جامع السعادات جلد 2

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

جامع السعادات - جلد 2

محمد مهدی النراقی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



فصل


(رد المنكرين لحب الله)


قد ظهر مما ذكر: ثبوت حقيقة المحبة و لوازمها من الشوق و الانس لله -تعالى-، و انه
المستحق للحب دون غيره، و بذلك ظهر فساد زعم من انكر امكان حصول محبة العبد
الله-تعالى-و قال: «لا معنى لها الا المواظبة على طاعة الله، و اما حقيقة المحبة
فمحال الا مع الجنس و المثل » .

و لما انكروا المحبة، انكروا الانس و الشوق و لذة المناجاة و سائر لوازم الحب
و توابعه، و يدل على فساد هذا القول-مضافا الى ما ذكر-اجماع الامة على كون
الحب لله و لرسوله فرضا، و ما ورد في الآيات و الاخبار و الآثار من الامر به و
المدح عليه، و اتصاف الانبياء و الاولياء به، و حكايات المحبين، و قد بلغت من
الكثرة و الصراحة حدا لا يقبل الكذب و التاويل، فمن شواهد القرآن قوله-تعالى-:

«يحبهم و يحبونه » (1) . و قوله: «و الذين آمنوا اشد حبا لله » (2) . و قوله-تعالى-: «قل ان
كان آباؤكم و ابناؤكم و اخوانكم و ازواجكم و عشيرتكم. . . »

-الى قوله-: «احب اليكم من الله و رسوله. . . » الى آخر الآية (3) .

و اما الاخبار الواردة و الآثار، فقد قال رسول الله (ص) : «لا يؤمن احدكم حتى يكون
الله و رسوله احب اليه مما سواهما» . و قال (ص) : «الحب من شروط الايمان » . و قال (ص)
: «احبوا الله لما يغدوكم به من نعمة، و احبوني لحب الله » . و قد نظر (ص) الى بعض
اصحابه مقبلا و عليه اهاب كبش، فقال (ص) : «انظروا الى هذا الرجل الذي قد نور الله
قلبه، لقد رايته بين ابويه يغذوانه باطيب الطعام و الشراب، فدعاه حب الله و
حب رسوله الى ما ترون » . و قال (ص) في دعائه: «اللهم ارزقني حبك و حب من يحبك و حب
من يقربني الى حبك، و اجعل حبك احب الي من الماء البارد» . و فى الخبر المشهور:
«ان ابراهيم (ع) قال لملك الموت، اذ جاءه لقبض روحه: هل رايت خليلا يميت خليله؟
فاوحى الله-تعالى-اليه:

هل رايت محبا يكره لقاء حبيبه؟ فقال: يا ملك الموت: الآن فاقبض » .

و اوحى الله الى موسى (ع) : «يا ابن عمران! كذب من زعم انه يحبني فاذا جنه الليل
نام عني، اليس كل محب يحب خلوة حبيبه، ها انا ذا يا ابن عمران مطلع على احبائي،
اذا جنهم الليل حولت ابصارهم الى من قلوبهم، و مثلت عقوبتي بين اعينهم،
يخاطبونى عن المشاهدة، و يكلموني عن الحضور، يا ابن عمران! هب لي من قلبك الخشوع،
و من بدنك الخضوع، و من عينك الدموع في ظلم الليل، فانك تجدني قريبا» . و روى: «ان
عيسى (ع) مربثلاثة نفر قد نحلت ابدانهم و تغيرت الوانهم، فقال لهم: ما الذي بلغ
بكم ما ارى؟ فقالوا: الخوف من النار، فقال: حق على الله ان يؤمن الخائف.

ثم جاوزهم الى ثلاثة اخرى، فاذا هم اشد نحولا و تغيرا، فقال لهم: ما الذي بلغ
بكم ما ارى؟ فقالوا: الشوق الى الجنة، فقال: حق على الله ان يعطيكم ما ترجون. ثم
جاوزهم الى ثلاثة اخرى، فاذا هم اشد نحولا و تغيرا، كان على وجوههم المرايا
من النور، فقال: ما الذي بلغ بكم ما ارى؟ قالوا: حب الله-عز و جل-، فقال: انتم
المقربون » . و في بعض الروايات: «انه (ع) قال للطائفتين الاوليين: مخلوقا خفتم، و
مخلوقا رجوتم. و قال للطائفة الثالثة:

انتم اولياء الله حقا، معكم امرت ان اقيم » . و قال رسول الله (ص) : «ان شعيبا (ع) بكى
من حب الله-عز و جل-حتى عمن، فرد الله عليه بصره، ثم بكى حتى عمى، فرد الله عليه
بصره، فلما كانت الرابعة اوحى الله اليه: يا شعيب! الى متى يكون هذا ابدا منك،
ان يكن هذا خوفا من النار فقد اجرتك، و ان يكن شوقا الى الجنة فقد ابحتك. فقال:
الهي و سيدي! انت تعلم اني ما بكيت خوفا من نارك، و لا شوقا الى جنتك، و لكن عقد حبك
على قلبي، فلست اصبر او اراك. فاوحى الله: اما اذا كان هذا هكذا ساخدمك كليمي
موسى بن عمران » . و روى: «انه جاء اعرابي الى النبي (ص) فقال:

يا رسول الله! متى الساعه؟ فقال (ص) : ما اعددت لها؟ قال: ما اعددت لها كثير
صلاة و لا صيام، الا اني احب الله و رسوله، فقال له النبي: المرء مع من احب » . و في
اخبار داود: «قل لعبادي المتوجهين الى محبتي: ما ضركم اذا احتجبتم عن خلقي
اذ رفعت الحجاب فيما بيني و بينكم حتى تنظروا الي بعيون قلوبكم، و ما ضركم ما
زويت عنكم من الدنيا اذ بسطت دينى لكم، و ما ضركم مسخطة الخلق اذ التمستم رضاي » .
و فيها ايضا: «يا داود! انك تزعم انك تحبني، فان كنت تحبني فاخرج حب الدنيا
عن قلبك، فان حبى و حبها لا يجتمعان في قلب » . و قال امير المؤمنين (ع) في دعاء
كميل: «فهبني يا الهي و سيدي و مولاي و ربي صبرت على عذابك، فكيف اصبر على فراقك؟ »
. و قال -عليه السلام-: «ان لله-تعالى-شرابا لاوليائه، اذا شربوا سكروا، و اذا
سكروا طربوا، و اذا طربوا طابوا، و اذا طابوا ذابوا، و اذا ذابوا خلصوا،
و اذا خلصوا طلبوا، و اذا طلبوا وجدوا، و اذا وجدوا و صلوا، و اذا وصلوا
اتصلوا، و اذا اتصلوا لا فرق بينهم و بين حبيبهم » (4) . و قال سيد الشهداء فى دعاء
عرفة: «انت الذى ازلت الاغيار عن قلوب احبائك حتى لم يحبوا سواك و لم يلجاوا
الى غيرك » . و قال (ع) : «يا من اذاق احباءه حلاوة المؤانسة فقاموا بين يديه
متملقين » . و في المناجاة الانجيلية المنسوبة الى سيد الساجدين (ع) : «و عزتك! لقد
احببتك محبة استقرت في قلبي حلاوتها، و انست نفسى ببشارتها، و محال في عدل
اقضيتك ان تسد اسباب رحمتك عن معتقدى محبتك » . و في مناجاته الاخرى: «الهى
فاجعلنا من الذين توشحت اشجار الشوق اليك في حدائق صدورهم، و اخذت لوعة محبتك
بمجامع قلوبهم » . . . ثم قال: «و الحقنا بعبادك الذين هم بالبدار اليك يسارعون، و
بابك على الدوام يطرقون، و اياك في الليل و النهار يعبدون، و هم من هيبتك مشفقون،
الذين صفيت لهم المشارب، و بلغتهم الرغائب، و انجحت لهم المطالب، و قضيت لهم
من وصلك المآرب، و ملات لهم ضمائرهم من حبك، و رويتهم صافي شرابك، فبك الى
لذيذ مناجاتك وصلوا، و منك على اقصى مقاصدهم حصلوا» . . . ثم قال: «فقد انقطعت اليك
همتى، و انصرفت نحوك رغبتي، فانت لا غيرك مرادى، و لك لا سواك سهرى و سهادي.

