حتى
يتفقهوا في الحلال و الحرام » ، و قال (ع) ! «ان آية الكذاب ان يخبرك خبر السماء و
الارض و المشرق و المغرب، فاذا سالته عن حرام الله و حلاله لم يكن عنده شي ء» .

و اما اصول العقائد فيجب اخذها عينا من الشرع و العقل، و هما متلازمان لا يتخلف
مقتضى احدهما عن مقتضى الآخر، اذ العقل هو حجة الله الواجب امتثاله و الحاكم
العدل الذي تطابق احكامه الواقع و نفس الامر، فلا يرد حكمه، و لولاه لما عرف الشرع،
و لذا ورد! «انه ما ادى العبد فرائض الله حتى عقل عنه، و لا بلغ جميع العابدين في
فضل عبادتهم ما بلغ العاقل » (17) ، فهما متعاضدان و متظاهران، و ما يحكم به احدهما
يحكم به الآخر ايضا، و كيف يكون مقتضى الشرع مخالفا لمقتضى ما هو حجة قاطعة و
احكامه للواقع مطابقة، فالعقل هو الشرع الباطن و النور الداخل، و الشرع هو العقل
الظاهر و النور الخارج، و ما يتراءى في بعض المواضع من التخالف بينهما انما هو
لقصور العقل او لعدم ثبوت ما ينسب الى الشرع منه، فان كل عقل ليس تاما، و كلما
ينسب الى الشرع ليس ثابتا منه، فالمناط هو العقل الصحيح و ما ثبت قطعا من
الشريعة، و اصح العقول و اقواها و امتنها و اصفاها هو عقل صاحب الوحي، و لذا يدرك
بنوريته ما لا سبيل لامثال عقولنا الى دركه، كتفاصيل احوال نشاة الآخرة،
فاللازم في مثله ان ناخذه منه اذعانا و ان لم نعرف ماخذه العقلي.

اصول العقائد المجمع عليها


ثم ما اجمعت الامة المختارة عليه من اصول العقائد هو! ان الواجب سبحانه موجود،
و انه واحد في الالوهية، و بسيط عن شوائب التركيب، و منزه عن الجسمية و عوارضها،
و ان وجوده و صفاته عين ذاته، و انه متقدم على الزمان و المكان و متعال عنهما،
و انه حي قديم ازلي قادر مريد عالم بجميع الاشياء، و علمه بها بعد ايجادها كعلمه
بها قبله، و لا يزداد باحداثها علما، و ان قدرته عامة بالنسبة الى جميع الممكنات، و
انه يخلق ما يشاء و يفعل ما يريد و لا يكون شي ء الا بمشيئته، و انه عدل في حكمه صادق في
وعده، و بالجملة مستجمع لجميع الصفات الكمالية، و ليس كمثله شي ء، و لا يتصور عقل و
لا وهم مثله، بل هو تام فوق التمام.

و ان القرآن كلامه، و محمد-صلى الله عليه و آله و سلم-رسوله، ما اتى به من امور
النشاة الآخرة من الجنة و النار و الحساب و الثواب و العقاب و الصراط و
الميزان و الشفاعة و غير ذلك مما ثبت في شريعته المقدسة حق ثابت، فيجب على كل
مؤمن ان ياخذ بجميع ذلك و يتشبث به و يجرد باطنه له، بحيث لو اورد عليه ما
ينقصه لم يقبله و لم يعرضه شك و ريب.

ثم ان المكلفين مختلفون في كيفية التصديق و الاذعان بالعقائد المذكورة، فبعضهم
فيها على يقين مثل ضوء الشمس، بحيث لو كشف عنهم الغطاء ما ازدادوا يقينا (18) ، و
بعضهم على يقين دون ذلك، و اقل هؤلاء رتبة ان تصل مرتبة يقينهم الى طمانينة لا
اضطراب فيها، و بعضهم على مجرد تصديق ظني يتزلزل من الشبهات و القاء النقيض، و
الى هذا الاختلاف اشار الامام محمد ابن علي الباقر-عليهما السلام-بقوله «ان
المؤمنين على منازل: منهم على واحدة، و منهم على اثنتين، و منهم على ثلاث، و منهم على
اربع، و منهم على خمس، و منهم على ست، و منهم على سبع، فلو ذهبت تحمل على صاحب
الواحدة ثنتين لم يقو، و على صاحب الثنتين ثلاثا لم يقو. . . الى آخره » (19) . و
الامام ابو عبد الله الصادق (ع) بقوله! «ان للايمان حالات و درجات و طبقات و
منازل، فمنه التام المنتهى تمامه، و منه الناقص البين نقصانه، و منه الراجح
الزائد رجحانه »

و لا ريب في ان تحصيل ما يطمئن به القلب في العقائد الواجبة اخذها مما لا بد منه
لكل مكلف، و مجرد التصديق من غير اطمئنان القلب غير كاف للنجاة في الاخرى و
الوصول الى مراتب المؤمنين. و مع حصول الاطمئنان تحصل النجاة و الفوز بالفلاح و
ان لم يكن حصوله من تفاصيل البراهين الحكمية و الدلائل الكلامية، بل كان حاصلا من
دليل اجمالي برهاني او اقناعي، اذ الشرع الشريف لم يكلف باكثر من التصديق و
الجزم بظاهر العقائد المذكورة، و لم يكلف البحث و التفتيش عن كيفياتها و
حقائقها و عن تكلف ترتيب الادلة في نظمها، فلو حصل لاحد طمانينة في اتصاف
الواجب بجميع الصفات الكمالية و براءته عن الصفات السلبية، بمجرد ان عدم
الاتصاف بالاولى و الاتصاف بالثانية نقص لا يليق بذاته الاقدس، كان كافيا في
النجاة و الدخول في زمرة المؤمنين. و كذا اذا حصل له ذلك بمجرد ان هذا مما
اتفق عليه فرق الانبياء و اساطين الحكماء و العلماء، و قوة عقولهم و دقة افهامهم
تابى عن اتفاقهم على محض الخطا. و قس على ذلك غيره مما يفيد الاطمئنان كائنا ما
كان.

قال العلامة «الطوسي » -ره-في بعض تصانيفه! «اقل ما يجب اعتقاده على المكلف هو ما
ترجمة قول لا اله الا الله محمد رسول الله، ثم اذا صدق الرسول ينبغي ان يصدقه في
صفات الله و اليوم الآخر و تعيين الامام المعصوم، كل ذلك مما يشتمل عليه
القرآن من غير مزيد برهان! اما في صفات الله فبانه حي عالم قادر مريد متكلم ليس
كمثله شي ء و هو السميع البصير، و اما في الآخرة فبالايمان بالجنة و النار و
الصراط و الميزان و الحساب و الشفاعة و غيرها، و لا يجب عليه ان يبحث عن حقيقة
الصفات، و ان الكلام و العلم و غيرهما حادث او قديم، بل لو لم تخطر هذه بباله و
مات مات مؤمنا، فان غلب على قلبه شك او اشكال، فان امكن ازالته بكلام قريب من
الافهام و ان لم يكن قويا عند المتكلمين و لا مرضيا فذلك كاف، و لا حاجة الى
تحقيق الدليل، فان الدليل لا يتم الا بذكر الشبهة و الجواب، و مهما ذكرت الشبهة
لا يؤمن ان تتشبث بالخاطر و القلب فيظنها حقة لقصوره عن ادراك جوابها، اذ الشبهة
قد تكون جلية و الجواب دقيقا لا يحتمله عقله، و لذا ورد الزجر عن البحث و التفتيش
في الكلام، و انما زجر ضعفاء العوام، و اما ائمه الدين فلهم الخوض في غمرة
الاشكالات. و منع العوام عن الكلام يجري مجرى منع الصبيان عن شاطى ء دجلة خوفا
من الغرق، و رخصة الاقوياء فيه ايضا هي رخصة الماهر في صنعة السباحة، الا ان ههنا
موضع غرور و منزلة قدم، و هو ان كل ضعيف في عقله يظن انه يقدر على ادراك الحقائق كلها، و
انه من جملة الاقوياء فربما يخوضون و يغرقون في بحر الجهالات من حيث لا يشعرون،
فالصواب منع الخلق كلهم-الا الشاذ النادر الذي لا تسمح الاعصار الا بواحد منهم
او اثنين-من تجاوز سلوك اهل العلم في الايمان المرسل و التصديق المجمل بكل ما
انزل الله و اخبر به رسول الله-صلى الله عليه و آله و سلم- فمن اشتغل بالخوض فيه
فقد اوقع نفسه في شغل شاغل، اذ قال رسول الله -صلى الله عليه و آله و سلم-حين راى
اصحابه يخوضون، بعد ان غضب حتى احمرت و جنتاه! ا فبهذا امرتم؟ تضربون كتاب
الله بعضه ببعض! انظروا فيما امركم الله فافعلوا و ما نهاكم عنه فانتهوا»
فهذا على تنبيه منهج الحق.

ثم لا ريب في ان نورانية اليقين و وضوحه، بل و اطمئنان القلب و سكونه. لا يحصل من
مجرد صنعة الجدل و الكلام، كما لا يحصل من محض التلقين و تقليد العوام. بل (الاول)
-اعني الاستضاءة بنور اليقين-يتوقف على ملازمة الورع و التقوى، و فطام النفس عن
الهوى و ازالة كدرتها و صداها!

«و قد افلح من زكاها» (20) .

و تطهيرها عن ذمائم الصفات و الاشتغال بمشاق الرياضة و المجاهدات، حتى يقذف
في قلبه نور الهي تنكشف به الحجب و الاستار عن حقائق هذه العقائد، و هو غاية مقصد
الطالبين و قرة عيون الصديقين و المقربين و له درجات و مراتب، و الناس فيه
مختلفون بحسب اختلافهم في القوة و الاستعداد و السعي و الاجتهاد، كما هم مختلفون
في ادراك انواع العلوم و الصنائع «و كل ميسر لما خلق له » (21) .

و اما (الثاني) -اعنى مجرد الاعتقاد الجازم الراسخ بظواهر تلك العقائد-فيمكن
ان يحصل بما دون ذلك، بان يشتغل-بعد تلقين هذه العقائد و التصديق بها-بوظائف
الطاعات، و يصرف برهة من وقته في شرائف العبادات، و يواظب على تفسير القرآن و
تلاوته، و درس الحديث و درايته، و يحترز عن مخالطة اولى المذاهب الفاسدة و ذوي
الآراء الباطلة، بل يجتنب كل الاجتناب عن مرافقة ارباب الهوى و اصحاب الشر و
الشقاء، و يختار مصاحبة اهل الورع و اليقين، و مجالسة الاتقياء و الصالحين، و
يلاحظ سيماهم و سيرتهم و هيئاتهم في الخضوع لله و الاستكانة، فيكون التلقين كالقاء
البذر في الصدر، و هذه الامور كالسقي و التربية له، فينمو ذلك البذر بها و
يتقوى و يزداد رسوخا، حتى يرتفع شجرة طيبة راسخة اصلها ثابت و فرعها في السماء.
ثم من وصل الى مقام العقيدة الجازمة ان اشتغل بالشواغل الدنيوية و لم يشتغل
بالرياضة و المجاهدة لم ينكشف له غيره، و لكنه اذا مات مات مؤمنا على الحق و سلم في
الآخرة، و ان اشتغل بتصقيل النفس و ارتياضها انشرح صدره و انفتح له باب الافاضة، و
وصل الى المرتبة الاولى.