و لقاؤك قرة عيني، و وصلك منى نفسي، و اليك شوقي، و في محبتك و لهى، و الى هواك صبابتي،
و رضاك بغيتي، و رؤيتك حاجتي، و حوارك طلبي، و قربك غاية مسالتي، و في مناجاتك
روحى و راحتي، و عندك دواء علتي، و شفاء غلتي، و برد لوعتي، و كشف كربتى » . . . ثم قال: «و
لا تقطعنى عنك، و لا تباعدنى منك، يا نعيمى و جنتى! و يا دنياى و آخرتى! » .

و قال (ع) ايضا: «الهى! من ذا الذى ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلا، و من ذا
الذى انس بقربك فابتغى عنك حولا، الهى! فاجعلني ممن اصطفيته لقربك و ولايتك، و
اخلصته لودك و محبتك، و شوقته الى لقائك، و رضيته بقضائك، و منحته بالنظر الى
وجهك، و حبوته برضاك، و اعذته من هجرك » . . . ثم قال: «و هيمت قلبه لارادتك، و
اجتبيته لمشاهدتك، و اخليت وجهه لك، و فرغت فؤاده لحبك » . . . ثم قال: «اللهم
اجعلنا ممن دابهم الارتياح اليك و الحنين، و دهرهم الزفرة و الانين، و جباههم
ساجدة لعظمتك، و عيونهم ساهرة في خدمتك، و دموعهم سائلة من خشيتك و قلوبهم معلقة
محبتك، و افئدتهم منخلعة من مهابتك. يا من انوار قدسه لابصار محبيه رائقة، و
سبحات نور وجهه لقلوب عارفيه شائقة! يا منى قلوب المشتاقين، و غاية آمال
المحبين! اسالك حبك و حب من يحبك و حب كل عمل يوصل الى قربك، و ان تجعلك احب
الي ممن سواك » . و قال (ع) ايضا: «الهى! ما الذ خواطر الالهام بذكرك على القلوب، و
ما احلى المسير اليك في مسالك الغيوب، و ما اطيب طعم حبك، و ما اعذب شرب
قربك » .

و قال (ع) ايضا: «و غلتى لا يبردها الا وصلك، و لوعتى لا يطفيها الا لقاؤك و شوقي
اليك لا يبله الا النظر الى وجهك، و قرارى لا يقر دون دنوى منك، و لهفتى لا يردها الا
روحك، و سقمى لا يشفيه الا طبك، و غمى لا يزيله لا قربك، و جرحى لا يبرؤه الا صفحك، و
رين قلبي لا يجلوه الا عفوك، و وسواس صدرى لا يزيحه الا امرك » (5) . و قال الصادق (ع) : «حب
الله اذا اضاء على سر عبد اخلاص عن كل شاغل و كل ذكر سوى الله، و المحب اخلص الناس
سرا لله، و اصدقهم قولا، و اوفاهم عهدا، و ازكاهم عملا، و اصفاهم ذكرا، و اعبدهم
نفسا، تتباهى الملائكة عند مناجاته، و تفتخر برؤيته، و به يعمر الله بلاده، و
بكرامته يكرم الله عباده، و يعطيهم اذا سالوه بحقه، و يدفع عنهم البلايا برحمته،
و لو علم الخلق ما محله عند الله و منزلته لديه ما تقربوا الى الله الا بتراب قدميه »
. و قال امير المؤمنين (ع) : «حب الله نار لا يمر على شى ء الا احترق، و نور الله لا
يطلع على شى ء الا اضاء، و سماء الله ما ظهر من تحته شى ء الاغطاه، و ريح الله ما تهب
في شى ء الا حركته، و ماء الله يحيى به كل شى ء، و ارض الله ينبت منها كل شى ء، فمن احب
الله اعطاه كل شى ء من الملك و الملك » .

و قال النبي (ص) : «اذا احب الله عبدا من امتي قذف في قلوب اصفيائه و ارواح
ملائكته و سكان عرشه محبته ليحبوه، فذلك المحب حقا، طوبى له ثم طوبى له! و له عند
الله شفاعة يوم القيامة » (6) . الى هنا كلام الصادق -عليه السلام-. و ما ورد في
الحب من الاخبار و الادعية المعصومية اكثر من ان يحصى، و حكايات العشاق و
المحبين لم تبلغ من الكثرة و التواتر حدا يمكن انكاره، و قد روى: «ان داود-عليه
السلام-سال ربه ان يريه بعض اهل محبته، فقال له: انت جبل لبنان، فان فيه
اربعة عشر نفسا، فيهم شبان و كهول و مشايخ، و اذا اتيتهم فاقراهم منى السلام،
و قل لهم: يقول ربكم: الا تسالونى حاجة، فانكم احبائى و اصفيائى و اوليائى، افرح
لفرحكم و اسارع الى محبتكم. فاتاهم داوود، فوجدهم عند عين من العيون، يتفكرون في
عظمة الله و ملكوته، فلما نظروا الى داود، نهضوا ليتفرقوا عنه، فقال لهم داود:
انا رسول الله اليكم، جئتكم لا بلغكم رسالة ربكم. فاقبلوا نحوه، و القوا اسماعهم
نحو قوله، و القوا ابصارهم الى الارض، فقال داوود: ربكم يقرؤكم السلام، و يقول لكم:
الا تسالونى حاجة، الاتنادونى فاسمع صوتكم و كلامكم؟ فانكم احبائى و اصفيائى و
اوليائى، افرح لفرحكم و اسارع الى محبتكم، و انظر اليكم في كل ساعة نظر الوالدة
الشفيقة الرفيقة. و لما قال داود ذلك جرت الدموع على خدودهم، و سبح الله كل واحد منهم
و مجده، و ناجاه بكلمات تدل على احتراق قلوبهم من الحب و الشوق » .

فصل


(معرفة الله اقوى سائر اللذات)


قد عرفت ان الحب هو الميل الى الشى ء الملذ الملائم للمدرك و الابتهاج بادراك
الملائم و نيله، و اللذة هى نفس ادراك الملائم الملذ و نيله، و هذا الادراك ان كان
متعلقا بالقوة العاقلة-اى ان كان المدرك هو القوة العاقلة- عبر عنه بالعلم و المعرفة،
و قد عرفت انه اقوى و اشد و اشرف من الادراكات الحسية، التى هى الابصار و
الاستماع و الذوق و الشم و اللمس.

ثم هذا الادراك-اعني العلم و المعرفة-يختلف ايضا في الشرافة و الكمال بحسب
شرافة المدرك، اي المعلوم. فكلما كان المدرك اجل و اشرف كان الادراك-اى المعرفة
به-اجل و اعلى. و لا ريب في ان الواجب -سبحانه-اشرف الموجودات و اجلها.
فالمعرفة به اعلى المعارف و اشرفها.

و يثبت من ذلك: ان اجل اللذات و اعلاها هو معرفة الله-تعالى-و النظر الى وجهه
الكريم، و لا يتصور ان يؤثر عليها لذة اخرى الا من حرم هذه اللذة. و بيان ذلك
بوجه اوضح: ان اللذات تابعة للادراكات، و الانسان جامع لجملة من القوى و
الغرائز، و لكل قوة و غريزة لذة، و لذتها عبارة عن نيلها مقتضى طبعها الذى خلقت له،
فغريزة الغضب لما خلقت للتشفى و الانتقام، فلا جرم لذتها في الغلبة و
الانتقام، و غريزة الشهوة لما خلقت لتحصيل الغذاء الذى به القوام، فلا جرم
لذتها في نيل الغذاء، و كذلك لذة السمع و البصر و الشم في الاستماع و الابصار و
الاستشمام، و غريزة العقل المسماة بالبصيرة الباطنية خلقت لتعلم بها حقائق
الاشياء كلها، فلذتها في العلم و المعرفة، و العلم لكونه منتهى الكمال و اخص صفات
الربوبية، يكون اقوى اللذات و الابتهاجات، و لذلك يرتاح الطبع اذا اثني عليه
بالذكاء و غزارة العلم، لانه يستشعر عند سماع الثناء كمال ذاته و جمال علمه،
فيعجب بنفسه، و يلتذ به.

و التحقيق: ان الادراك و النيل الذى هو الكمال ليس الا العلم، و سائر
الادراكات-اعنى نيل الغلبة و الغذاء و الاسماع و الابصار و الاستشمام-لا تعد
كمالات. ثم ليست لذة كل حلو واحدة، فان لذة العلم بالحراثة و الخياطة و الحياكة
ليست كلذة العلم بسياسة الملك و تدبير امور الخلق، و لا لذة العلم بالنحو و الشعر و
التواريخ كلذة العلم بالله و بصفاته و ملائكته و ملكوت السماوات و الارض، بل لذة
العلم بقدر شرف العلم، و شرف العلم بقدر شرف المعلوم، فان كان في المعلومات ما هو
الاشرف و الاجل و الاعظم و الاكمل، فالعلم به الذ العلوم و اشرفها و اكملها و
اطيبها، و ليت شعرى هل في الوجود شى ء اعلى و اجمل و اشرف و اكمل من خالق الاشياء
كلها و قيومها، و مكملها و مربيها، و مبدئها و معيدها، و مدبرها و مرتبها؟ ! و هل
يتصور ان يكون احد في الملك و الكمال و العظمة و الجلال و القدرة و الجمال و
الكبرياء و البهاء اعظم ممن ذاته في صفات الكمال و نعوت الجلال فوق التمام،
و قدرته و عظمته و ملكه و علمه غير متناهية؟ فان كنت لا تشك في ذلك، فينبغى الا تشك
في ان لذة المعرفة به اقوى من سائر اللذات لمن له البصيرة الباطنة و غريزة
المعرفة، فان اللذات مختلفة بالنوع اولا، كمخالفة لذة الوقاع و لذة السماع، و لذة
المعرفة و لذة الرئاسة، و كل نوع مختلف بالضعف و القوة، كمخالفة لذة الشبق المغتلم (7)
من الجماع، و لذة الفاتر الشهوة منه، و كمخالفة لذة النظر الى الوجه الجميل و
لذة النظر الى الوجه الاجمل، و مخالفة لذة العلم باللغات و لذة العلم بالسماويات،
و انما يعرف اقوى اللذتين من اضعفهما بان يؤثر عليه، فان المخير بين النظر الى
صورة جميلة و بين استنشاق روايح طيبة، اذا اختار الاول كان عنده الذهن الثانى،
و المخير بين الاكل و اللعب بالشطرنج، اذا اختار الثانى كانت لذة الغلبة في
الشطرنج اقوى عنده من لذة الاكل، و هذا معيار في الكشف عن ترجيح اللذات.

و حينئذ نقول: لا ريب في ان المعانى و اللذات الباطنة اغلب على ذوى الكمال من
اللذات الظاهرة، فلو خير الرجل بين لذة اكل المطاعم الطيبة و لذة الرئاسة و
الاستيلاء، فان كان عالى الهمة كامل العقل، اختار الرئاسة و ترك الاكل، و صبر على
الجوع اياما كثيرة فضلا عن مدة قليلة. نعم، ان كان خسيس الهمة ميت القلب، ناقص
العقل و البصيرة، كالصبي و المعتوه، ربما اختار لذة الاكل، و فعل مثله ليس حجة.
ثم كما ان لذة الرئاسة و الكرامة اغلب و ارجح من اللذات الحسية عند من جاوز
نقصان الصبى و السفاهة، فكذلك لذة المعرفة بالله و مطالعة جمال الحضرة
الربوبية الذعنده من لذة الرئاسة، بشرط ان يكون ممن ذاق اللذتين و ادركهما، فلو
كان ممن لم يذق لذة المعرفة بالله لم يكن اهلا للترجيح و محلا للكلام، لاختصاص لذة
المعرفة بمن نال رتبتها و ذاقها، و لا يمكن اثبات ذلك عند من ليس له قلب، كما
لا تثبت لذة الابصار عند الاعمى، و لذة الاستماع عند الاصم، و لذة الوقاع عند
العنين، و لذة الرئاسة عند الصبي و المعتوه، و ليت شعرى من لا يفهم الا حب
المحسوسات كيف يؤمر بلذة النظر الى وجه الله-تعالى- و ليس له شبه و شكل و صورة؟
فحقيقة الحال كما قيل: «من ذاق عرف » ، فمن ذاق اللذتين يترك لذة الرئاسة قطعا، و
يستحقر اهلها لكونها مشوبة بالكدورات و مقطوعة بالموت، و يختار لذة المعرفة
بالله، و مطالعة صفاته و افعاله، و نظام مملكته من اعلى عليين الى اسفل
السافلين، فانها خالية عن الانقطاع و المكدرات، متسعة للمتواردين عليها، لا
تضيق بكثرتهم دائما، و عرضها من حيث التفهيم و التمثيل اعظم من السماوات و
الارض، و من حيث الواقع و نفس الامر فلا نهاية لعرضها، فلا يزال العارف
بمطالعتها و مشاهدتها في جنة غير متناهية الاطراف و الاقطار، يرتع في رياضها، و
يكرع (8) في حياضها، و يقطع من اثمارها، و هو آمن من انقطاعها، اذ ثمارها غير
مقطوعة و لا ممنوعة، بل هي ابدية سرمدية لا يقطعها الموت، اذ الموت لا يهدم النفس
الناطقة التي هى محل المعرفة، و انما يقطع شواغلها و عوائقها و يخليها من جنسها،
فاذن جميع اقطار ملكوت السماوات و الارض، بل اقطار عالم الربوبية التى هى
غير متناهية، ميدان للعارفين، يتبؤون منها حيث يشاؤن، من غير حاجة الى حركة
اجسامهم، و من غير ان يضيق بعضهم على بعض اصلا، الا انهم يتفاوتون في سعة
ميادينهم بحسب تفاوتهم في اتساع الانظار و سعة المعارف:

«و لكل درجات مما عملوا» (9) .

و لا يدخل في الحصر تفاوت درجاتهم، و من عرف هذه اللذة انمحت همومه و شهواته، و
صار قلبه مستغرقا بنعيمها، و لا يشغله عن الله خوف النار و لا رجاء الجنة، فكيف
تشغله عنه لذات الدنيا و علائقها، و كان في الدنيا و الآخرة مشغولا بربه، فلو القى
في النار لم يحس به لاستغراقه، و لو عرض عليه نعيم الجنة لم يلتفت اليه لكمال نعيمه
و بلوغه الغاية التى ليس فوقها غاية، و لعل سيد الرسل (ص) عبر عن هذه اللذة-اي لذة
مطالعة جمال الربوبية-حيث قال حاكيا عن الله-سبحانه-: «اعددت لعبادى
الصالحين مالا عين رات، و لا اذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر» . و هذه اللذة هى
المرادة من قوله-تعالى-:

«فلا تعلم نفس ما اخفي لهم من قرة اعين » (10) .

و ربما تعجل بعض هذه اللذات لمن انتهى صفاء قلبه الى الغاية، و مع ذلك لا يخلو
عن توسط بعض الحجب المانعة عن الوصول الى كنهها، ما لم يحصل التجرد الكلى و
خلع البدن العنصرى، و لذلك قال بعضهم: انى اقول: «يا رب يا الله! فاجد ذلك اثقل على
قلبي من الجبال، لان النداء يكون من وراء حجاب، و هل رايت جليسا ينادى جليسه؟ ! » .
ثم من عرف الله و عرف حقيقة هذه اللذة، عرف ان اللذات المقرونة بالشهوات
المختلفة منطوية تحت هذه اللذة، كما قيل:

كانت لقلبي اهواء مفرقة
فاستجمعت مذ راتك العين اهوائى
فصار يحسدنى من كنت احسده
و صرت مولى الورى مذ صرت مولائى
تركت للناس دنياهم و دينهم
شغلا بذكرك يا ديني و دنيائى

فصل


(تحقق رؤية الله في الآخرة و لذة لقائه)


اعلم ان معرفة الله اذا حصلت في الدنيا لم تكن خالية عن كدرة ما-كما اشير اليه-،
الا انه اذا اكتسب اصلها في الدنيا فيزيدها في الآخرة انكشافا و جلاء بقدر صفاء
القلوب و زكائها و تجردها عن العلائق الدنيوية، الى ان يصير اجلى و اظهر من
المشاهدة بمراتب، فالاختلاف بين ما يحصل في الدنيا من المعرفة و ما يحصل في
الآخرة من المشاهدة و اللقاء انما هو بزيادة الانكشاف و الجلاء.