انواع الرذائل المتعلقة بالعاقلة


اما الانواع المتعلقة بالعاقلة فمنها:

الجهل المركب


و هو خلو النفس عن العلم و اذعانها بما هو خلاف الواقع، مع اعتقاد كونها عالمة
بما هو الحق، فصاحبه لا يعلم، و لا يعلم انه لا يعلم، و لذا سمى مركبا. و هو اشد
الرذائل و اصعبها، و ازالته في غاية الصعوبة، كما هو ظاهر من حال بعض الطلبة. و قد
اعترف اطباء النفوس بالعجز عن معالجته كما اعترف اطباء الابدان بالعجز
عن معالجة بعض الامراض المزمنة، و لذا قال عيسى-عليه السلام-: «اني لا اعجز عن
معالجة الاكمه و الابرص و اعجز عن معالجة الاحمق » . و السر فيه! انه مع قصور النفس
بهذا الاعتقاد الفاسد لا يتنبه على نقصانها، فلا يتحرك للطلب، فيبقى في الضلالة و
الردى مادام باقيا في دار الدنيا. ثم ان كان المنشا له اعوجاج السليقة فانفع
العلاج له تحريض صاحبه على تعلم العلوم الرياضية من الهندسة و الحساب، فانها
موجبة لاستقامة الذهن لالفه لاجلها باليقينيات فيتنبه على خلل اعتقادها،
فيصير جهلها بسيطا، فينتهض للطلب. و ان كان خطا في الاستدلال، فليوازن
استدلاله لاستدلالات اهل التحقيق و المشهورين باستقامة القريحة، و يعرض ادلة
المطلوب على القواعد الميزانية باحتياط تام و استقصاء بليغ، حتى يظهر خطاه. و
ان كان مانع من عصبية او تقليد او غير ذلك فليجتهد في ازالته.

و منها الشك و الخيرة


و هو من باب رداءة الكيفية و هو عجز النفس عن تحقيق الحق و ابطال الباطل في
المطالب الخفية، و الغالب حصوله من تعارض الادلة، و لا ريب انه مما يهلك النفس و
يفسدها، اذ الشك ينافي اليقين الذي لا يتحقق الايمان بدونه. قال امير
المؤمنين-عليه السلام-في بعض خطبه: «لا ترتابوا فتشكوا و لا تشكوا فتكفروا، و
كان الارتياب في كلامه-عليه السلام-مبدا الشك. و قال الباقر-عليه السلام-: «لا
ينفع مع الشك و الجحود عمل » .

و قال الصادق-عليه السلام-: «ان الشك و المعصية في النار ليس منا و لا الينا» . و
سئل-عليه السلام-عن قول الله تعالى!

«الذين آمنوا و لم يلبسوا ايمانهم بظلم » (22) .

قال: «بشك » . و قال-عليه السلام-: «من شك في الله تعالى بعد مولده على الفطرة لم يفى ء
الى خير ابدا» . و قال-عليه السلام-: «من شك او ظن فاقام على احدهما احبط الله
عمله، ان حجة الله هي الحجة الواضحة » . و قال-عليه السلام-: «من شك في الله تعالى و
في رسوله -صلى الله عليه و آله و سلم-فهو كافر» . و بمضمونه وردت اخبار اخر. و
غير خفي ان المراد بالشك ما يضعف الاعتقاد و يزيل اليقين لا مجرد الوسوسة و حديث
النفس، لما ياتي انه لا ينافي الايمان، بل الظاهر من بعض الاخبار ان ايجاب الشك
للكفر اذا انجر الى الجحود، كما روي ان ابا بصير سال الصادق-عليه السلام-ما
تقول فيمن شك في الله تعالى؟ قال: «كافر» ، قال: فشك في رسول الله-صلى الله عليه و
آله و سلم-؟ قال «كافر» ، ثم التفت الى زرارة فقال: «انما يكفر اذا جحد» .

ثم علاجه ان يتذكر اولا قضية بديهية، هي: ان النقيضين لا يجتمعان و لا يرتفعان، و
منه يعلم اجمالا ان احد الشقوق العقلية المتصورة في المطلوب ثابت في الواقع و نفس
الامر و البواقي باطلة، ثم يتصفح المقدمات المناسبة للمطلوب و يعرضها على الاقيسة
المنطقية باستقصاء بليغ و احتياط تام في كل طرف، حتى يقف على موضع الخطا و
يجزم بحقية احد الشقوق و بطلان الآخر. و الغرض من وضع المنطق (لا) سيما مباحث
القياسات السوفسطائية المشتملة على المغالطات ازالة هذا المرض. و لو كان
ممن لا يقتدر على ذلك، فالعلاج في حقه ان يواظب على العبادة و قرآءة القرآن، و
يشتغل بمطالعة الاحاديث و سماعها من اهلها، و يجالس الصلحاء و المتقين و
اصحاب الورع و اهل اليقين، لتكتسب نفسه بذلك نورانية يدفع بها ظلمة شكه.

وصل


اليقين


قد عرفت: ان ضد الجهل المركب و الحيرة و الشك هو (اليقين) ، و اول مراتبه
اعتقاد ثابت جازم مطابق للواقع غير زائل بشبهة و ان قويت، فالاعتقاد الذي لا
يطابق الواقع ليس يقينا، و ان جزم به صاحبه و اعتقد مطابقته للواقع، بل هو-كما
اشير اليه-جهل مركب ينشا عن اعوجاج القريحة، او خطا في الاستدلال، او حصول مانع
من افاضة الحق كتقليد او عصبية او غير ذلك. فاليقين من حيث اعتبار الجزم
فيه يكون ضد الحيرة و الشك، و من حيث اعتبار المطابقة للواقع فيه يكون ضدا للجهل
المركب.

ثم العلم ان لم يعتبر فيه المطابقة للواقع ففرقه عن اليقين ظاهر، و الا
فيتساويان و يتشاركان في المراتب المثبتة لليقين.

هذا و متعلق اليقين اما اجزاء الايمان و لوازمه، من وجود الواجب و صفاته
الكمالية و سائر المباحث الالهية من النبوة و احوال النشاة الآخرة، او غيرها من
حقائق الاشياء التي لا يتم الايمان بدونها. و لا ريب في ان مطلق اليقين اقوى
اسباب السعادة، و ان كان اليقين في المباحث الالهية ادخل في تكميل النفس و
تحصيل السعادة الاخروية، لتوقف الايمان عليه، بل هو اصله و ركنه، و غيره من
المراتب فرعه و غصنه، و النجاة في الآخرة لا تحصل الا به، و الفاقد له خارج عن
زمرة المؤمنين داخل في حزب الكافرين.

و بالجملة: اليقين اشرف الفضائل الخلقية و اهمها، و افضل الكمالات النفسية و
اعظمها، و هو الكبريت الاحمر الذي لا يظفر به الا او حدي من اعاظم العرفاء او
المعي من اكابر الحكماء. و من وصل اليه فاز بالرتبة القصوى و السعادة العظمى.
قال سيد الرسل-صلى الله عليه و آله و سلم-: «اقل ما اوتيتم اليقين و عزيمة الصبر، و
من اوتي حظه منهما لم يبال ما فاته من صيام النهار و قيام الليل » ، و قال-صلى
الله عليه و آله و سلم-: «اليقين الايمان كله » و قال-صلى الله عليه و آله و سلم-: ما
آدمي الا و له ذنوب، و لكن من كانت غريزته العقل و سجيته اليقين لم تضره الذنوب،
لانه كلما اذنب ذنبا تاب و استغفر و ندم فتكفر ذنوبه و يبقى له فضل يدخل به
الجنة » . و قال الصادق-عليه السلام-! «ان العمل الدائم القليل على اليقين افضل عند
الله تعالى من العمل الكثير على غير يقين » ، و عنه عليه السلام-! ان الله تعالى
بعدله و قسطه جعل الروح و الراحة في اليقين و الرضا، و جعل الهم و الحزن في الشك و
السخط » . و في وصية لقمان لابنه: «يا بنى! لا يستطاع العمل الا باليقين، و لا يعمل
المرء الا بقدر يقينه، و لا يقصر عامل حتى ينقص يقينه » .

علامات صاحب اليقين


ثم لصاحب اليقين علامات!

(منها) الا يلتفت في اموره الى غير الله سبحانه. و لا يكون اتكاله في مقاصده الا
عليه، و لا ثقته في مطالبه الا به. فيتبرى عن كل حول و قوة سوى حول الله و قوته، و
لا يرى لنفسه و لا لابناء جنسه قدرة على شي ء و لا منشاية لاثر. و يعلم ان ما يرد عليه منه
تعالى و ما قدر له و عليه من الخير و الشر سيساق اليه ا فتستوي عنده حالة الوجود
و العدم. و الزيادة و النقصان و المدح و الذم. و الفقر و الغنى. و الصحة و المرض. و
العز و الذل. و لم يكن له خوف و رجاء الا منه تعالى. و السر فيه: انه يرى الاشياء
كلها من عين واحدة هو مسبب الاسباب. و لا يلتفت الى الوسائط، بل يراها مسخرة
تحت حكمه قال الامام ابو عبد الله-عليه السلام-! «من ضعف يقينه تعلق بالاسباب، و
رخص لنفسه بذلك، و اتبع العادات و اقاويل الناس بغير حقيقة، و السعي في امور
الدنيا و جمعها و امساكها، مقرا باللسان انه لا مانع و لا معطي الا الله، و ان
العبد لا يصيب الا ما رزق و قسم له، و الجهد لا يزيد في الرزق، و ينكر ذلك بفعله و قلبه،
قال الله سبحانه:

«يقولون بافواههم ما ليس في قلوبهم و الله اعلم بما يكتمون » (23) .

و قال-عليه السلام-! «ليس شي ء الا و له حد» قيل! فما حد التوكل؟ قال! «اليقين » ، قيل!
فما حد اليقين؟ قال! «الا تخاف مع الله شيئا» . و عنه-عليه السلام-! «من صحة يقين
المرء المسلم الا يرضى الناس بسخط الله و لا يلومهم على ما لم يؤته الله فان
الرزق لا يسوقه حرص حريص و لا ترده كراهية كاره، و لو ان احدكم فر من رزقه كما يفر
من الموت لادركه رزقه كما يدركه الموت » .

(و منها) ان يكون في جميع الاحوال خاضعا لله سبحانه. خاشعا منه، قائما بوظائف
خدمته في السر و العلن، مواظبا على امتثال ما اعطته الشريعة من الفرائض و
السنن، متوجها بشراشره اليه، متخضعا متذللا بين يديه، معرضا عن جميع ما عداه،
مفرغا قلبه عما سواء، منصرفا بفكره الى جناب قدسه، مستغرقا في لجة حبه و انسه، و
السر ان صاحب اليقين عارف بالله و عظمته و قدرته، و بان الله تعالى مشاهد
لاعماله و افعاله، مطلع على خفايا ضميره و هو اجس خاطره، و ان:

«من يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره » (24) .

فيكون دائما في مقام الشهود لديه و الحضور بين يديه، فلا ينفك لحظة عن الحياء و
الخجل و الاشتغال بوظائف الادب و الخدمة، و يكون سعيه في تخلية باطنه عن الرذائل و
تحليته بالفضائل لعين الله الكالئة اشد من تزيين ظاهره لابناء نوعه.

و بالجملة: من يقينه بمشاهدته تعالى لاعماله الباطنة و الظاهرة و بالجزاء و
الحساب، يكون ابدا في مقام امتثال اوامره و اجتناب نواهيه.

و من يقينه بما فعل الله في حقه من اعطاء ضروب النعم و الاحسان، يكون دائما في
مقام الانفعال و الخجل و الشكر لمنعمه الحقيقي.