مثال ذلك: ان من راى انسانا، ثم غض بصره، وجد صورته حاضرة في خياله كانه ينظر
اليها، و لكن اذا فتح العين و ابصر، ادرك تفرقة بين حالتي غض العين و فتحها، و
لا ترجع التفرقة الى اختلاف بين بين الصورتين لاتحادهما، بل الافتراق انما
هو بمزيد الكشف و الوضوح، فالصورة المتخيلة صارت بالرؤية اتم انكشافا، فاذا
الخيال اول الادراك، و الرؤية استكمال لادراك الخيال، و هي غاية الكشف، لا لانها في
العين، بل لو خلق الله هذا الادراك الكامل المتجلي في الصدر او الجبهة او اى
عضو فرض استحق ان يسمى رؤية. و اذا فهمت هذا في المتخيلات-اي المدركات التي
تدخل في الخيال من الصور و الاجسام-فقس عليه الحال في المعلومات -اي ما يدرك
بالعقل-، و لا يدخل في الخيال كذات البارى، و كل ما ليس بجسم، كالعلم و القدرة و
الارادة و غيرها، فان لمعرفتها و ادراكها ايضا درجتين: احداهما: اولى، و
الثانية: استكمال لها، و بينهما من التفاوت في مزيد الكشف و الايضاح ما بين
المتخيل و المرئي، فتسمى الثانية بالاضافة الى الاولى لقاء و مشاهدة و رؤية، و هذه
التسمية حق، لان الرؤية سميت رؤية لانها غاية الكشف، و كما ان سنة الله جارية بان
تطبق الاجفان يمنع من تمام الكشف الذي هو الرؤية في المتخيلات، فكذلك سنته ان
النفس ما دامت محجوبة بالبدن و عوارضه و شهواته، لم يحصل لها تمام الكشف الذي
هي المشاهدة و اللقاء في المعلومات الخارجية عن الخيال، فاذا ارتفع بالموت
حجاب البدن، و خلصت النفس، لم يكن بعد في غاية التنزه عن كدورات الدنيا، بل كانت
ملوثة بها، الا ان النفوس مختلفة فى ذلك: فمنها: ما تراكم عليه الخبث و الصدى،
فصار كالمرآة التي فسد بطول تراكم الخبث جوهرها، فلا تقبل الاصلاح و التصقيل.
و هؤلاء هم المحجوبون عن ربهم ابد الآباد.

نعوذ بالله من ذلك، و منها: ما لم ينته الى حد الرين و الطبع، و لم يخرج عن قبول
التزكية و التصقيل، و هذه النفوس غير متناهية الدرجات و المراتب.

اذ المتلوث بالكدورات عرض عريض في (الواقع) بين الرين و الطبع، و بين
التزكية التامة و التجرد الكلي الذي لم يكن فيه شوب من الكدورات.

و هذه النفوس المتلوثة على اختلاف درجاتها و مراتبها تحتاج الى التطهير
لتستعد للمشاهدة و اللقاء بتجلي الحق فيها، و تطهيرها انما هو بنوع عقوبة من
العقوبات الاخروية. و هي كمراتب التلوث غير متناهية الدرجات اولها سكرة
الموت، و آخرها الدخول في النار، و ما بينهما عقوبات البرزخ و اهوال القيامة
بانواعها، فكل نفس لا بد لها من عقوبة من هذه العقوبات لتتطهر من كدورتها:
فمنها: ما يتطهر بمجرد سكرة الموت و شدة النزع، و منها: ما يتطهر بها، و ينقص
عقوبات البرزخ، و منها: ما لا يتطهر الا بان يذوق بعض عقوبات الآخرة، و منها ما
لا يحصل تطهيره الا بالعرض على النار عرضا يقمع منها الخبث الذي تدنست به. فربما
كان ذلك لحظة حقيقة، و ربما كان سبعة آلاف سنة-كما وردت به الاخبار-و ربما كان اقل
او اكثر، و لا يعلم تفصيل ذلك الا الله-سبحانه-، و المحجوبون الذين بلغوا حد
الرين و الطبع يكونون مخلدين في النار.

ثم النفوس القابلة للتطهير اذا اكمل الله تطهيرها و تزكيتها، و بلغ الكتاب
اجله، استعدت حينئذ لصفائها و نقائها عن الكدورات لان تتجلى فيها جلية الحق،
فتتجلى فيها تجليا يكون انكشاف تجليه بالاضافة الى ما علمته و عرفته
كانكشاف تجلى المرئيات بالاضافة الى المتخيلات، و هذه المشاهدة و التجلي
تسمى رؤية، لانه في الظهور و الجلاء و الوضوح و الانكشاف كالرؤية بالبصر، بل هو
فوقه بمراتب شتى، اذ الرائي في الاول العقل، و في الثاني البصر، و شتان ما
بينهما، فان الاختلاف في مراتب الادراك و الرؤية بحسب اختلاف نورية المدرك، و
اي نسبة لنورية البصر الى نورية العقل و اشراقه، و ما للعقل من النفوذ في حقائق
الاشياء و بواطنها انى يكون للبصر.

و قد ظهر مما ذكر: انه لا يفوز بدرجة الرؤية و المشاهدة الا العارفون في الدنيا، لان
المعرفة هي البذر الذي ينقلب في الآخرة مشاهدة، كما تنقلب النواة شجرة و البذر
زرعا، و من لا نواة له كيف يحصل له النخل، و من لم يلق البذر كيف يحصد الزرع، فمن
لم يعرف الله في الدنيا فكيف يراه في الآخرة، و من لم يجد لذة المعرفة في الدنيا
فلا يجد لذة النظر في العقبى، اذ لا يستانف لاحد في الآخرة ما لم يصحبه في الدنيا،
فلا يحصد المرء الا ما زرع، و لا يحشر الا على ما مات عليه، و لا يموت الا على ما عاش
عليه.

و لما كانت المعرفة على درجات متفاوتة، يكون التجلى ايضا على درجات متفاوتة،
فاختلاف التجلي بالاضافة الى اختلاف المعارف كاختلاف النبات بالاضافة
الى اختلاف البذور، اذ يختلف لا محالة، بكثرتها، و قلتها، وجودتها، و رداءتها،
و ضعفها. ثم كلما كان التجلي و المشاهدة اقوى، كان ما يترتب عليه من حب الله و
الانس به اشد و اقوى، و كلما كان الحب و الانس ازيد، كان ما يترتب عليه من
البهجة و اللذة اعلى و اقوى، و تبلغ هذه اللذة مرتبة لا تؤثر عليها لذة اخرى من
نعيم الجنة، بل ربما بلغت حدا تتاذى من كل نعيم سوى لقاء الله و مشاهدته، فالنعمة و
البهجة في الجنة بقدر حب الله، و حب الله بقدر معرفته، فاصل السعادات هي المعرفة
التي عبر الشرع عنه ب (الايمان) .

فان قيل: اللقاء و المشاهدة ان كانت زيادة كشف للمعرفة حتى تتحقق بين لذة الرؤية
و لذة المعرفة نسبة، لكانت لذة اللقاء و الرؤية قليلة، و ان كانت اضعاف لذة المعرفة،
اذ هي في الدنيا ضعيفة. فتضاعفها الى اي حد فرض لا ينتهى في القوة، الا ان يستحقر
في جنبها سائر لذات الجنة و نعيمها قلنا: هذا الاستحقار و التقليل للذة المعرفة
باعثه عدم المعرفة او ضعفها، فان من خلا عن المعرفة، او كانت له معرفة ضعيفة و قلبه
مشحون بعلائق الدنيا لا يدرك لذتها، فمن كملت معرفته و صفت عن علائق الدنيا سريرته،
قويت بهجته و اشتدت لذته بحيث لا توازنها لذة، فان للعارفين في معرفتهم و
فكرتهم و مناجاتهم لله-عز و جل-ابتهاجات و لذات لو عرضت عليهم الجنة و نعيمها
في الدنيا بدلا عنها لم يستبدلوها بها. ثم هذه اللذة مع كمالها لا نسبة لها اصلا
الى لذة اللقاء و المشاهدة، كما لا نسبة للذة خيال المعشوق الى رؤيته، و لا للذة
استنشاق روائح الاطعمة الطيبة الى ذوقها و اكلها، و لا للذة اللمس باليد الى لذة
الوقاع.