و من يقينه بما يعطيه المؤمنين في الدار الآخرة من البهجة و السرور، و ما اعده
لخلص عبيده مما لا عين رات و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب احد، يكون دائما في مقام
الطمع و الرجاء.

و من يقينه باستناد جميع الامور اليه سبحانه، و بان صدور ما يصدر في العالم
انما يكون بالحكمة و المصلحة و العناية الازلية الراجعة الى نظام الخير، يكون ابدا
في مقام الصبر و التسليم و الرضا بالقضاء من دون عروض تغير و تفاوت في حاله.

و من يقينه بكون الموت داهية من الدواهي العظمى و ما بعده اشد و ادهى، يكون ابدا
محزونا مهموما.

و من يقينه بخساسة الدنيا و فنائها، لا يركن اليها. قال الصادق-عليه السلام-في
الكنز الذي قال الله تعالى:

«و كان تحته كنز لهما» (25) :

«بسم الله الرحمن الرحيم: عجبت لمن ايقن بالموت كيف يفرح، و عجبت لمن ايقن
بالقدر كيف يحزن، و عجبت لمن ايقن بالدنيا و تقلبها باهلها كيف يركن اليها» .

و من يقينه بعظمة الله الباهرة و قوته القاهرة، يكون دائما في مقام الهيبة و
الدهشة. و قد ورد ان سيد الرسل-صلى الله عليه و آله و سلم-كان من شدة خضوعه و خشوعه لله
تعالى و خشيته منه تعالى بحيث اذا كان يمشي يظن انه يسقط على الارض.

و من يقينه بكمالاته الغير المتناهية و كونه فوق التمام، يكون دائما في مقام
الشوق و الوله و الحب. و حكايات اصحاب اليقين من الانبياء و المرسلين و
الاولياء و الكاملين في الخوف و الشوق و ما يعتريهم من الاضطراب و التغير و
التلون و امثال ذلك في الصلاة و غيرها مشهورة، و في كتب التواريخ و السير
مسطورة، و كذا ما ياخذهم من الوله و الاستغراق و الابتهاج و الانبساط بالله
سبحانه. و حكاية حصول تكرر الغشيات لمولانا امير المؤمنين-عليه السلام- في
اوقات الخلوات و المناجاة و غفلته عن نفسه في الصلوات مما تواتر عند الخاصة و
العامة. و كيف يتصور لصاحب اليقين الواقعي بالله و بعظمته و جلاله و باطلاعه
تعالى على دقائق احواله، ان يعصيه في حضوره و لا يحصل له الانفعال و الخشية و الدهشة و
حضور القلب و التوجه التام اليه عند القيام لديه و المثول بين يديه، مع انا
نرى ان الحاضر عند من له ادنى شوكة مجازية من الملوك و الامراء مع رذالته و
خساسته اولا و آخرا يحصل له من الانفعال و الدهشة و التوجه اليه بحيث يغفل عن
ذاته.

(و منها) ان يكون مستجاب الدعوات، بل له الكرامات و خرق العادات. و السر فيه
ان النفس كلما ازدادت يقينا ازدادت تجردا، فتحصل لها ملكة التصرف في موارد
الكائنات. قال الامام ابو عبد الصادق-عليه السلام-: اليقين يوصل العبد الى كل
حال سني و مقام عجيب، كذلك اخبر رسول الله-صلى الله عليه و آله-من عظم شان
اليقين حين ذكر عنده ان عيسى بن مريم-عليه السلام-كان يمشي على الماء، فقال: لو
زاد يقينه لمشى في الهوى » . فهذا الخبر دل على ان الكرامات تزداد بازدياد
اليقين، و ان الانبياء مع جلالة محلهم من الله متفاوتون في قوة اليقين و ضعفه.

مراتب اليقين


و قد ظهر مما ذكر: ان اليقين جامع جميع الفضائل و لا ينفك عن شي ء منها، ثم له مراتب:
(اولها) علم اليقين، و هو اعتقاد ثابت جازم مطابق للواقع-كما مر-و هو يحصل من
الاستدلال باللوازم و الملزومات، و مثاله اليقين بوجود النار من مشاهدة
الدخان. (و ثانيها) عين اليقين، و هو مشاهدة المطلوب و رؤيته بعين البصيرة و
الباطن، و هو اقوى في الوضوح و الجلاء من المشاهدة بالبصر، و الى هذه المرتبة
اشار امير المؤمنين (ع) بقوله! «لم اعبد ربا لم اره » بعد سؤال ذعلب اليماني
عنه-عليه السلام-! ا رايت ربك؟

و بقوله-عليه السلام-: «راى قلبي ربي » . و هو انما يحصل من الرياضة و التصفية و
حصول التجرد التام للنفس، و مثاله اليقين بوجود النار عند رؤيتها عيانا، و
(ثالثها) حق اليقين، و هو ان تحصل وحدة معنوية و ربط حقيقي بين العاقل و المعقول،
بحيث يرى العاقل ذاته رشحة من المعقول و مرتبطا به غير منفك عنه، و يشاهد دائما
ببصيرته الباطنية فيضان الانوار و الآثار منه اليه، و مثاله اليقين بوجود
النار بالدخول فيها من غير احتراق. و هذا انما يكون لكمل العارفين بالله
المستغرقين في لجة حبه و انسه، المشاهدين ذواتهم بل سائر الموجودات من
رشحات فيضه الاقدس، و هم الصديقون الذين قصروا ابصارهم الباطنة على ملاحظة
جماله و مشاهدة انوار جلاله. و حصول هذه المرتبة يتوقف على مجاهدات شاقة و
رياضيات قوية، و ترك رسوم العادات و قطع اصول الشهوات، و قلع الخواطر النفسانية و
قمع الهواجس الشيطانية، و الطهارة عن ادناس جيفة الطبيعة، و التنزه عن زخارف
الدنيا الدنية، و بدون ذلك لا يحصل هذا النوع من اليقين و المشاهدة:

و كيف ترى ليلى بعين ترى بها
سواها و ما طهرتها بالمدامع

ثم فوق ذلك مرتبة يثبتها بعض اهل السلوك و يعبرون عنه (بحقيقة حق اليقين و الفناء
في الله، و هو ان يرى العارف ذاته مضمحلا في انوار الله محترقا من سبحات
وجهه، بحيث لا يرى استقلالا و لا تحصيلا اصلا، و مثاله اليقين بوجود النار بدخوله
فيها و احتراقه منها.

ثم لا ريب في ان اليقين الحقيقي النوراني المبرى عن ظلمات الاوهام و الشكوك و
لو كان من المرتبة الاولى لا يحصل من مجرد الفكر و الاستدلال، بل يتوقف حصوله على
الرياضة و المجاهدة و تصقيل النفس و تصفيتها عن كدورات ذمائم الاخلاق و صداها،
ليحصل لها التجرد التام فتحاذي شطر العقل الفعال، فتتضح فيها جلية الحق حق
الاتضاح. و السر ان النفس بمنزلة المرآة تنعكس اليها صور الموجودات من العقل
الفعال، و لا ريب في ان انعكاس الصور من ذوات الصور الى المرآة يتوقف على
تمامية شكلها و صقالة جوهرها و حصول المقابلة و ارتفاع الحائل بينهما و الظفر
بالجهة التي فيها الصور المطلوبة، فيجب في انعكاس حقائق الاشياء من العقل الى
النفس: -1-عدم نقصان جوهرها، فلا يكون كنفس الصبي التي لا تنجلي لها المعلومات
لنقصانها -2-و صفاؤها عن كدورات ظلمة الطبيعة و اخباث المعاصي، و نقاؤها عن
رسوم العادات و خبائث الشهوات. و هو بمنزلة الصقالة عن الخبث و الصدا -3-و
توجهها التام و انصراف فكرها الى المطلوب، فلا يكون مستوعب الهم بالامور
الدنيوية و اسباب المعيشة و غيرهما من الخواطر المشوشة لها، و هو بمنزلة
المحاذاة-4-و تخليتها عن التعصب و التقليد. و هو بمثابة ارتفاع الحجب-5-و
استحصال المطلوب من تاليف مقدمات مناسبة للمطلوب على الترتيب المخصوص و
الشرائط المقررة، و هو بمنزلة العثور على الجهة التى فيها الصورة.

و لولا هذه الاسباب المانعة للنفوس عن افاضة الحقائق اليقينية اليها، لكانت عالمة
بجميع الاشياء المرتسمة في العقول الفعالة، اذ كل نفس لكونها امرا ربانيا و
جوهرا ملكوتيا فهي بحسب الفطرة صالحة لمعرفة الحقائق، و لذا امتازت عن سائر
المخلوقات من السماوات و الارض و الجبال، و صارت قابلة لحمل امانة الله (26)
التي هي المعرفة و التوحيد، فحرمان النفس عن معرفة اعيان الموجودات انما هو
لاحد هذه الموانع، و قد اشار سيد الرسل-صلى الله عليه و آله و سلم-الى مانع التعصب و
التقليد بقوله-صلى الله عليه و آله و سلم- «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون ابواه
يهودانه و يمجسانه (27)

و ينصرانه » ، و الى مانع كدورات المعاصى و صداها بقوله-صلى الله عليه و آله و سلم-:
«لو لا ان الشياطين يحومون على قلوب بنى آدم لنظروا الى ملكوت السماوات و
الارض » . فلو ارتفعت عن النفس حجب السيئات و التعصب و حاذت شطر الحق الاول
تجلت لها صورة عالم الملك و الشهادة باسره، اذ هو متناه يمكن لها الاحاطة به، و
صورة عالمى الملكوت و الجبروت بقدر ما يتمكن منه بحسب مرتبته، لانهما
الاسرار الغائبة عن مشاهدة الابصار المختصة بادراك البصائر، و هي غير متناهية، و
ما يلوح منها للنفس متناه، و ان كانت فى نفسها و بالاضافة الى علم الله سبحانه و
غير متناهية، و مجموع تلك العوالم يسمى ب (العالم الربوبى) ، اذ كل ما في
الوجود من البداية الى النهاية منسوب الى الله سبحانه، و ليس في الوجود سوى
الله سبحانه و افعاله و آثاره، فالعالم الربوبى و الحضرة الربوبية هو
العالم المحيط بكل الموجودات، فعدم تناهية ظاهر بين، فلا يمكن للنفس ان تحيط
بكله، بل يظهر لها منه بقدر قوتها و استعدادها. ثم بقدر ما يحصل للنفس من التصفية و
التزكية و ما يتجلى لها من الحقائق و الاسرار، و من معرفة عظمة الله و معرفة
صفات جلاله و نعوت جماله تحصل لها السعادة و البهجة و اللذة و النعمة في نعيم
الجنة، و تكون سعة مملكته فيها بحسب سعة معرفته بالله و بعظمته و بصفاته و افعاله،
و كل منها لا نهاية له. و لذا لا تستقر النفس في مقام من المعرفة. و البهجة و
الكمال و التفوق و الغلبة تكون غاية طلبتها، و لا تكون طالبة لما فوقها.

و ما اعتقده جماعة من ان ما يحصل للنفس من المعارف الالهية و الفضائل الخلقية هي
الجنة بعينها فهو عندنا باطل، بل هي موجبة لاستحقاق الجنة التي هي دار السرور و
البهجة.

و منها:

الشرك


و هو ان يرى في الوجود مؤثرا غير الله سبحانه، فان عبد هذا الغير -سواء كان
صنما او كوكبا او انسانا او شيطانا-كان شرك عبادة، و ان لم يعبده و لكن
لاعتقاد كونه منشا اثر اطاعه فيما لا يرضي الله فهو شرك طاعة و الاول يسمى
بالشرك الجلى، و الثاني يسمى بالشرك الخفي، و اليه الاشارة بقوله تعالى:

«و ما يؤمن اكثرهم بالله الا و هم مشركون » (28)

و كون الشرك اعظم الكبائر الموبقة و موجبا لخلود النار مما لا ريب فيه، و قد انعقد
عليه اجماع الامة، و الآيات و الاخبار الواردة به خارجة عن حد الاحصاء.

ثم للشرك مراتب تظهر في بحث ضده الذى هو التوحيد، و الشرك و ان كان شعبة من الجهل،
كما ان التوحيد الذى هو ضده من افراد اليقين و العلم فذكرهما على حدة لم يكن
لازما هنا، الا انه لما كان المتعارف ذكر التوحيد في كتب الاخلاق. فنحن ايضا
ذكرنا له عنوانا على حدة تاسيا بها، و اشرنا الى لمعة يسيرة منه، اذ الاستقصاء
فيه و الخوض في غمراته مما ليس في وسعنا و لا يليق هنا، فان التوحيد هو البحر
الخصم الذى لا ساحل له.

وصل


(التوحيد في الفعل)


ضد الشرك (التوحيد) ، و هو اما توحيد في اصل الذات بمعنى عدم تركيب خارجي و عقلي في
ذاته تعالى و عينية وجوده و صفاته لذاته، و يلزمه كونه تعالى صرف الوجود و
بحته، او توحيد في وجوب وجوده بمعنى نفي الشرك في وجوب الوجود عنه (و لا بحث لنا هنا
عن اثبات هذين القسمين، لثبوتهما في الحكمة المتعالية) ، او توحيد في الفعل و
التاثير و الايجاد، بمعنى ان لا فاعل و لا مؤثر الا هو، و هو الذي نذكر هنا
مراتبه و ما يتعلق به فنقول:

هذا التوحيد-على ما قيل-له اربع مراتب: قشر: و قشر القشر، و لب و لب اللب كالجوز
الذى له قشرتان و له لب، و اللب دهن و هو لب اللب.

(فالمرتبة الاولى) ان يقول الانسان باللسان: لا اله الا الله، و قلبه منكر و غافل
عنه، كتوحيد المنافقين، و هذا توحيد بمجرد اللسان و لا فائدة فيه الا حفظ صاحبه
في الدنيا من السيف و السنان. (الثانية) ان يصدق بمعنى اللفظ قلبه، كما هو شان
عموم المسلمين، و هو اعتقاد العوام و صاحبه موحد، بمعنى انه معتقد بقلبه خال
عن التكذيب بما انعقد عليه قلبه. و هو عقد على القلب لا يوجب انشراحا و انفتاحا و
صفاء له، و لكنه يحفظ صاحبه عن العذاب في الآخرة ان مات عليه و لم يضعف بالمعاصي.
(الثالثة) ان يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق، و ذلك بان يرى اشياء
كثيرة و لكن يراها بكثرتها صادرة عن الواحد الحق، و هو مقام المقربين و
صاحبه موحد بمعنى انه لا يشاهد الا فاعلا و مؤثرا واحدا، لانه انكشف له الحق كما
هو عليه. (الرابعة) الا يرى في الوجود الا واحدا، و يسميه اهل المعرفة الفناء في
التوحيد، لانه من حيث لا يرى الا واحدا فلا يرى نفسه ايضا، و اذا لم ير نفسه،
لكونه مستغرقا بالواحد كان فانيا عن نفسه في توحيده، بمعنى انه فنى عن رؤية
نفسه، و هو مشاهدة الصديقين، وصاحبه موحد بمعنى انه لم يحضر في شهوده غير الواحد،
فلا يرى الكل من حيث انه كثير بل من حيث انه واحد. و هذا هي الغاية القصوى في
التوحيد.

فالمرتبة الاولى: كالقشرة العليا من الجوز، و كما ان هذه القشرة لا خير فيها
اصلا، بل ان اكلتها فهي مر المذاق، و ان نظرت الى باطنها فهو كريه المنظر، و ان
اتخذتها حطبا اطفات النار و اكثرت الدخان، و ان تركتها في البيت ضيقت
المكان، فلا تصلح الا ان تترك مدة على الجوز لحفظ القشرة السفلى، ثم ترمى، فكذلك
التوحيد بمجرد اللسان عديم الجدوى كثير الضرر مذموم الظاهر و الباطن، لكن
ينفع مدة في حفظ المرتبة الثانية الى وقت الموت، و المرتبة الثانية: كالقشرة
السفلى، فكما ان هذه القشرة ظاهرة النفع بالاضافة الى القشرة العليا، فانها تصون
اللب عن الفساد عند الادخار، و اذا فصلت امكن ان ينتفع بها حطبا، لكنها نازلة
القدر بالاضافة الى اللب، فكذلك مجرد الاعتقاد من غير كشف كثير النفع بالنسبة
الى مجرد نطق اللسان، اذ تحصل به النجاة في الآخرة، لكنه ناقص القدر بالاضافة الى
الكشف و العيان الذى يحصل بانشراح الصدر و انفتاحه باشراق نور الحق فيه. و
المرتبة الثالثة: كاللب، و كما ان اللب نفيس في نفسه بالاضافة الى القشر و كانه
المقصود لكنه لا يخلو عن شوب عصارة بالاضافة الى الدهن منه فكذلك توحيد الفعل على
طريق الكشف مقصد عال للسالكين، الا انه لا يخلو عن شوب ملاحظة الغير و الالتفات
الى الكثرة بالاضافة الى من لا يشاهد سوى الواحد الحق، و المرتبة الرابعة:
كالدهن المستخرج من اللب، و كما ان اللب هو المطلوب لذاته و المرغوب في نفسه.
فكذلك قصر النظر على مشاهدة الحق الاول هو المقصود لذاته و المحبوب في نفسه.

[تنبيه]ان قيل: كيف يمكن تحقيق المرتبة الرابعة من التوحيد لتوقفها على عدم
مشاهدة غير الواحد، مع ان كل احد يشاهد الارض و السماء و سائر الاجسام المحسوسة و
هي كثيرة، فكيف يكون الكثير واحدا؟

(قلنا) : من تيقن ان الممكنات باسرها اعدام صرفة في نفسها، و ان ما به تحققها من
الله سبحانه، ثم احاط على قلبه نور عظمته و جلاله بحيث بهره و غلب على قلبه الحب و
الانس حتى عن غيره اغفله، فاى استبعاد في ان يوجب شدة استغراقه في لجة العظمة و
الجلال و الكمال و الجمال و غلبة الحب و الانس عليه، مع عدمية الكثرة و وحدة ما
به التحقق عنده و رسوخ ذلك، و ارتكازه في قلبه ان لا يرى في نظر شهوده الا هو، و يغيب
عنه غيره، لقصر نظر بصيرته الباطنة على ما هو الحقيقة و الواقع. و مما يكسر سورة
استبعادك:

ان المشغول بالسلطان و المستغرق في ملاحظة سطوته ربما غفل عن مشاهدة غيره، و ان
العاشق قد يستغرق في مشاهدة جمال معشوقة و يبهره حبه بحيث لا يرى غيره، مع تحقق
الكثرة عنده، و ان الكواكب موجودة في النهار مع انها لا ترى لمغلوبية انوارها و
اضمحلالها في جنب نور الشمس، فاذا جاز ان يغلب نور الشمس على نور الكواكب و
يقهرها بحيث يضمحل و يغيب عن بصر الظاهر، فاى استبعاد في ان يغلب نور الوجود
الحقيقى القاهر على الموجودات الضعيفة الامكانية و يقهرها، بحيث يغيب عن نظر العقل
و البصيرة ثم هذه المشاهدات التى لا يظهر فيها الا الله الواحد الحق لا تدوم،
بل هي كالبرق الخاطف و الدوام فيها عزيز نادر.

فصل


(ابتناء التوكل على حصر المؤثر في الله تعالى)


اعلم: انه لا يمكن التوكل على الله تعالى في الامور حق التوكل الا بالبلوغ الى
المرتبة الثالثة من التوحيد، و هي التى يرتبط بها التوكل دون غيرها من
المراتب، اذ المرتبة الرابعة لا يتوقف و لا يبتني عليها التوكل، و الاولى
مجرد نفاق لا يفيد شيئا-و الثانية-اعنى مجرد التوحيد بالاعتقاد-لا يورث حال
توكل كما ينبغي، فانه موجود في عموم المسلمين مع عدم وجود التوكل كما ينبغي
فيهم.

فالمناط في التوكل هو ثالث المراتب في التوحيد، و هو ان ينكشف للعبد بنور الحق
ان لا فاعل الا الله، و ان كل موجود: من خلق و رزق و عطاء و منع و غنى و فقر، و صحة و مرض،
و عز و ذل، و حياة و موت. . . الى غير ذلك مما يطلق عليه اسم، فالمتفرد بابداعه و
اختراعه هو الله تعالى لا شريك له فيه، و اذا انكشف له هذا لم ينظر الى غيره، بل
كان منه خوفه واليه رجاؤه، و به ثقته و عليه اتكاله، فانه الفاعل بالانفراد دون
غيره، و ما سواه مسخرون لا استقلال لهم بتحريك ذرة في ملكوت السماوات و الارض و
اذا انفتح له ابواب المعارف اتضح له هذا اتضاحا اتم من المشاهدة بالبصر، و
انما يصده الشيطان عن هذا التوحيد، و يوقع في قلبه شائبة الشرك بالالتفات الى
بعض الوسائط التى يتراءى في بادى النظر منشئيتها لبعض الامور، كالاعتماد على
الغيم في نزول المطر، و على المطر في خروج الزرع و نباته و نمائه، و على الريح في
استواء السفينة و سيرها، و على بعض نظرات الكواكب و اتصالاتها في حدوث بعض
الحوادث في الارض، و كالالتفات الى اختيار بعض الحيوانات و قدرتها على بعض
الافعال، فيوسوس الشيطان في قلبه و يقول له: كيف ترى الكل من الله تعالى، و هذا
الانسان يعطيك رزقك باختياره فان شاء اعطاك و ان شاء منع، و هذا الشخص قادر على جز
رقبتك بسيفه فان شاء جز رقبتك و ان شاء عفى عنك، فكيف لاتخافه و لا ترجوه و امرك
بيده، و انت تشاهد ذلك و لا تشك فيه؟ !

و لا ريب في ان امثال هذه الالتفاتات جهل بحقائق الامور، و من مكن الشيطان و
سلطه على نفسه حتى يوقع هذه الوساوس في قلبه فهو من الجاهلين بابواب المعارف،
اذ من انكشف له امر العالم كما هو عليه، علم ان السماء و الكواكب و الريح و
الغيم و المطر و الانسان و الحيوان. . . و غير ذلك من المخلوقات كلهم مقهورون
مسخرون للواحد الحق الذى لا شريك له، فيعلم ان الريح مثلا هواء، و الهواء لا يتحرك
بنفسه ما لم يحركه محرك، و هذا المحرك لا يحرك الهواء ما لم يحركه على التحريك
محرك آخر. . . و هكذا الى ان ينتهى الى المحرك الاول الذى لا محرك له و لا هو متحرك
في نفسه. و كذا الحال في توسط غيره من الافلاك و نجومها، و كائنات الجو، و
الموجودات على الارض من الجماد و النبات و الحيوان.