و مما يوضح ذلك، ان لذة النظر الى وجه المعشوق تتفاوت بامور:

احدها-كمال جمال المعشوق و نقصانه. و ثانيها-كمال قوة الحب و الشهوة و ضعفه.

و ثالثها-كمال الادراك و ضعفه، فان الالتذاذ برؤية المعشوق في ظلمة، او من بعد، او
من وراء ستر رقيق، ليس كالالتذاذ برؤيته على قرب من غير ستر عند كمال الضوء.

و رابعها-عدم الآلام الشاغلة و العوائق المشوشة و وجودها، فان التذاذ الصحيح
الفارغ المتجرد للنظر الى المعشوق ليس كالتذاذ الخائف المذعور او المريض
المتالم، او المشغول قلبه بهم من المهمات، فلو كان العاشق ضعيف الحب، ناظرا
الى معشوقة على بعد و من وراء ستر رقيق، مشغول القلب بمهمات، مجتمعة عليه حيات و
عقارب تؤذيه و تلذعه، لم يكن خاليا عن لذة ما في هذه الحالة من مشاهدة معشوقه، الا
انه اذا فرض ارتفاع الستر و اشراق الضوء، و اندفاع الحيات و العقارب المؤذية،
و فراغ قلبه من المهمات، و حدوث عشق مفرط، و شهوة قوية، بحيث بلغت اقصى الغايات،
تضاعفت لذته، بحيث لم تكن للذته الاولى نسبة اليها بحجه.

فكذلك الحال في نسبة لذة المعرفة في الدنيا مع حجاب البدن و الاشتغال
بمهماته، و مع تسلط حيات الشهوات و عقاربها: من الجوع، و العطش، و الشبق، و
الغضب، و الحزن، و الهم، و مع ضعف النفس و قصورها و نقصانها في الدنيا عن التشوق
الى الملا الاعلى لالتفاتها الى اسفل السافلين الى لذة اللقاء و المشاهدة التي
يندفع فيها جميع ذلك عن النفس، فالعارف لعدم خلوه فى الدنيا عن هذه العوائق و
المشوشات و ان قويت معرفته لا يمكن ان تكمل لذته و تصفو بهجته، و ان ضعفت عوائقه و
مشوشاته في بعض الاحوال و بقى سالما، لاح له من جمال المعرفة ما تعظم لذته و
بهجته و يدهش عقله، بحيث يكاد القلب يتفطر لعظمته، الا ان ذلك كالبرق الخاطف، و لا
يمكن ان يدوم، اذ الخلو عن العوائق و المشوشات ليس يمكن ان يدوم، بل هو آنى، و
يعرض بعد الآن من الشواغل و الافكار و الخواطر ما يشوشه و ينقصه، و هذه ضرورة قائمة في
هذه الحياة الفانية. فلا تزال هذه اللذة منقصة الى الموت. و انما الحياة الطيبة
بعده، و انما العيش عيش الآخرة، فان الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون. و
لذا كل عارف كملت معرفته في الدنيا و احب لقاء الله يحب الموت و لا يكرهه، الا
من حيث ارادة زيادة استكمال في المعرفة، فان المعرفة-كما عرفت-بمنزلة البذر.
و كلما كثرت المعرفة بالله و بصفاته و بافعاله و باسرار مملكته قويت المشاهدة و
اشتدت، و كثر النعيم في الآخرة و عظم، كما انه كلما كثر البذر و حسن كثر الزرع و
حسن، و لا ريب في ان المعرفة لا تنتهي الى مرتبة لا تكون فوقها مرتبة، اذ بحر
المعرفة لا ساحل له. و الاحاطة بكنه جلال الله محال. فالعارف و ان قويت معرفته،
ربما احب طول العمر و كره الموت لتزداد معرفته.

ثم اهل السنة قالوا: «ان الرؤية في الآخرة مع تنزهها عن التخيل و التصور و التقدير
بالشكل و الصورة و التحديد بالجهة و المكان: تكون بالعين دون القلب » : (و هو عندنا
باطل) : اذ الرؤية بالعين محال فى حق الله -تعالى-، سواء كانت في الدنيا او في
الآخرة، فكما لا تجوز رؤية الله -سبحانه-في الدنيا بالعين و البصر، فكذلك لا
تجوز في الآخرة، و كما تجوز رؤيته في الآخرة بالعقل و البصيرة لاهل البصائر-اعني
غاية الانكشاف و الوضوح بحيث تتادى الى المشاهدة و اللقاء-فكذلك تجوز رؤيته في
الدنيا بهذا المعنى، و الحجاب بينه و بين خلقه ليس الا الجهل و قلة المعرفة دون
الجسد، فان العارفين و اولياء الله يشاهدونه في الدنيا في جميع احوالهم و
منصرفاتهم، و ان كان الحاصل في الآخرة ازيد انكشافا و اشد انجلاء بحسب زيادة
صفاء النفوس و زكائها و مجردها عن العلائق الدنيوية-كما تقدم مفصلا-، و قد ثبت ذلك
من ائمتنا الراشدين العارفين باسرار النبوة، روى شيخنا الاقدم (محمد بن يعقوب
الكليني) و شيخنا الصدوق (محمد بن علي بن بابويه) -رحمهما الله-باسنادهما الصحيح عن
الصادق (ع) : «انه سئل عما يروون من الرؤية، فقال: الشمس جزء من سبعين جزء من نور
الكرسي، و الكرسي جزء من سبعين جزء من نور العرش. و العرش جزء من سبعين جزء من نور
الحجاب، و الحجاب جزء من سبعين جزء من نور الستر، فان كانوا صادقين
فليملاوا اعينهم من نور الشمس ليس دونها سحاب » . و باسنادهما عن احمد بن اسحاق
قال: «كتبت الى ابي الحسن الثالث (ع) اساله عن الرؤية و ما اختلف فيه الناس،
فكتب: لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي و المرئي هواه ينفذه البصر، فاذا
انقطع الهواء عن الرائي و المرئي لم تصح الرؤية و كان في ذلك الاشتباه، لان
الرائي متى ساوى المرئى في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه، و
كان ذلك التشبيه، لان الاسباب لا بد من اتصالها بالمسببات » .

و عن ابي بصير عن الصادق (ع) قال: «قلت له: اخبرني عن الله-عز و جل- هل يراه المؤمنون
يوم القيامة؟ قال: نعم! و قد راوه قبل يوم القيامة. فقلت:

متى؟ قال: حين قال لهم: الست بربكم، قالوا: بلى. . . ثم سكت ساعة، ثم قال: و ان
المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة، الست تراه في وقتك هذا؟ ! قال ابو
بصير: فقلت له: جعلت فداك! فاحدث بهذا عنك؟

فقال: لا! فانك اذا حدثت به فانكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله، ثم قدر ان ذلك
تشبيه كفر، و ليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى الله عما يصفه المشبهون
و الملحدون » . و سئل امير المؤمنين (ع) : «هل رايت ربك حين عبدته؟ فقال: ويلك! ما كنت
اعبد ربا لم اره. قيل: و كيف رايته؟

قال: ويلك! لا تدركه العيون في مشاهدة الابصار، و لكن راته القلوب بحقائق الايمان » (11) .
و قال سيد الشهداء (ع) . «كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر اليك، ايكون لغيرك
من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتى تحتاج الى دليل يدل
عليك، و متى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل اليك؟ عميت عين لا تراك عليها
رقيبا، و خسرت صفقة عبد لم تجعل من حبك نصيبا! » ، و قال (ع) ايضا: «تعرفت لكل شى ء
فما جهلك شي ء» ، و قال: «و انت الذي تعرفت الي في كل شي ء، فرايتك ظاهرا في كل شي ء، و
انت الظاهر لكل شي ء» (12) . و امال ذلك مما ورد عنهم-عليهم السلام-اكثر من ان تحصى.

فصل


(الطريق الى الرؤية و اللقاء)


الطريق الى تحصيل محبة الله و تقويتها ثم استعداد الرؤية و اللقاء امران:

احدهما-تطهير القلب من شواغل الدنيا و علائقها، و التبتل الى الله بالذكر و
الفكر، ثم اخراج حب غير الله من القلب، اذ القلب مثل الاناء الذي لا يسع
الماء-مثلا-ما لم يخرج منه الخل. و ما جعل الله لرجل من قلبين فى جوفه، و كمال
الحب في ان يحب الله بكل قلبه، و ما دام يلتفت الى غيره، فزاوية من قلبه مشغولة
بغيره، و بقدر ما يشتغل بغير الله ينقص منه حب الله، الا ان يكون التفاته الى الغير
من حيث انه صنع الله-تعالى-و فعله، و مظهر من مظاهر اسماء الله-تعالى-، و الى هذا
التجريد و التفريد الاشارة بقوله-تعالى-:

«قل الله ثم ذرهم » (13)

و ثانيهما-تحصيل معرفة الله و تقويتها و توسيعها و تسليطها على القلب، و
الاول، اعني قطع العلائق، بمنزلة تنقية الارض من الحشائش، و الثاني، اي المعرفة، بمنزلة
البذر فيها، ليتولد منه شجر المحبة.

ثم لتحصيل المعرفة طريقان:

احدهما-الاعلى، و هو الاستدلال بالحق على الخلق، و ذلك بان يعرف الله بالله، و به
يعرف غيره، اي افعاله و آثاره، و الى هذا اشير في الكتاب الالهي بقوله:

«ا و لم يكف بربك انه على كل شي ء شهيد» (14) .

و هذا الطريق غامض، و فهمه صعب على الاكثرين. و قد اشرنا الى كيفيته في بعض
كتبنا الالهيات.

و ثانيهما-و هو الادنى، الاستدلال بالخلق على الحق-سبحانه-، و هذا الطريق في غاية
الوضوح، و اكثر الافهام يتمكن من سلوكه، و هو متسع الاطراف، و متكثر الشعوب و
الاكناف، اذ ما من ذرة من اعلى السماوات الى تخوم الارضين الا و فيها
عجائب آيات و غرائب بينات، تدل على وجود الواجب و كمال قدرته و غاية حكمته و
نهاية جلاله و عظمته، و ذلك مما لا يتناهى.

«قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي » (15) .

و عدم وصول بعض الافهام من هذا الطريق الى معرفة الله مع وضوحه، انما هو
للاعراض عن التفكر و التدبر و الاشتغال بشهوات الدنيا و حظوظ النفس. ثم سلوك هذا
الطريق، اي الاستدلال على الله-تعالى-و على كمال قدرته و عظمته، بالتفكير في
الآيات الآفاقية و الانفسية، خوض في بحار لا ساحل لها، ان عجائب ملكوت السماوات
و الارض مما لا يمكن ان تحيط به الافهام، فان القدر الذي تبلغه افهامنا
القاصرة من عجائب حكمته الباهرة تنقضي الاعمار دون ايضاحه، و لا نسبة لما
احاط به علمنا الى ما احاط به علم العلماء، و لا نسبة له الى ما احاط به علم
الانبياء، و لا نسبة له الى ما احاط به الخلائق كلهم، و لا نسبة له الى ما
استاثر الله بعلمه، بل كلما عرفه الخلائق جميعا لا يستحق ان يسمى علما في جنب علم
الله، و نحن قد اشرنا الى لمعة يسيرة من عجائب حكمته المودعة فى بعض مخلوقاته في
مبحث التفكر.

فصل


(تفاوت المؤمنين في محبة الله)


اعلم ان المؤمنين جميعا مشتركون في اصل محبة الله لاشتراكهم في اصل الايمان، و
لكنهم متفاوتون في قدرها، و سبب تفاوتهم امران:

احدهما-اختلافهم في المعرفة و حب الدنيا، فان اكثر الناس ليس لهم من معرفة
الله الا ما قرع اسماعهم من كونه متصفا بصفات كذا و كذا، من دون وصول الى حقيقة
معناها، و الى اعتقادهم بان الموجودات المشاهدة صادرة عنه، من غير تدبر في
عجائب القدرة و غرائب الحكمة المودعة فيها و اما العارفون، فلهم الخوض في بحر
التفكر و التدبر في انواع المخلوقات.

و استخراج ما فيها من الحكم الخفية، و المصالح العجيبة، التي كل واحد منها كمشعلة
في ازالة ظلمة الجهل، و الهداية الى كمال عظمة الله، و نهاية جلاله و كبريائه، فمثل
الاكثرين كمثل عامي احب عالما بمجرد استماعه انه حسن التصنيف، من دون علم
و دراية بما في تصانيفه، فتكون له معرفة مجملة، و يكون له بحسنه ميل مجمل، و مثل
العارفين كمثل عالم فتش عن تصانيفه، و اطلع على ما فيها من دقائق المعاني و
بلاغة العبارات، و لا ريب في ان العالم بجملته صنع الله و تصنيفه، فمن عرف ذلك
مجملا تكون له بحسبه محبة مجملة، و من وقف على ما فيه من عجائب القدرة و دقائق
الحكمة تكون له غاية الحب، و كلما ازدادت معرفته بوجوه الحكم و المصالح المودعة
في كل مخلوق ازداد حبه، فمن اعتقد ان ما تبنيه النحل من البيوت المسدسة انما هو
بالهام الله-تعالى- اياها، من غير استعداد لفهم الحكمة في اختيار الشكل المسدس
على سائر الاشكال، لا يكون في معرفة الله و ادراك عظمته و حكمته كمن يفهم ذلك و
يتيقنه. ثم كما ان دقائق الحكم و عجائب القدرة غير متناهية، و لا يمكن لاحد ان يحيط
بها، و انما ينتهي كل الى ما يستعد له، فينبغي ان تكون مراتب الحب ايضا غير
متناهية، و كل عبد ينتهي الى مرتبة تقتضيها معرفته.

و ثانيهما-اختلافهم في الاسباب المذكورة للحب، فان من يحب الله لكونه منعما
عليه و محسنا اليه، ضعفت محبته لتغيرها بتغير الانعام و الاحسان و لا يكون حبه
في حالة البلاء كحبه في حالة الرجاء و النعماء. و اما من يحبه لذاته، او بسبب
كماله و جماله و مجده و عظمته، فانه لا يتفاوت حبه بتفاوت الاحسان اليه.

فصل


(الواجب اظهر الموجودات)


عجبا لاقوام عميت قلوبهم عن معرفة الله-سبحانه-، مع ان الله -تعالى-اظهر
الموجودات و اجلاها، لان البديهة العقلية قاضية بانه يجب ان يكون في الوجود
موجود قائم بذاته، اي ما هو صرف الوجود، و لولاه لم يتحقق موجود اصلا، فتحقق صرف
الوجود القائم بذاته المقوم لغيره اظهر و اجلى من تحقق كل موجود بغيره عند
البصيرة الصافية، قال الله-سبحانه-:

«الله نور السماوات و الارض » (16) .

و النور هو الظاهر لنفسه المظهر لغيره، و مبدا الادراك من المدرك انما هو الوجود،
فكلما ادركته انما تدرك اولا وجوده، و ان لم تشعر بذلك. و لا ريب في ان الظاهر
لنفسه اظهر من الظاهر بغيره، و ايضا كل موجود سوى الله-سبحانه-يعلم وجوده بقليل
من الآثار، فان وجود الحياة لزيد-مثلا-لا يدل عليه الا حركته و تكلمه و بعض اخر من
اعراض نفسه، و لا يدل عليه شي ء آخر من سائر الموجودات، و كذا وجود السماء-مثلا-لا
يدل عليه سوى وجود ظهور جسمها و حركتها، و لا يدل عليه شي ء آخر من الموجودات التي
تحتها و فوقها.