فالتفات العبد في نجاته الى بعض الاشياء من الرياح و الامطار او الانسان
او الحيوان يضاهى التفاوت من اخذ لتجز رقبته، فامر الملك كاتبه بان يكتب
توقيعا بالعفو عنه و تخليته، فاخذ العبد يشتغل بمدح الحبر او الكاغد او القلم او
الكاتب، و يقول: لو لا الخبر او القلم او الكاغذ او الكاتب ما تخلصت، فيرى
نجاته من الحبر و الكاغذ دون القلم او من القلم دون محركه -اعني الكاتب-او من
الكاتب دون الملك الذي هو محرك الكاتب و مسخره.

و من علم ان القلم لا حكم له في نفسه و انما هو مسخر في يد الكاتب، و ان الكاتب لا
حكم له و انما هو مسخر تحت يد الملك، لم يلتفت الى القلم و الكاتب و لم يشكر الا
الملك، بل ربما يدهشه فرح النجاة و شكر الملك عن ان يخطر بباله الكاغد و الحبر و
القلم و الكاتب. و لا ريب في ان جميع المخلوقات من الشمس و القمر و النجوم و
الغيم و المطر و الارض و كل حيوان او جماد مسخرات في قبضة القدرة، كتسخير القلم
في يد الكاتب و تسخير الكاتب في يد السلطان بل هذا تمثيل في حق العبد لاعتقاده
ان الملك الموقع هو الكاتب حقيقة، و ليس الامر كذلك، اذ الحق ان الكاتب هو الله
سبحانه كما قال تعالى.

«و ما رميت اذ رميت و لكن الله رمى » (29)

فمن انكشف له ان جميع ما في السماوات و الارض مسخرات للواجب الحق، لم ير في
الوجود مؤثرا الا هو، و انصرف عنه الشيطان خائبا، و ايس عن مزج توحيده بهذا
الشرك.

و اما من لم ينشرح بنور الله صدره، قصرت بصيرته عن ملاحظة جبار السماوات و
الارض و مشاهدة كونه وراء الكل، فوقف في الطريق على بعض المسخرات، و هو جهل محض.
و غلطه في ذلك كغلط النملة مثلا لو كانت تدب على الكاغد فترى راس القلم يسود الكاغد،
و لم يمتد بصرها الى الاصابع و اليد، فضلا عن صاحب اليد، و ظنت ان القلم هو
المسود للبياض، و ذلك لقصور بصرها عن مجاوزة راس القلم لضيق حدقتها.

فصل


(مناجاة السر لارباب القلوب)


قال بعض العارفين (30) : ارباب القلوب و المشاهدات قد انطلق الله في حقهم كل ذرة في
الارض و السماوات بقدرته التي انطق بها كل شى ء، حتى سمعوا تقديسها و تسبيحها و
شهادتها على نفسها بالعجز، بلسان الواقع الذى هو ليس بعربي و لا اعجمي و ليس فيه
حرف و صوت، و لا يسمعه احد الا بالسمع العقلى الملكوتى دون السمع الظاهر الحسى
الناسوتى، و هذا النطق الذى لكل ذرة من الارض و السماوات مع ارباب القلوب
انما هو (مناجاة السر) ، و ذلك مما لا ينحصر و لا يتناهى، فانها كلمات تستعد (31)
من بحر كلام الله الذى لا نهاية له:

«قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحرقبل ان تنفد كلمات ربي و لو جئنا
بمثله مددا» (32) .

ثم انها لما كانت مناجية باسرار الملك و الملكوت، و ليس كل احد موضعا للسر، بل
صدور الاحرار قبور الاسرار، فاختصت مناجاتها بالاحرار من ارباب القلوب. و
هم ايضا لا يحكون هذه الاسرار لغيرهم، اذ افشاء السر لؤم و هل رايت قط امينا
على اسرار الملك قد نوجى بخفاياه فينادى بها على الملا من الخلق، و لو جاز افشاء
كل سر لما نهى النبي-صلى الله عليه و آله و سلم-عن افشاء سر القدر، و لما خص امير
المؤمنين (ع) ببعض الاسرار، و لما قال-صلى الله عليه و آله و سلم-: «لو تعلمون ما
اعلم لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا» بل كان يذكر لهم ذلك حتى يبكون و لا يضحكون.

فاذن عن حكايات مناجاة ذرات الملك و الملكوت لقلوب ارباب المشاهدة مانعان:
(احدهما) المنع عن افشاء السر، (ثانيهما) خروج كلماتها عن الحصر و النهاية. و
نحن نحكي في فعل الكتابة قدرا يسيرا من مناجاة بعض ما يرى اسبابا و وسائط، و
اقرارها بالعجز على انفسها، ليقاس عليه جميع الافعال الصادرة عن جميع
الاسباب و الوسائط المسخرة تحت قدرة الله، و يفهم به على الاجمال كيفية ابتناء
التوكل عليه، و نرد لضرورة التفهم كلماتها الملكوتية الى الحروف و الاصوات،
و ان لم تكن اصواتا و حروفا، فنقول:

قال بعض الناظرين عن مشكاة نور الله للكاغد، و قد راى وجهه اسود بالحبر: «لم سودت
وجهك و قد كان ابيض مشرقا؟ » .

فقال: «ما سودت وجهي، و انما سوده الحبر، فاساله لم فعل كذا؟ » .

فسال الحبر عن ذلك، فقال: «هذا السؤال على القلم الذى اخرجنى من مستقرى ظلما»
.

فسال القلم، فاحاله الى اليد و الاصابع، و هي الى القدرة و القوة، و هي الى
الارادة، معترفا كل واحد منهم بعجز نفسه، و بكونه مقهورا مسخرا تحت قهر المحال
عليه من دون استطاعة لمخالفته.

و لما سال الارادة، قالت: «ما انتهضت بنفسي، بل بعثت على اشخاص.

القدرة و انهاضها، و بحكم رسول قاهر ورد علي من حضرة القلب بلسان العقل، و هذا
الرسول هو العلم، فالسؤال عن انتهاضى يتوجه على العقل و القلب و العلم » .

و لما سالها قال (العقل) : «اما انا فسراج ما اشتعلت بنفسي و لكنى اشعلت » .

و قال (القلب) : «اما انا فلوح ما انبسطت بنفسي و لكنى بسطت » .

و قال (العلم) : «اما انا فنقش نقشت في لوح القلب لما اشرق سراج العقل، و ما
نتقشت بنفسي بل نقشنى غيرى، فسل القلم الذى نقشني و رسمنى على لوح القلب بعد اشتعال سراج
العقل » .

و عند هذا تحير السائل و قال: «ما هذا القلم و هذا اللوح و هذا الخط و هذا السراج؟
فانى لا اعلم قلما الا من القصب، و لا لوحا الا من الحديد او الخشب، و لا خطا الا
بالحبر، و لا سراجا الا من النار. و انى لاسمع في هذا المنزل حديث اللوح و القلم و
الخط و السراج، و لا اشاهد من ذلك شيئا» فقال له (العلم) : «فاذن بضاعتك مزجاة، و
زادك قليل، و مركبك ضعيف، و المهالك في الطريق الذى توجهت اليه كثيرة، فان كنت
راغبا في استتمام الطريق الى المقصد، فاعلم ان العوالم في طريقك ثلاثة:
(اولها) عالم الملك و الشهادة، و لقد كان الكاغد و الحبر و القلم و اليد و الاصابع
من هذا العالم، و قد جاوزت تلك المنازل على سهولة، (و ثانيها) عالم الملكوت
الاسفل و هو يشبه السفينة التي بين الارض و الماء، فلا هى حد اضطراب الماء، و لا هي
في حد سكون الارض و ثباتها، و القدرة و الارادة و العلم من منازل هذا العالم. (و
ثالثها) عالم الملكوت الاعلى، و هو من ورائى، فاذا جاوزتنى انتهيت الى
منازله. و اول منازله القلم الذى يكتب به العلم على لوح القلب و في هذا العالم
المهامه الفسيحة و الجبال الشاهقة و البحار المغرقة » .

فقال له السائل السالك: «قد تحيرت في امرى و لست ادرى انى اقدر على قطع هذا
الطريق المخوف ام لا، فهل لذلك علامة اعرف بها تمكنى على قطع هذا الطريق؟ » .

فقال: «نعم! افتح بصرك، و اجمع ضوء عينك و حدقه نحوى، فان ظهر لك القلم الذي به يكتب
في لوح القلب، فيشبه ان تكون اهلا لهذا الطريق، فان كل من جاوز الملكوت الاسفل
و قرع اول باب من الملكوت الاعلى كوشف بالقلم. اما ترى النبي-صلى الله عليه و
آله و سلم-كوشف به و انزل عليه قوله تعالى:

«اقرا باسم ربك الذي خلق. . . » الى قوله: «اقرا و ربك الاكرم الذي علم بالقلم علم
الانسان ما لم يعلم » (33) .

و هذا القلم قلم الهي ليس بقصب و لا خشب. او ما سمعت ان متاع البيت يشبه رب البيت؟
و قد علمت ان الله تعالى لا تشبه ذاته سائر الذوات فليس في ذاته بجسم و لا هو
في مكان، فكذلك لا تشبه يده سائر الايدى، و لا قلمه سائر الاقلام، و لا كلامه سائر
الكلام، و لا خطه سائر الخطوط.

بل هذه امور الهية من عالم الملكوت الاعلى، فليست يده من لحم و عظم و دم، و لا قلمه
من قصب، و لا لوحه من خشب، و لا كلامه من صوت و حرف، و لا خطه من نقش و رسم و رقم، و لا
حبره من زاج و عفص. فان كنت لا تشاهد هذا هكذا فانت من اهل التشبيه و التجسم و
ما عرفت ربك اذ لو نزهت ذاته تعالى و صفاته عن ذات الاجسام و صفاتها و
نزهت كلامه عن الحروف و الاصوات، فما بالك تتوقف في يده و قلمه و لوحه و خطه، و
لا تنزهها عن الجسمية و التشبيه بغيرها؟ » .

فلما سمع السائل السالك من العلم ذلك، استشعر قصور نفسه و فتح بصر بصيرته، بعد
الابتهال الى ربه، فانكشف له القلم الالهي، فاذا هو كما وصفه العلم، ما هو من
خشب و لا قصب، و لا له راس و لا ذنب، و هو يكتب على الدوام في قلوب البشر اصناف
العلم، فشكر العلم و ودعه، و سافر الى حضرة القلم الالهي، و قال له:

«ايها القلم! ما لك تخط على الدوام في القلوب من العلوم ما تبعث به الارادات
الى انهاض القدرة و اشخاصها و صرفها الى المقدورات؟ » .

فقال له (القلم الالهي) : «ا فنسيت ما رايت في عالم الملك و سمعته من جواب القلم
الآدمي حيث احالك الى اليد؟ فجوابي مثل جوابه، فانى مسخر تحت يد الله تعالى
الملقبة: (يمين الملك) ، فاساله عن شانى فانى في قبضته و هو الذى يرددني، و انا
مقهور مسخر، فلا فرق بين القلم الالهي و القلم الآدمى في معنى التسخير، و انما الفرق
في ظاهر الصورة » .

فقال السائل: «من يمين الملك؟ » .

قال القلم: «اما سمعت قوله تعالى:

«و السموات مطويات بيمينه؟ » (34) » .

قال: «نعم! سمعته » .

قال: «و الاقلام ايضا في قبضته و هو الذي يرددها» .