و اما وجود الواجب-تعالى-فيدل عليه كل شي ء، اذ ليس في الوجود مدرك محسوس او
معقول، و حاضر او غائب، الا و هو شاهد و معرف لوجوده، فالسبب في خفائه مع كونه اجلى
و اظهر من كل شي ء غاية وضوحه و ظهوره، فان شدة ظهور الشي ء قد يكون سببا لخفائه، لانه يكل
المدارك و يحسرها، فشدة ظهوره-سبحانه-بلغت حدا بهرت العقول و ادهشتها، فضعفت عن
ادراكه. و هذا كما ان الخفاش يبصر بالليل و لا يبصر بالنهار، لا لخفاء النهار و
استتاره، بل لشدة ظهوره و ضعف بصر الخفاش، فان بصره ضعيف يبهره نور الشمس اذا
اشرق، فتكون قوة ظهوره مع ضعف بصره سببا لامتناع ابصاره، فلا يرى شيئا الا اذا
امتزج بالضوء الظلام و ضعف ظهوره، فكذلك عقولنا ضعيفة، و جمال الحضرة الالهية في
نهاية الاشراق و الاستنارة، و في غاية الاستغراق و الشمول، حتى لم تشذ عن ظهوره
ذرة من ملكوت السماوات و الارض، فصار ظهوره سبب خفائه، فسبحان من احتجب
باشراق نوره، و اختفى عن العقول و البصائر بشدة ظهوره! و لا تتعجب من اختفاء شي ء
بسبب شدة ظهوره، فان الاشياء انما تستبان باضدادها، و ما عم وجوده حتى لا ضد له
عسر ادراكه. فلو اختلفت الاشياء، فدل بعضها على الله-تعالى-دون بعض، ادركت
التفرقة على قرب، و لما اشتركت فى الدلالة على نسق واحد، اشكل الامران، و مثاله
نور الشمس المشرق على الارض فانا نعلم انه عرض من الاعراض يحدث في الارض، و
يزول عند غيبة الشمس، فلو كانت الشمس دائمة الاشراق لا غروب لها، لكنا نظن ان لا هيئة في
الاجسام الا الوانها، و هي السواد و البياض و غيرهما، و اما الضوء فلا
تدركه وحده، لكن لما غابت الشمس و اظلمت المواضع ادركنا تفرقة بين الحالتين،
فعلمنا ان الاجسام قد استضاءت بضوء فارقها عند الغروب، فعرفنا وجود النور بعدمه.
و ما كنا نطلع عليه لولا عدمه الا بعسر شديد، و ذلك لمشاهدتنا الاجسام متشابهة غير
مختلفة في النور و الظلام هذا مع ان النور اظهر المحسوسات، اذ به تدرك سائر
المحسوسات، فما هو ظاهر في نفسه مظهر لغيره انظر كيف استبهم امره بسبب
ظهوره لو لا طريان ضده، فاذن واجب الوجود لذاته هو اظهر الاشياء، و به ظهرت
الاشياء كلها، و لو كان له عدم او غيبة او تغير، لانهدت السماوات و الارض، و
بطل الملك و الملكوت، و ادركت التفرقة بين الحالتين، و لو كان بعض الاشياء
موجودا به، و بعضها موجودا بغيره، لادركت التفرقة بين الشيئين في الدلالة، و لكن
دلالته عامة في الاشياء على نسق واحد، و وجوده دائم في الاحوال يستحيل خلافه، فلا
جرم اورثت شدة ظهوره خفاء كما قيل:

خفي لافراط الظهور تعرضت
لادراكه ابصار قوم اخافش
و حظ عيون الزرق من نور وجهه
لشدته حظ العيون العوامش

قال امير المؤمنين (ع) : «لم تحط به الاوهام، بل تجلى لها بها، و بها امتنع منها» .
و قال (ع) : «ظاهر في غيب، و غائب في ظهور» . و قال (ع) :

«لا تجنه البطون عن الظهور، و لا تقطعه الظهور عن البطون، قرب فناى، و علا فدنا،
و ظهر فبطن، و بطن فعلن، و دان و لم يدن » : اي ظهر و غلب و لم يغلب. و من هناك قيل:
«عرفت الله بجمعه بين الاضداد» .

فصل


(علائم محبة الله)


محبة العبد لله-سبحانه-له علامات:

الاولى-ان يحب لقاءه بطريق المشاهدة و العيان في دار السلام، و لتوقفه على
الموت يحب الموت و يتمنيه، اذ كل من يحب شيئا يحب لقاءه و وصله، و اذا علم انه
يمتنع الوصول اليه الا بالارتحال من الدنيا بالموت لاحب الموت لا محالة، و
كيف يثقل على المحب ان يسافر من وطنه الى مستقر محبوبه ليتنعم بمشاهدته، و لذا
قال (حذيفة) عند موته: «حبيب جاء على فاقة، لا افلح اليوم من ندم » . قال بعض الاكابر:
«لا يكره الموت الا مريب، لان الحبيب لا يكره لقاء الحبيب على كل حال » .

ثم من يكره الموت، فان كانت كراهته له لحب الدنيا و التاسف على فراق الاهل و
الاولاد و الاموال، و كان حبه للدنيا و تاسفه على مفارقتها في غاية الكمال، بحيث
لم يحب الموت و لم يسر قلبه اصلا بما يترتب عليه من لقاء الله -تعالى-، و لم يجد
فى قلبه شوقا اليه مطلقا، فلا ريب في كون مثل هذه الكراهة منافيا لاصل الحب، و لو
لم يكن حبه للدنيا في غاية الكمال، بحيث لم يجد في قلبه ميلا الى ما يترتب على
الموت من لقاء الله، بل كان محبا للدنيا الا انه كان له شوق الى لقاء
الله-تعالى-ايضا، او كان لذلك كراهته للموت ضعيفة، فمثل هذا الحب للدنيا ينافي
كمال حب الله، لان الحب الكامل هو الذي يستغرق كل القلب، و لا يبعد ان تكون معه
شائبة ضعيفة من حب الله، فان الناس متفاوتون في حب الله، فمنهم من يحبه بكل قلبه، و
منهم من لا يحبه بكل قلبه، بل يحب معه غيره ايضا من الاهل و الولد و المال، فلا جرم
يكون فرحه بلقاء الله عند القدوم عليه على قدر حبه و كراهته لفراق الدنيا عند الموت
على قدر حبه لها، و ان كانت كراهته للموت لاجل ارادته الاستعداد و التهيؤ للقاء
الله، و مشاهدته بتحصيل زيادة العلم و العمل، لا لحب الاهل و المال، و لا للتاسف على
فراق الدنيا، فهو لا يدل ضعف الحب و لا ينافي اصله، و هو كالمحب الذي وصل اليه خبر
قدوم حبيبه، فاحب ان يتاخر قدومه ساعة ليعمر داره و يفرشها و يهي ء اسبابها،
ليلقاه فارغ القلب عن الشواغل، و علامة ذلك: الجد في العمل، و استغراق الهم في
تحصيل المعرفة، و الاستعداد للآخرة الثانية-ان يؤثر مراد الله-سبحانه-على مراده،
اذ المحب لا يخالف هوى محبوبه لهوى نفسه، كما قيل:

اريد وصاله و يريد هجرى
فاترك ما اريد لما يريد

فمن كان محبا لله، يمتثل اوامره و يجتنب نواهيه، و يحترز عن اتباع
الشهوات، و يدع الكسالة و البطالة، و لا يزال مواظبا على طاعته و انقياده، و يكون
مبتهجا متنعما بالطاعة و لا يشغلها، و يسقط عنه تعبها، و قد روى:

«ان زليخا لما آمنت، و تزوج بها يوسف (ع) ، انفردت عنه، و تخلت للعبادة، و انقطعت
الى الله-تعالى-، و كان يوسف يدعوها الى فراشه نهارا فتدافعه الى الليل، و
اذا دعاها ليلا سوفت الى النهار، فعاتبها في ذلك، فقالت: يا رسول الله! انما
كنت احبك قبل ان اعرف ربك، فاما اذ عرفته فلا اؤثر على محبته محبة من سواه،
و ما اريد به بدلا» . ثم الحق ان العصيان يضاد كمال المحبة لا اصلها، و لذا قد ياكل
الرجل المريض ما يضره و يزيد في مرضه مع انه يحب نفسه، و يحب صحته، و السبب ضعف
المعرفة، و غلبة الشهوة، فيعجز عن القيام بحق المحبة.

الثالثة-الا يغفل عن ذكر الله-سبحانه-، بل يكون دائما مستهترا بذكره، اذ من
احب شيئا اكثر ضرورة ذكره و ذكر ما يتعلق به، فمحب الله لا يخلو عن ذكر الله و
ذكر رسوله و ذكر القرآن و تلاوته، لانه كلامه، و يكون محبا للخلوة ليتفرد بذكره و
بمناجاته، و يكون له كمال الانس و الالتذاذ بمناجاته، و في اخبار داود: «كذب
من ادعى محبتى و اذا جنه الليل نام عني، اليس كل محب يحب لقاء حبيبه؟ فها
اناذا موجود لمن طلبني » .