فسافر السائل من عند القلم الى اليمين، حتى شاهده، و راى من عجائبه ما يزيد على
عجائب القلم، و راى انه يمين لا كالايمان، و يدلا كالايدى، و اصبع لا كالاصابع،
فراى القلم متحركا في قبضته، فساله عن سبب تحريكه القلم فقال: «جوابي ما
سمعته من اليمين التى رايتها في عالم الشهادة، و هو الحوالة على القدرة، اذ
اليد لا حكم لها في نفسها، و انما محركها القدرة » .

فسافر الى عالم القدرة و راى فيها من العجائب ما استحقر لاجلها ما قبلها
فسالها عن سبب تحريكها اليمين.

فقالت: «انما انا صفة فاسال القادر، اذ العهدة على الموصوف دون الصفة » .

و عند هذا كاد ان يزيغ قلب السائل، و ينطلق بالجراة لسان السؤال، فثبت بالقول
الثابت و نودي من وراء سرادقات الحضرة:

«لا يسال عما يفعل و هم يسالون » (35) .

فغشيته دهشة الحضرة، فخر صعقا في غشيته مدة، فلما افاق قال:

«سبحانك! ما اعظم شانك و اعز سلطانك، تبت اليك و توكلت عليك، و آمنت بانك
الملك الجبار الواحد القهار، فلا اخاف غيرك و لا ارجو سواك و لا اعوذ الا بعفوك
من عقابك، و برضاك من سخطك، و ما لى الا ان اسالك و اتضرع اليك، و اقول:

« (اشرح لي صدري) » لا عرفك، « (و احلل عقدة من لساني) » (36) لاثنى عليك.

فنودى من وراء الحجاب: «اياك ان تطمع في الثناء، فان سيد الانبياء -صلى الله
عليه و آله و سلم-ما زاد في هذه الحضرة على ان قال: (سبحانك لا اثنى ثناء عليك كما
انت اثنيت على نفسك) . و اياك ان تطمع في المعرفة فان سيد الاوصياء قال: (العجز
عن ادرك الادراك ادراك، و الفحص عن سر ذات السر اشراك) . فيكفيك نصيبا من
حضرتنا انك عاجز عن ملاحظة جلالنا و جمالنا، و قاصر عن ادراك دقائق حكمنا و
افعالنا» .

فعند هذا رجع السائل السالك، و اعتذر عن اسئلته و معاتبته، و قال للقدرة و
اليمين و القلم و العلم و الارادة و القدرة و ما بعدها: «اقبلوا عذرى فانى كنت
غريبا جديد العهد بالدخول في هذه البلاد. و الآن قد صح عندى عذركم و انكشف لى ان
المتفرد بالملك و الملكوت و العزة و الجبروت هو الواحد القهار و ما انتم الا
مسخرون تحت قهره و قدرته، مرددون في قبضته، و هو الاول بالاضافة الى الوجود، اذ
صدر منه الكل على ترتيبه واحدا بعد واحد، و هو الآخر بالاضافة الى سير المسافرين
اليه، فانهم لا يزالون مترقين من منزل الى منزل الى ان يقع الانتهاء الى حضرته،
فهو اول في الوجود و آخر في المشاهدة و هو الظاهر بالاضافة الى من يطلبه
بالسراج الذى اشتعل في قلبه بالبصيرة الباطنة النافذة في عالم الملكوت، و هو
الباطن بالاضافة الى العاكفين في عالم الشهادة الطالبين لادراكه بالحواس »
.

و هذا هو التوحيد في الفعل للسالكين، الذين انكشف لهم وحدة الفاعل بالمشاهدة و
استماع كلام ذرات الملك و الملكوت، و هو موقوف على الايمان بعالم الملكوت و
التمكن من المسافرة اليه و استماع الكلام من اهله. و من كان اجنبيا من هذا
العالم و لم يكن له استعداد الوصول اليه و لم يمكنه ان يسلك السبيل الذى ذكرناه،
فينبغى ان يرد مثله الى التوحيد الاعتقادى الذي يوجد في عالم الشهادة، و هو ان
يعلم ببعض الادلة وحدة الفاعل، مثل ان يقال له: ان كل احد يعلم ان المنزل يفسد
بصاحبين و البلد يفسد باميرين، فاله العالم و مدبره واحد، اذ:

«لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا» (37)

فيكون ذلك على ذوق ما رآه في عالم الشهادة، فينغرس اعتقاد التوحيد في قلبه
بهذا الطريق بقدر عقله و استعداده، و قد كلفوا الانبياء ان يكلموا الناس على قدر
عقولهم.

ثم الحق ان هذا التوحيد الاعتقادي اذا قوى يصلح ان يكون عمادا للتوكل و اصلا
فيه، اذ الاعتقاد اذ قوى عمل عمل الكشف في اثارة الاحوال الا انه في الغالب
يضعف و يتسارع اليه الاضطراب، فيحتاج الى من يحرسه بكلامه، و اما الذي شاهد
الطريق و سلكه بنفسه، فلا يخاف عليه شي ء من ذلك، بل لو كشف له الغطاء لما ازداد
يقينا و ان كان يزداد وضوحا.

(تنبيه) اعلم ان ما يبتني عليه التوحيد المذكور، اعني كون جميع الاشياء من
الاسباب و الوسائط مقهورات مسخرات تحت القدرة الازلية ظاهر. و سائر ما
اوردنا في هذا المقام مما ذكره ابو حامد الغزالي و تبعه بعض اصحابنا «و لا
اشكال فيه الا في افعال الانسان و حركاته » (38) . فان البديهة تشهد بثبوت نوع
اختيار له، لانه يتحرك ان شاء و يسكن ان شاء، مع انه لو كان مسخرا مقهورا في جميع
افعاله و حركاته، لزم الجبر و لم يصح التكليف و الثواب و العقاب. و لتحقيق هذه
المسالة موضع آخر، و لا يليق ذكرها هنا.

و الحق ان كل ما قيل فيها لا يخلو عن قصور و نقصان، و الاولى فيها السكوت و
التادب بآداب الشرع (39) .

و منها:

الخواطر النفسانية و الوساوس الشيطانية


اعلم ان الخاطر ما يعرض في القلب من الافكار فان كان مذموما داعيا الى الشر
سمي (وسوسة) ، و ان كان محمودا داعيا الى الخير سمي (الهاما) .

و توضيح ذلك: ان مثل القلب بالنسبة الى ما يرد عليه من الخواطر مثل هدف تتوارد
عليه السهام من الجوانب، او حوض تنصب اليه مياه مختلفة من الجداول، او قبة
ذات ابواب يدخل منها اشخاص متخالفة، او مرآة منصوبة تجتاز اليها صور متباينة.
فكما ان هذه الامور لا تنفك عن تلك السوانح، فكذا القلب لا ينفك عن واردات
الخواطر. فلا تزال هذه اللطيفة الالهية مضمارا لتطاردها و معركة لجولانها و
تزاحمها، الى ان يقطع ربطها عن البدن و لذاته، و يتخلص عن لدغ عقارب الطبع و
حياته.

ثم لما كان الخاطر امرا حادثا فلا بد له من سبب، فان كان سببه شيطانا فهو
الوسوسة، و ان كان ملكا فهو الالهام. و ما يستعد به القلوب لقبول الوسوسة يسمى
اغواءا و خذلانا، و ما يتهيا به لقبول الالهام يسمى لطفا و توفيقا. و الى
ذلك اشار سيد الرسل-صلى الله عليه و آله و سلم-بقوله: «في القلب لمتان (40) : لمة من
الملك ايعاد بالخير و تصديق بالحق، و لمة من الشيطان ايعاد بالشر و تكذيب بالحق »
. و بقوله-صلى الله عليه و آله و سلم-: «قلب المؤمن بين اصبعين من اصابع الرحمن » .

فصل


(اقسام الخواطر و منها الالهام)


الخاطر ينقسم الى ما يختلج بالبال من دون ان يكون مبدا للفعل، و هي الاماني
الكاذبة و الافكار الفاسدة، و الى محرك الارادة و العزم على الفعل، اذ كل فعل
مسبوق بالخاطر اولا، فمبدا الافعال الخواطر، و هي تحرك الرغبة و الرغبة العزم، و
العزم النية، و النية تبعث الاعضاء على الفعل، (و الثاني)

كما عرفت ان كان مبدا للخير يكون الهاما و محمودا، و ان كان مبدا للشر يكون
وسواسا و مذموما. (و الاول) له انواع كثيرة:

(منها) ما يرجع الى التمنى، سواء كان حصول ما يتمناه ممكنا او محالا، و سواء كان
المتمنى حسنا محمودا او قبيحا مذموما، و سواء كان عدمه مستندا الى قضاء الله و
قدره او الى تقصيره و سوء تدبيره فيخطر بباله انه يا ليت لم يفعل كذا او فعل كذا.

(و منها) ما يرجع الى تذكر الاحوال الغالبة، اما بدون اختياره او مع اختيار
ما، بان يتصور ما له من النفائس الفانية فيستر به، او يتخيل فقده فيحزن لاجله،
او يتفكر في ما اعتراه من العلل و الاسقام و اختلال امر المعاش و سوء الانتظام،
او يذهب و همه الى حساب المعاملين او جواب المعاندين، و تصوير اهلاك الاعداء
بالانواع المختلفة من دون تاثير و فائدة.

(و منها) ما يرجع الى التطير، و ربما بلغ حدا يتخيل كثيرا من الامور الاتفاقية
الدالة على وقوع مكروه بنفسه او بما يتعلق به، و يضطرب بذلك، و ان لم تكن مشهورة
بذلك عند الناس، و ربما حدثت في القوة الوهمية خباثة و شيطنة تذهب غالبا الى ما
يؤذيه و يكرهه و لا يذهب الى ما يريده و يسره، فيتخيل ذهاب امواله و اولاده و
ابتلاءه بالامراض و الاسقام و وصول المكروه من الغير و مغلوبيته من عدوه، و
ربما حصل لنفسه نوع اذعان لهذه التخيلات لمغلوبية العاقلة للواهمة. فيعتريه نوع
اضطراب و انكسار، و قلما يذهب مثل هذه القوة الوهمية فيما يشاء و يريده من تخيل
الغلبة و حصول التوسعة في الاموال و الاولاد، بحيث يحصل لنفسه نوع اذعان لها،
فتنبسط و تهتز. و هذا شر الوساوس و اردؤها، و ربما كان المنشا لبعضها نوع
اختلال في الدماغ.

و جميع الانواع المذكورة باقسامها مفسدة للنفس يحدث فيها نوع ذبول و انكسار و
يصدها عما خلقت لاجله.

(و منها) ما يرجع الى التفاؤل، و هذا ليس مذموما. و قد ورد من رسول الله-صلى الله
عليه و آله و سلم-: انه يحب التفاؤل، و كثيرا ما يتفاءل ببعض الامور. (و منها)
الوسواس في العقائد، بحيث لا يؤدي الى الشك المزيل لليقين، فانه قادح في الايمان
كما تقدم. و مرادنا بالوسوسة و حديث النفس في العقائد هنا ما لا يضر بالايمان و لا
يؤاخذ به-كما ياتي-.

(تذنيب) قد ظهر مما ذكر: ان اكثر جولان الخاطر انما يكون في فائت لا تدارك له، او
في مستقبل لا بد و ان يحصل منه ما هو مقدر، و كيف كان هو تضييع لوقته، اذ آلة العبد
قلبه و بضاعته عمره، فاذا غفل القلب في نفس واحد عن ذكر يستفيد به انسا بالله او
عن فكر يستفيد معرفة الله ليستفيد بالمعرفة حبا لله، فهو مغبون. و هذا ان كان
فكره و وسواسه في المباحات، مع ان الغالب ليس كذلك، بل يتفكر في وجوه الحيل
لقضاء الشهوات، اذ لا يزال ينازع في الباطن كل من فعل فعلا مخالفا لغرضه، او من
يتوهم انه ينازعه و يخالفه في رايه، بل يقدر المخالفة من اخلص الناس في حبه حتى في
اهله و ولده، ثم يتفكر في كيفية زجرهم و قهرهم و جوابهم عما يتعللون به في مخالفتهم
فلا يزال في شغل دائم مضيع لدينه و دنياه.