الرابعة-الا يحزن و لا يتالم عن فقد شي ء، و لا يفرح بوجود شي ء، سوى ما يقربه الى الله
او يبعده عنه: فلا ينبغي ان يحزن و يجزع في المصائب و لا يسر بنيل المقاصد الدنيوية، و
لا يتاسف على ما يفوته الا على ما فات منه من طاعة مقربة الى محبوبه، او على
صدور معصية مبعدة، او على ساعة خلت عن ذكر الله و الانس به.

الخامسة-ان يكون مشفقا رؤفا على عباد الله، رحيما على اوليائه، و شديدا على اعداء
الله، كارها لمن يخالفه و يعصيه، اذ مقتضى الحب الشفقة و المحبة لاحباء المحبوب
و المنسوبين اليه، و البغض لاعدائه و مخالفيه.

السادسة-ان يكون في حبه خائفا متذللا تحت سلطان العظمة و الجلال، و ليس الخوف
مضادا للحب، كما ظن، اذ ادراك العظمة يوجب الهيبة، و ادراك الجمال يوجب الحب،
و لخصوص المحبين خوف الاعراض، و خوف الحجاب، و خوف الابعاد، و خوف الوقوف، و
سلب المزيد. و قال بعض العرفاء: «من عبد الله بمحض المحبة من غير خوف هلك بالبسط
و الادلال، و من عبده من طريق الخوف من غير محبة انقطع عنه بالبعد و الاستيحاش، و
من عبده من طريقهما احبه الله، فقربه و مكنه و علمه » .

السابعة-كتمان الحب و الشوق من اظهاره و من اظهار الوجد و اجتناب الدعوى،
تعظيما للمحبوب و اجلالا له، و هيبة منه و غيرة على سره، فان الحب سر من اسرار
المحبوب، فلا ينبغى افشاؤه، و لانه ربما يدخل في الدعوى ما يجاوز حد الواقع،
فيكون من الافتراء، و تعظم به العقوبة في العقبى و البلية في الدنيا. نعم، ربما
غشيته سكرة في حبه، حتى يدهش فيها، و تضطرب احواله، فيظهر عليه حبه من دون
اختيار و تمحل. فمثله معذور، لانه تحت سلطان المحبة مقهور، و من عرف ان حصول
حقيقة المعرفة و المحبة التى تنبغى ان تكون في حق الله يستحيل ان يحصل لاحد، و ان
يطلع على ما اعترف عظماء الانسان-اعنى الانبياء و الاولياء-من العجز و القصور،
و ان صنفا واحدا من الاصناف الغير المتناهية من ملائكته ملائكة بعدد جميع ما خلق
الله من شى ء، هم اهل المحبة لله، ما خطر على قلوبهم مذ خلقهم الله-و هو ثلاث مائة الف
سنة قبل خلق العالم-سوى الله -سبحانه-، و ما ذكروا غيره، لاستحبى منه حق الحياء ان
يعد ما عليه من المعرفة و المحبة معرفة و محبة، و خرس لسانه عن التظاهر بالدعوى.
و روى في بعض الاخبار: «ان بعض اهل الله سال بعض الصديقين ان يسال الله
-تعالى-ان يعطيه ذرة من معرفته، ففعل ذلك، فحار عقله، و ذهل لبه، و وله قلبه، و
هام في الجبال، و بقى شاخصا سبعة ايام، لا ينتفع بشى ء و لا ينتفع به شي ء، فسال له
الصديق ربه ان ينقص بعض الذرة من المعرفة التي اعطاه، فاوحى الله-تعالى-اليه:
(انا اعطيناه جزءا من مائة الف جزء من ذرة من المعرفة، و ذلك ان مائة الف عبد
سالونى شيئا من المحبة في الوقت الذي سالنى هذا، فاخرت اجابتهم الى ان شفعت
انت لهذا، فلما اجبتك فيما سالت اعطيتهم كما اعطيته، فقسمت ذرة من
المعرفة بين مائة الف عبد، فهذا ما اصابه من ذلك) . فقال: سبحانك سبحانك!

اقتصه مما اعطيته، فاذهب الله عنه جملة ما اعطاه، و ابقى فيه عشر معشاره و هو
جزء من عشرة آلاف جزء من مائه الف جزء من ذرة، فاعتدل خوفه و حبه و رجاؤه، و سكن، و
صار كسائر الكمل من العارفين » (17) .

و الحق ان حقائق الصفات الالهية اجل و اعظم من ادراك العقول البشرية، و لا تطيق
احد من الكمل ان يتحمل لفهم جزء من الاجزاء الغير المتناهية منها، فالوصول الى
ما عليه الحضرة الربوبية من العظمة و الجلال و سائر صفات الكمال في حين المحال،
(و ما قيل او يقال فيه) و هم او خيال، فاين يحصل لاحد ما يليق به من المعرفة و
المخبة؟ فلو امكن ان تدخل امثال هذه العوالم المخلوقة من السماوات و الارضين و
ما فوقهما و اضعافهما بقدر غير متناه في جوف خردلة، لامكن ان تدخل في اعظم العقول
ذرة من عظمته و جلاله، و غاية المعرفة ان يعرف عظمته و قدرته و جلاله و عزته و سائر
اوصافه الكمالية بامثال هذه العنوانات و التمثيلات، و هى ايضا لو ضوعفت الى
غير النهاية في ازمنة غير متناهية، لكانت بيانات قاصرة، بل و همية خيالية، فسبحان
من لا سبيل الى معرفته الا بالعجز عن معرفته!

و من علامات المحبة الانس و الرضا-كما ياتى-. و قد جمع بعض العارفين علامات
المحب في ابيات، فقال:

لا تخد عن فللمحب دلائل
و لديه من تحف الحبيب وسائل
منها تنعمه بمر بلائه
و سروره في كل ما هو فاعل
فالمنع منه عطية مقبولة
و الفقر اكرام و بر عاجل
و من الدلائل ان ترى من عزمه
طوع الحبيب و ان الح العاذل
و من الدلائل ان يرى متبسما
و القلب فيه من الحبيب بلابل
و من الدلائل ان يرى متفهما
لكلام من يحظى لديه سائل
و من الدلائل ان يرى متقشفا
متحفظا عن كل ما هو قائل
و من الدلائل ان تراه مشمرا
في خرقتين على شطوط الساحل
و من الدلائل حزنه و نحيبه
خوف الظلام فما له من عاذل
و من الدلائل ان تراه باكيا
ان قد رآه على قبيح فاعل
و من الدلائل ان تراه راضيا
بمليكه في كل حكم نازل
و من الدلائل زهده فيما ترى
من دار ذل و النعيم الزائل
و من الدلائل ان تراه مسلما
كل الامور الى المليك العادل
و من الدلائل ضحكه بين الورى
و القلب محزون كقلب الثاكل
و من الدلائل ان تراه مسافرا
نحو الجهاد و كل فعل فاضل

1) المائدة، الآية: 57.

2) البقرة، الآية: 165.

3) التوبة، الآية: 25.

4) لم نعثر على مصدر لهذه الرواية في كتب اصحابنا الامامية-رضوان الله عليهم-.

5) صححنا فقرات المناجاة الانجيلية و المناجاة الاخرى على (البحار) باب ادعية
المناجاة: مج 19 107-114، ط امين الضرب.

6) صححنا الاحاديث الثلاثة على (مصباح الشريعة) -الباب السابع و التسعون، ص 193.

7) الغلمة-وزان غرفة-: شدة الشهوة. و غلم غلما: من باب تعب، اذا اشتد شبقه. المغتلم:
المنقاد للشهوة.

8) كرع-من باب نفع-: هو الشرب بفيه من موضعه.

9) الانعام، الآية: 132، الاحقاف، الآية: 19.

10) السجدة، الآية: 17.

11) صححنا الاحاديث كلها على (اصول الكافي) : الجزء الاول، باب ابطال الرؤية. و
على (الوافي) : 1 69، باب ابطال الرؤية.

12) صححنا فقرات دعاء عرفة على (مفاتيح الجنان) : ص 272-274، طبعة الكراوري.

13) الانعام، الآية: 91.

14) فصلت، الآية: 53.

15) الكهف، الآية: 110.

16) النور، الآية: 35.

17) صححنا الرواية على (احياء العلوم) : 4 288.

/ 20