فصل


(المطاردة بين جندي الملائكة و الشياطين في معركة النفس)


قد عرفت ان الوسواس اثر الشيطان الخناس، و الالهام عمل الملائكة الكرام. و لا
ريب في ان كل نفس في بدو فطرتها قابلة لاثر كل منهما على التساوي، و انما يترجح
احدهما بمتابعة الهوى و ملازمة الورع و التقوى، فاذا مالت النفس الى مقتضى
شهوة او غضب وجد الشيطان مجالا فيدخل بالوسوسة، و اذا انصرفت الى ذكر الله
ضاق مجاله و ارتحل فيدخل، الملك بالالهام. فلا يزال التطارد بين جندي الملائكة و
الشياطين في معركة النفس.

لهيولانية وجودها و قابليتها للامرين بتوسط قوتيها العقلية و الوهمية، الى ان
يغلب احد الجندين و يسخر مملكة النفس و يستوطن فيها، و حينئذ يكون اجتياز الثاني
على سبيل الاختلاس، و حصول الغلبة انما هو بغلبة الهوى او التقوى فان غلب عليها
الهوى و خاضت فيه صارت مرعى الشيطان و مرتعه و كانت من حزبه، و ان غلب عليها
الورع و التقوى صارت مستقر الملك و مهبطه و دخلت في جنده، قال رسول الله صلى الله
عليه و آله و سلم-: «خلق الله الانس ثلاثة اصناف: صنف كالبهائم، قال الله تعالى:

«لهم قلوب لا يفقهون بها و لهم اعين لا يبصرون بها (41) » .

و صنف اجسادهم اجساد بني آدم و ارواحهم ارواح الشياطين، و صنف كالملائكة في ظل
الله يوم لا ظل الا ظله » .

و لا ريب في ان اكثر القلوب قد فتحها جنود الشياطين و ملكوها، و يتصرفون فيها
بضروب الوساوس الداعية الى ايثار العاجلة و اطراح الآجلة. و السر فيه:

ان سلطنة الشيطان سارية في لحم الانسان و دمه و محيطة بمجامع قلبه و بدنه، كما ان
الشهوات ممتزجة بجميع ذلك، و من هنا قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم-:
«ان الشيطان ليجري من بني آدم مجرى الدم » ، و قال الله سبحانه-حكاية عن لسان
اللعين-:

«لاقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين ايديهم و من خلفهم و عن ايمانهم و
عن شمائلهم » (42) .

فالخلاص من ايدي الشياطين يحتاج الى مجاهدة عظيمة رياضة شاقة، فمن لم يقم في
مقام المجاهدة كانت نفسه هدفا لسهام وساوسهم و داخلة في احزابهم

فصل


(تسويلات الشيطان و وساوسه)


لما كانت طرق الباطل كثيرة و طريق الحق واحدة، فالابواب المفتوحة للشيطان
الى القلب كثيرة، و باب الملائكة واحدة، و لذا روي ان النبي-صلى الله عليه و آله و
سلم-خط يوما لاصحابه خطا و قال! «هذا سبيل الله » ، ثم خط خطوطا عن يمينه و شماله
فقال: «هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو اليه » ، ثم تلا قوله سبحانه:

«و ان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله » (43) .

ثم لسهولة ميل النفس الى الباطل و عسر انقيادها للحق تكون الطرق المؤدية الى
الباطل التي هى ابواب الشيطان جلية ظاهرة، فكانت ابواب الشيطان مفتوحة ابدا،
و الطرق المؤدية الى الحق التي هى باب الملائكة خفية.

فكان باب الملائكة مسدودا دائما، فما اصعب بالمسكين ابن آدم ان يسد هذه
الابواب الكثيرة الظاهرة المفتوحة و يفتح بابا واحدا خفيا مسدودا، على ان
اللعين ربما يلبس بين طريق الحق و الباطل و يعرض الشر في موضع الخير، بحيث يظن
انه لمة الملك و الهامه، لا وسوسة الشيطان و اغواؤه، فيهلك و يضل من حيث لا يعلم،
كما يلقى في قلب العالم ان الناس لكثرة غفلتهم اشرفوا على الهلاك، و هم من الجهل
موتى، و من الغفلة هلكى، اما لك رحمة على عباد الله؟ اما تريد الثواب و السعادة
في العقبى؟ فما بك لا تنبههم عن رقدة الغفلات بوعظك، و لا تنقذهم من الهلاك الابدي
بنصحك؟ و قد من الله عليك بقلب بصير و علم كثير و لسان ذلق و لهجة مقبولة! فكيف
تخفى نعم الله تعالى و لا تظهرها؟ فلا يزال يوسوسه بامثال ذلك و يثبتها في لوح
نفسه، الى ان يسخره بلطائف الحيل و يشتغل بالوعظ، فيدعوه الى التزين و التصنع و
التحسن بتحسين اللفظ، و السرور بتملق الجماعة، و الفرح بمدحهم اياه، و
الانبساط بتواضعهم لديه، و انكسارهم بين يديه، لا يزال في اثناء الوعظ يقرر في
قلبه شوائب الرياء و قبول العامة، و لذة الجاه و حب الرياسة، و التعزز بالعلم و
الفصاحة، و النظر الى الخلق بعين الحقارة، فيهدى الناس و يضل نفسه و يعمر يومه و
يخرب امسه، و يخالف الله و يظن انه في طاعته، و يعصيه و يحسب انه في عبادته،
فيدخل في جملة من قال الله فيهم:

«قل هل ننبئكم باخسرين اعمالا الذين ضل سعيهم في الحيوة الدنيا و هم يحسبون انهم
يحسنون صنعا» (44) .

و يكون ممن قال رسول الله-صلى الله عليه و آله و سلم-فيهم: «ان الله و يكون ممن قال
رسول الله-صلى الله عليه و آله و سلم-فيهم: «ان الله ليؤيد هذا الدين باقوام
لاخلاق لهم، و «ان الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» . فلا نجاة من مصائد
الشيطان و مكائده الا ببصيرة باطنة نورانية و قوة قدسية ربانية، كما لا نجاة
للمسافر الحيران في بادية كثيرة الطرق غامضة المسلك في ليلة مظلمة الا بعين
بصيرة صحيحة و طلوع شمس مشرقة نيرة.

فصل


(العلائم الفارقة بين الالهام و الوسوسة)


من تمكن من معرفة الخير و الشر سهل عليه التفرقة بين الالهام و الوسوسة و قد قيل
الهام الملك و وسوسة الشيطان يقع في النفوس على وجوه و علامات:

(احدها) كالعلم و اليقين الحاصلين من جانب يمين النفس و تقابله الشهوة و الهوى
الحاصلان من جانب شمالها. (و ثانيها) كالنظر الى آيات الآفاق و الانفس على
سبيل النظام و الاحكام المزيل للشكوك و الاوهام، و المحصل للمعرفة و الحكمة في
القوة العاقلة هي جانب الايمن من النفس و يقابله النظر اليها على سبيل الاشتباه و
الغفلة و الاعراض عنها، الناشئة منها الشبه و الوساوس في الواهمة و المتخيلة التي
على الجانب الايسر منها، فان الآيات المحكمات بمنزلة الملائكة المقدسة من العقول
و النفوس الكلية، لانها مبادى ء العلوم اليقينية، و المتشابهات الوهميات بمنزلة
الشياطين و النفوس الوهمانية، لانها مبادى ء المقدمات السفسطية. (و ثالثها)
كطاعة الرسول المختار و الائمة الاطهار في مقابلة اهل الجحود و الانكار و ارباب
التعطيل و التشبيه من الكفار. فكل من سلك سبيل الهداية فهو بمنزلة الملائكة
المقدسين الملهمين للخير، و من سلك سبيل الضلال فهو بمنزلة الشياطين المغوين
بالشرور. «و رابعها» كتحصيل العلوم و الادراكات التي هي في الموضوعات العالية
و الاعيان الشريفة كالعلم بالله و ملائكته و رسله، و اليوم الآخر، و البعث، و قيام
الساعة، و مثول الخلائق بين يدى الله تعالى، و حضور الملائكة و النبيين و الشهداء و
الصالحين، في مقابلة تحصيل العلوم و الادراكات التي هي من باب الحيل و الخديعة و
السفسطة، و التامل في امور الدنيا الغير الخارجة عن دار المحسوسات، فان
الاول يشبه الملائكة الروحانية و جنود الرحمن الذين هم سكان عالم الملكوت
السماوي، و الثاني يشبه الا بالسة المطرودة عن باب الله، الممنوعة من ولوج
السماوات، المحبوسة في الظلمات، المحرومة في الدنيا عن الارتقاء، و المحجوبة
في الآخرة عن دار النعيم.

فصل


(علاج الوساوس)


الوساوس ان كانت بواعث الشرور و المعاصي، فالعلاج في دفعها ان يتذكر سوء عاقبة
العصيان و وخامة خاتمته في الدنيا و الآخرة، و يتذكر عظيم حق الله و جسيم ثوابه
و عقابه، و يتذكر ان الصبر عما تدعو اليه هذه الوساوس اسهل من الصبر على نار
لو قذف شرارة منها الى الارض احرقت نبتها و جمادها فاذا تذكر هذه الامور و
عرف حقيقتها بنور المعرفة و الايمان، حبس عنه الشيطان و قطع عنه وسواسه، اذ لا
يمكن ان ينكر عليه هذه الامور الحقة، اذ يقينه الحاصل من قواطع البرهان يمنعه عن
ذلك و يخيبه، بحيث يرجع هاربا خائبا. فان التهاب نيران (45) البراهين بمنزلة
رجوم الشياطين، فاذا قوبلت بها وساوسهم فرت فرار الحمر من الاسد.

و ان كانت مختلجة بالبال بلا ارادة و اختيار، من دون ان تكون مبادى ء الافعال،
فقطعها بالكلية في غاية الصعوبة و الاشكال، و قد اعترف اطباء النفوس بانها الداء
العضال و يتعسر دفعه بالمرة، و ربما قيل بتعذره، و لكن الحق امكانه، لقول
النبي-صلى الله عليه و آله و سلم-: «من صلى ركعتين لم تتحدث نفسه فيهما بشى ء غفر له
ما تقدم من ذنبه و ما تاخر» ، و لو لا امكانه لم يتصور ذلك.

و السر في صعوبة قطعها بالكلية ان للشيطان جندين: جندا يطير و جندا يسير، و الواهمة
جنده الطيار، و الشهوة جنده السيار، لان غالب ما خلقتا منه هي النار التي خلق منها
الشيطان، فالمناسبة اقتضت تسلطه عليهما و تبعيتهما له.

ثم لما كانت النار بذاتها مقتضية للحركة، اذ لا تتصور نار مشتعلة لا تتحرك، بل لا
تزال تتحرك بطبعها، فشان كل من الشيطان و القوتين ان يتحرك و لا يسكن، الا ان
الشيطان لما خلق من النار الصرفة من دون امتزاج شي ء آخر بها فهو دائم الحركة و
التحريك للقوتين بالوسوسة و الهيجان، و القوتان لما امتزج بغالب
مادتهما-اعني النار-شى ء من الطين لم تكونا بمثابة ما خلق من صرف النار في
الحركة، الا انهما استعدتا لقبول الحركة منه، فلا يزال الشيطان ينفخ فيهما و
يحركهما بالوسوسة و الهيجان و يطير و يجول فيهما ثم الشهوة لكون النارية
فيها اقل فسكونها ممكن، فيحتمل ان يكف تسلط الشيطان عن الانسان فيها، فيسكن
بالكلية عن الهيجان. و اما الواهمة فلا يمكن ان يقطع تسلطه عنها، فيمتنع قطع
وسوساه عن الانسان، اذ لو امكن قطعه ايضا بالمرة، لصار اللعين منقادا للانسان
مسخرا له، و انقياده له هو سجوده له، اذ روح السجود و حقيقته هو الانقياد و
الاطاعة، و وضع الجبهة حالته و علامته، و كيف يتصور ان يسجد الملعون لاولاد آدم
عليه السلام مع عدم سجوده لابيهم و استكباره من ان يطمئن عن حركته ساجدا له
معللا بقوله: «خلقتنى من نار و خلقته من طين » (46)

فلا يمكن ان يتواضع لهم بالكف عن الوسوسة، بل هو من المنظرين لاغوائهم الى يوم
الدين، فلا يتخلص منه احد الا من اصبح و همومه هم واحد فيكون قلبه مشتغلا بالله وحده،
فلا يجد الملعون مجالا فيه، و مثله من المخلصين الداخلين في الاستثناء (47) عن
سلطنة هذا اللعين، فلا تظنن انه يخلو عنه قلب فارغ، بل هو سيال يجرى من ابن آدم
مجرى الدم، و سيلانه مثل الهواء في القدح، فانك ان اردت ان تخلى القدح عن الهواء
من غير ان تشغله بمثل الماء فقد طمعت في غير مطمع، بل بقدر ما يدخل فيه الماء يخلو عن
الهواء، فكذلك القلب اذا كان مشغولا بفكر مهم في الدين يمكن ان يخلو من جولان هذا
اللعين، و اما لو غفل عن الله و لو في لحظة، فليس له في تلك اللحظة قرين الا الشيطان،
كما قال سبحانه:

«و من يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين » (48) .

و قال رسول الله-صلى الله عليه و آله و سلم-: «ان الله يبغض الشاب الفارغ » ، لان
الشاب اذا تعطل عن عمل مباح يشغل باطنه لا بد ان يدخل في قلبه الشيطان و يعيش فيه
و يبيض و يفرخ، و هكذا يتوالد نسل الشيطان توالدا اسرع من توالد الحيوانات،
لان الشيطان طبعه من النار، و الشهوة في نفس الشاب كالحلفاء (49) اليابسة، فاذا
وجدها كثرة تولده و تولدت النار من النار و لم تنقطع اصلا.

فظهر ان وسواس الخناس لا يزال يجاذب قلب كل انسان من جانب الى جانب، و لا علاج
له الا قطع العلائق كلها ظاهرا و باطنا، و الفرار عن الاهل و المال و الولد و
الجاه و الرفقاء، ثم الاعتزال الى زاوية، و جعل الهموم هما واحدا هو الله. و
هذا ايضا غير كاف ما لم يكن له مجال في الفكر و سير في الباطن في ملكوت
السماوات و الارض و عجائب صنع الله، فان استيلاء ذلك على القلب و اشتغاله به
يدفع مجاذبة الشيطان و وسواسه، و ان لم يكن له سير بالباطن فلا ينجيه الا
الاوراد المتواصلة المترتبة في كل لحظة من الصلوات و الاذكار و الادعية و
القراءة. و يحتاج مع ذلك الى تكليف القلب الحضور، اذ الاوراد الظاهرة لا
تستغرق القلب، بل التفكر بالباطن هو الذى يستغرقه و اذا فعل كل ذلك لم يسلم له
من الاوقات الا بعضها، اذ لا يخلو في بعضها عن حوادث تتجدد و تشغله عن الفكر و
الذكر، كمرض او خوف او ايذاء و طغيان، و لو من مخالطة بعض لا يستغنى عنه في
الاستعانة في بعض اسباب المعيشة.

تعليقات:

1) هذه الفصول كتمهيد للمقامات الاربعة التي تتعلق بالعلاج الخاص لذمائم
الاخلاق.

2) كذا في النسخ. و الصحيح «للصدق » .

3) التنقير: البحث و التتبع.

4) اى القوة العاقلة.

5) الفاطر، الآية: 28.

6) الزمر، الآية: 9.

7) البقرة، الآية: 269.

8) العنكبوت، الآية: 43.

9) البروج، الآية: 8.

10) (الجهل) هنا بمعنى الجفاء و الغلظة.

11) قال الشيخ (ملا صالح المازندراني) في تعليقته على اصول الكافي عن هذا الحديث:
«الحلوان-بضم الحاء المهملة و سكون اللام-ما تاخذه الحكام و القضاة و الكاهن
من الاجر و الرشوة على اعمالهم، يقال: حلوته احلوه حلوانا، فهو مصدر كالغفران، و
نونه زائدة، و اصله من الحلاوة، و في بعض النسخ (بحلوائهم) -بالهمزة بعد الالف-و
الحلوا. -بالمد و القصر-ما يتخذ من الحلاوة » .

12) صححناه على بعض نسخ اصول الكافي المصححة و في نسخ جامع السعادات هكذا:
(بتركه علمه) .

13) روي في اصول الكافي في باب بذل العلم عن الصادق عليه السلام:

«قام عيسى بن مريم خطيبا في بني اسرائيل فقال: يا بني اسرائيل! لا تحدثوا
الجهال بالحكمة فتظلموها و لا تمنعوها اهلها فتظلموهم » .

14) الحديث المروى في اصول الكافي هكذا: «عن زرارة بن اعين قال سالت ابا
جعفر-عليه السلام-ما حق الله على العباد؟ قال: ان يقولو ما يعلمون. . . » الى آخر
الحديث.

15) الاعراف، الآية 169.

16) يونس، الآية: 39.

17) هذا الحديث رواه في اصول الكافي عن النبي-صلى الله عليه و آله في كتاب العقل
و الجهل فصححناه عليه، و في نسخ جامع السعادات اختلاف عما هنا.

18) كما قال امير المؤمنين-عليه الصلاة و السلام-: «لو كشف لي الغطاء ما ازددت
يقينا» .

19) الحديث مروي في اصول الكافي في باب درجات الايمان و بقيته: «و على صاحب
الثلاث اربعا لم يقو، و على صاحب الاربع خمسا لم يقو، و على صاحب الخمس ستا لم يقو،
و على صاحب الست سبعا لم يقو. . . و على هذه الدرجات » .

20) الشمس، الآية: 9.

21) حديث نبوي شريف مشهور تقدم ذكره صفحة «26» .

22) الانعام، الآية: 82.

23) الآية من سورة آل عمران: 161 و هذا الحديث منقول عن (مصباح الشريعة و مفتاح
الحقيقة) المنسوب الى الصادق-عليه السلام-و هذا الكتاب قال فيه المجلسي-قدس
سره-في مقدمة البحار: «فيه ما يريب اللبيب الماهر، و اسلوبه لا يشبه سائر كلمات
الائمة و آثارهم » ، ثم قال! «و ان سنده ينتهى الى الصوفية، و لذا اشتمل على كثير من
اصطلاحاتهم و على الرواية عن مشايخهم ».

24) الزلزال، الآية: 8-9

25) الكهف الآية: 82.

26) اشارة الى قوله تعالى: «انا عرضنا الامانة على السماوات الارض فابين ان
يحملنا و اشفقن منها و حملها الانسان انه كان ظلوما جهولا» الاحزاب، الآية: 72.

27) روى السيد المرتضى علم الهدى هذا الحديث في الجزء الثالث من اماليه بدون
كلمة (يمجسانه) ، و كذا في غوالى اللئالى، الا ان المعروف في روايته اضافة كلمة
(يمجسانه) و لكنها بعد كلمة (ينصرانه) ، كما ارسلها في مجمع البيان: ج 8 ص 303 طبع
صيدا، و كذا في مجمع البحرين في مادة (فطر) ، و كذا في صحيح البخارى: ج 1 ص 206،
و صحيح مسلم: ج 2 ص 413، و معالم التنزيل في هامش تفسير الخازن: ج 5 ص 172، و غير
هؤلاء.

28) يوسف، الآية: 106.

29) الانفال، الآية: 17.

30) المقصود به (ابو حامد الغزالي) في احياء العلوم، راجع الجزء الرابع ص 114
المطبوع بالمطبعة العثمانية بمصر سنة 1352، و سترى ان هذه الفصول مقتبسة منه
بتغيير في العبارة و تقديم و تاخير. و كذلك هذا الفصل المنقول عنه فيه تغيير و
اختصار كثير، و صاحب الكتاب اعترف-فيما سياتي-باقتباس هذه الفصول من
الغزالي.

31) و في نسختنا الخطية: (لانها كلام يستمد) ، و لكن الموجود في المطبوعة و في
نسخة احياء العلوم كما اثبتناه في المتن.

32) الكهف، الآية: 109.

33) العلق، الآية: 1، 3-5.

34) الزمر، الآية: 67.

35) الانبياء، الآية: 23.

36) طه، الآية: 25، 27.

37) الانبياء، الآية: 22.

38) هكذا في المطبوعة و في نسختنا الخطية و النسخة الاخرى: «و لا ريب في لزوم
الاشكال في افعال الانسان و حركاته » .

39) هذا اعتراف بالعجز و هروب من حل هذه المعضلة التاريخية في سر الخلق، و الحل
الذي لم يسبق اليه البشر حتى عند فلاسفتهم الاقدمين و المتاخرين ما قاله
امامنا الصادق (ع) : «لا جبر و لا تفويض، و لكن امر بين امرين » فان الفاعل الذي
منه الوجود هو الله تعالى وحده لا شريك له في خلقه، و الفاعل الذي به الوجود هو
العبد المختار في فعله.

40) روى الحديث في احياء العلوم ج 2 ص 23 هكذا: «في القلب لمتان: لمة من الملك
ايعاد بالخير و تصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم انه من الله سبحانه و ليحمد
الله. و لمة من العدو ايعاد بالشر و تكذيب بالحق و نهي عن الخير، فمن وجد ذلك
فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم » ، ثم تلا قوله تعالى: «الشيطان يعدكم الفقر. . .
» الآية.

و هذا الحديث لم نعثر عليه من طرقنا، و كذا الحديث الآتى:

في نهاية ابن الاثير: «في حديث ابن مسعود: لابن آدم لمتان: لمة من الملك و لمة
من الشيطان-اللمة الهمة و الخطرة تقع في القلب، اراد المام الملك او الشيطان
به و القرب منه » .

41) الاعراف، الآية: 179.

42) الاعراف الآية: 16، 17.

43) الانعام، الآية: 153.

44) الكهف الآية 103-104.

45) و في نسختنا الخطية هكذا: «فان نيرات البراهين » .

46) الاعراف، الآية: 12.

47) اشارة الى قوله تعالى: «قال رب بما اغويتني لازينن لهم في الارض و لاغوينهم
اجمعين الا عبادك منهم المخلصين » الحجر الآية: 40.

48) الزخرف، الآية 35.

49) الحلفاء: نبت اطرافه محددة كانها سعف النخل و الخوص، ينبت في مغايض المياه.
الواحدة (حلفة و حلفاء) .


/ 15